المنبرالحر

أزمات المجتمعات العربية ثقافية في جوهرها / سعيد مضية

تضطلع الثقافة الوطنية بشرف تحويل الناس إلى فاعلين إيجابيين في مجتمعهم وصناع التحرر والديمقراطية والتغيير الاجتماعي ضمن اطر ديمقراطية التنظيم الجماهيري. يعترض النهوض بالمهمة واقع جمود الثقافة وتكلسها بتأثير التباسات السياسات العربية، وكذلك الأمية المنتشرة، حيث الأمي محروم من المشاركة في السياسة وتستهويه الإشاعات بديلا للمعرفة.
المجتمعات العربية مأزومة بإشكالات محلية بقيت قرونا متتالية ركائز تخلف ووهن، أغرت قوى الهيمنة بانتهاك سيادتها، فغدت مراتع لهيمنة الليبرالية الجديدة المتحالفة مع إسرائيل. أطبقت الليبرالية الجديدة على البلدان العربية منذ سبعينات القرن الماضي، وضد النتائج الكارثية لهيمنتها اندلعت الانتفاضات الشعبية في العقد الثاني من القرن الحالي. لم تتخل عن أطماع الهيمنة، بل ردت بثورة مضادة. يجري حاليا صراع بين الثورة والثورة المضادة يغلف بربيع او خريف!
النظم أبوية المتمترسة منذ قرون، اجهضت النهضة التنويرية وعملت ركيزة للسيطرة الكولنيالية ووكيلة لليبرالية الجديدة والثورة المضادة. احتضنت العصبيات الطائفية وغذت نزوعها الماضوي. النظام الأبوي احتكر الإشراف على التربية والإعلام وسخرهما لتعزيز إشكالات التحديث في الحياة الاجتماعية: إشكال الثقافة و الهدر الاجتماعي وإشكال الثقافة والتدين الشعبوي، ثم إشكال الثقافة والتعليم. تشكل بالنتيجة مناخ ملوث للوعي الاجتماعي العربي، أشاع الفساد والإفساد وولد مصدات تمنع مرور الأفكار المخصبة للعقل المحفزة على التغيير.
إن بناء البشر وإنضاج قدراتهم المتنوعة هما معياران أساسيان للنماء يفوقان من حيث الأهمية الثروات المطمورة وقوة السلاح.
بزغ مع الليبرالية الجديدة ذيولها، محافظون جدد وعولمة وخصخصة وثقافة منحطة تقلب الحقائق وتزيف الوقائع وتنشر الوعي الزائف. حركة المحافظين الجدد تنادي بان الولايات المتحدة وإسرائيل "حليفان في معركة لن تنتهي قط يخوضها الأخيار ضد الشر". أفرز تسلط المحافظين الجدد ثقافة العنف والقسوة وتوجهات تدمير إنسانية البشر والتخلص من مجموعات بشرية ضخمة باعتبارها زائدة عن الحاجة ( حاجة الاستغلال الرأسمالي). صاغ الأكاديمي الأميركي،هنري غيروكس مفهوم رأسمالية الكازينو يعري تنكر الليبرالية الجديدة لمنظومة القيم الإنسانية، وأهمها التعاطف والتضامن والتكافل. بموجب نظرية الكازينو بات العاطلون عن العمل زائدون عن الحاجة او نفايات بشرية، وكانوا في السابق مظهر ازمة اجتماعية.
في هذه المناخات تسلم الليكوديون سدة الحكم في إسرائيل، وشرعوا يسخرون سياساتهم لإشاعة ثقافة الفاشية بين الجمهور اليهودي. خلافا لحزب العمل الذي كان رائد التطهير العرقي ونهج الاستيطان بينما يضمر المنحى العنصري نفاقا لحركة الاشتراكية الديمقراطية، واصل الليكود نفس النهج العنصري مقترنا بتحريض عنصري يشيع الكراهية والازدراء ضد العرب والفلسطينيين . تواترت تعبئة الجمهور اليهودي بعنصرية فاشية وجهر بتحدي العرب في أحقية تملك فلسطين . تصاعدت موجة الاستيطان في الأراضي العربية وتهويد مدينة القدس الشرقية.
المفارقة أن تصاعد واتساع السياسات العنصرية ودعوات التطهير العرقي في إسرائيل تزامن مع معطيات علمية قوضت الرواية الصهيونية.، دليل على انيميا ثقافية رفعت الراية البيضاء.
صدر عام 1978 مؤلف أرثور كوستلر"القبيلة الثالثة عشرة" أورد فيه أن "الأغلبية الكبرى من اليهود في العالم كله جاء أجدادهم من نهر الفولغا، وليس من أرض كنعان ". واخذت تتراكم في ثمانينات القرن مكتشفات آركيولوجية تمردت تباعا على التوراة وصدرت بشأنها مؤلفات اكتسبت المصداقية العلمية، ووصمت بالخرافة مواد التوراة، خاصة ما يتعلق بتاريخ فلسطين. اجمل البروفيسور كيث وايتلام عام 1996حصاد الاكتشافات المتواترة عبر عقدين، وذلك في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة شطب التاريخ الفلسطيني"، الصادر مترجما للعربية عام 1999 ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية. قدر الباحث وايتلام عاليا الجهود التأريخية لعالم الآثار الفرنسي توماس طومسون، كما توضحت في كتابه الصادر عام 1992بعنوان "التاريخ المبكر لشعب إسرائيل من المصادر الآركيولوجية". اورد طومسون في مؤلفه ان مجموع التاريخ الغربي لإسرائيل والإسرائيليين يستند إلى قصص من العهد القديم تستند إلى الخيال".
ما السر وراء هذه المفارقة الغرائبية؟
ثقافة المحافظين الجدد، حلفاء إسرائيل "ضد الشر"، اخمدت جذوة لثقافة التقدمية وأنعشت سلفية جرفت الوعي الاجتماعي وجمدت القوة الاجتماعية للتغيير؛ فأورثت الثقافة العربية انيميا حادة، سهلت تمرير مؤامرة الصمت بصد فضيحة تهافت الفكر الصهيوني. في بياتها الشتوي لم تستوعب الثقافة العربية معطيات الاكتشافات الجديدة ولا استرشد بها السياسيون العرب. بل إن مثقفين عرب موصوفين بسعة الاطلاع ومتابعة المستجدات الفكرية واصلوا اعتماد خرافات التوراة حقائق، واستمر إدراجها في مناهج التدريس العربية.
أسفرت أنيميا الثقافة في العالم العربي عن عزلة المقاومة الفلسطينية عن بعدها الاستراتيجي. صمتت الأنظمة عن هجوم إسرائيل الاستيطاني بفلسطين وتجاهلت دعوات التهجير والتطهير العرقي.
شجع الركود السياسي إسرائيل على مضاعفة الجهود لتصدير الأزمات داخل أقطار عربية عدة وناهضت بمكائدها التوجهات الديمقراطية في كل بلد عربي.في الحقيقة أشهرت إسرائيل العداء للأقطار العربية كافة، وورطتها، بالتعاون مع الليبرالية الجديدة، في صراعات طائفية. أكد غاريكاي تشينغو ، العلا مة والباحث بحامعة هارفارد أن داعش والقاعدة نتاج المخابرات الغربية وإسرائيل". واضاف أن"الحرب الباردة هي المناسبة الأولى لاصطفاف وكالة المخابرات المركزية الأميركية مع الإسلام المتطرف".
يدعم ما ذهب إليه البروفيسور تشينغو وثائق تتعلق بتأجيج النزاعات العرقية في الشرق الأوسط قدمها استراتيجيون من أميركا وإسرائيل ودول الغرب.
يقتضي كسر موجة التدخلات الأجنبية تسريع خطوات التحديث الثقافي عبر مقاربة الاشكالات الثلاث مجتمعة ومتداخلة كي تفلح المجتمعات العربية في تفكيك القيود المانعة لتقدمها، وتنطلق في دروب التحرر والديمقراطية والتنمية. في ذاك رافد للمقاومة الفلسطينية، يصلها ببعدها الاستراتيجي.
لوقف التدهور ونزف الطاقات لا بد من الاسترشاد بمشروع ثقافي للنهوض الوطني والقومي ينحو منحى ديمقراطيا ويستهدف إقامة تمثيل شعبي تعددي يتم فيه تبادل الحكم. وبقدر تغلغل قيم الثقافة الوطنية الديمقراطية في عروق المجتمعات يتم حشد طاقات الجماهير وتعبئة الكتل البشرية في النضال التقدمي.
المناضلون من اجل التقدم الاجتماعي يتميزون بقدر وافر من الذكاء الاجتماعي، وهو طاقة ذاتية للتفاعل مع الآخرين والتعاطف والتجاوب والتعاون المشترك.
الذكاء الاجتماعي مصد لدعوات التصحر الوجداني التي تروجها ثقافة الليبرالية والدفاع عن إنسانية البشر. ليس من فرد يعتبر نفسه إنسانا لا يساعد بحماس الآخرين على تفهم عالمهم وإدراك الضرورات اللازمة لتغيير واقع استلاب الإنسان وهدر كرامته وعقله وإرادته.
من شان هذا الفهم لدور ثقافة التغيير الديمقراطي ان ينسف الأسس التي تقوم عليها السلفية الدينية، هذا التوجه الماضوي والأمية الدينية التي واءمت وعي الكتل الشعبية الغفيرة مع نداء داعش. الآثار السلبية للتيار الديني لا تلغي الأثر الإيجابي للدين في الحياة الاجتماعية. ليس من توجه ديمقراطي أو شجاعة فكرية إلقاء تبعة فشلنا وخيبتنا على الدين. فهذا ما تردده على مدار الساعة دعاية الليبرالية الجديدة، الأجنبية والعربية.
قدمت تجربة الفقه العقلاني طوال مائتي عام قبل انتصار السلفية عام 232 هجرية ضوءا أطفئ طوال العصر الوسيط؛ ثم بعثته للحياة النظرة العلمية للتراث والفقه المستنير. إذ بعد غياب صاحب الرسالة طفق علم الكلام يناقش المتشابه من آيات القرآن، مستعينا بفقه اللغة. انطلق علماء الكلام من إيمانهم بحدانية الله (ليس كمثله شيء) ومن الإيمان بعدالته وتنزيهه عن الظلم والأمر بالمنكر. اتفق علم الكلام غير المرتبط بالحكم على عدم وجود ما لا يوافق طريقة العقل في نصوص القرآن الكريم، وعلى ان الشريعة مؤكدة لما في العقول ومتفقة معه. وحيال سطوة ثقافة الاستبداد ومقولة الفرقة الناجية مقابل الفرق الهالكة، تبخرالتسامح وحظر على حوار الآراء.
في العصر الحديث لم يغفل فقهاء الاستنارة التأثير الإيجابي للدين على الحياة الاجتماعية ، ثقافيا واقتصاديا وسياسيا. التقطوا من الدين رسالته الإنسانية ودعوته لمكارم الأخلاق وللتكافل الاجتماعي والعدالة. جوهر الدين طاقة روحية هائلة يمكن توظيفها فى النهوض بالحاضر والمستقبل. والفهم العقلاني للدين مشروط بترقي العقل الجمعي حَكَما في حل الإشكالات الاجتماعية. وهذا مقرون بحل إشكال الثقافة والتعليم، وترقية مناهج التعليم الديني، بحيث تحترم العقول . يقتضي تحديث التعليم تحويله مجالا ديمقراطيا عاما، وترقيته إلى افق العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية.
إن بناء البشر وإنضاج قدراتهم المتنوعة هما معياران أساسيان للنماء يفوقان من حيث الأهمية الثروات المطمورة وقوة السلاح.
لوقف التدهور ونزف الطاقات لا بد من الاسترشاد بمشروع ثقافي للنهوض الوطني والقومي ينحو منحى ديمقراطيا ويستهدف إقامة تمثيل شعبي تعددي يتم فيه تبادل الحكم. وبقدر تغلغل قيم الثقافة الوطنية الديمقراطية في عروق المجتمعات يتم حشد طاقات الجماهير وتعبئة الكتل البشرية في النضال التقدمي.
عقد بمبادرة من جمعية فؤاد نصار للتنمية الثقافية يومي23 و24 آذار 2014 مؤتمر "نحو تعليم عصري في فلسطين" شارك فيه تربويون وأكاديميون، منهم من قدم من فلسطين المحتلة عام 1948 ومن مدينة القدس الشرقية. قدمت معلمات ومعلمون شهاداتهم حول تجاربهم ومعاناتهم. صدر عن المؤتمر بيان أجمل الطروحات الواردة في الأوراق استهل به كتاب حمل نفس العنوان وتضمن جميع أوراق المؤتمر. أجمع المؤتمرون على ان التربية أداة اجتماعية وجزء عضوي من النظام السياسي ليس من اختصاص المربين وحدهم. وتحديث التعليم احد مهام التغيير الديمقراطي.
شهّر البيان اولا بعنصرية المنهاج التعليمي المفروض من قبل إسرائيل في القدس الشرقية والوسط الفلسطيني خلف الخط الأخضر، مسلطا الضوء على أن الصهيونية و دولة إسرائيل لا تقبلان التعايش مع شعب فلسطين ولا مع المحيط العربي. فالمنهاج التعليمي يهدف طمس الهوية القومية وصهينة الوعي الاجتماعي وتزييف التاريخ القومي وتشويهه. وإسرائيل بذلك تنتهك ميثاق الأمم المتحدة واتفاقية جنيف والميثاق الدولي لحقوق الإنسان وتقترف جرائم حرب.
وبصدد القضايا العامة للتربية والتعليم أقر المؤتمر ان من مظاهر تخلف المجتمع الفلسطيني فصم علاقة التعليم بالثقافة. الفريضة الغائبة للتربية في فلسطين عقلنة التحدي للاحتلال. فمن عوامل النكسات المتلاحقة للنضال الفلسطيني فشل التعليم في تربية التفكير والعقلانية بحيث أفسح المجال للانفعالية والنزق لدى مقاربة القضايا الوطنية والاجتماعية ولدى مقارعة العدوان الإسرائيلي المتواتر. وليس بغير الحداثة والعقل العلمي المبدع والنقدي يمكن إنجاز مهام تصفية الاحتلال الإسرائيلي.
يسهم التفكير العلمي في تعزيز مناعة الهوية الثقافية. غدت وظيفة التربية في برامج التحرر الإنساني تكوين عقل مبدع باتجاه تنظيم مجتمع متجدد في عالم متجدد. والعطب القابع في ثنايا عملية التربية وتنتقل عدواه يجسده تعريض المعلم للاستلاب والهدر، وإخضاعه لعلاقة سلطوية بيروقراطية، فلم يترك له سوى القيام بوظيفة نقل التوجه السلطوي إلى الأجيال الناشئة وفرض ثقافة التسلط الأبوي، وتطويع الأجيال لسلطة الحاكم المستبد.
وهذا يرقى بثقافة المقاومة إلى الاستثمار في تربية التفكير والإبداع لدى الأجيال.
لفت المؤتمر إلى الوصايا التربوية التي وجهها للمدرسين العلّامة التربوي خليل السكاكيني، فهي تحتفظ بأهمية مستدامة عبر تبدل المراحل:... إفهموا التلميذ، إنه من الهيئة الاجتماعية وإنه شيء له قيمته ومكانته. أيها المدرس احترم التلميذ ناده يا سيد، إياك أن تجعله يقف أمامك وقفة الخاضع الضعيف، أشعر التلميذ بأنك عادل، وانفخ فيه من روح الرجولة ما يجعله عاملا في المستقبل، ليست وظيفتك أيها المعلم أن تخرج للأمة دراويش مطأطئي الرؤوس! إياك أن تكون شديد المراقبة على التلميذ، أشعره بأنك تثق به وبشرفه. غض الطرف إن ظهر منه أي شيء! لا تقل له أنت كاذب، صدقه ولو كان كاذبا". كذلك وصيته بتعليم "يترك الطالب يربي نفسه بنفسه ويعلم نفسه بنفسه، ويحل مشاكله بنفسه، فلا يلغي شخصية التلميذ إذ يلُزمه بالحفظ والنقل والتقليد".
الاستثمار في العقول أغزر الاستثمارات حصادا وأجزلها عطاءا للمجتمع ولقضية التقدم.
التحديث الثقافي ضرورة ملحة.