المنبرالحر

أعطوا التعليم الحكومي حقه حتى لا ينشأ تمايز طبقي / ناجي محيبس الكناني

منذ بدء العصر الأموي لم يعد الآباء المقتدرون ماليا يرسلون أولادهم الى المدارس الابتدائية "الكتاتيب " ذلك لظهور التمايز الطبقي في التعليم في العصر الاموي في اعلى درجاته، التمايز الطبقي كان في العصر العباسي، بل راحو يستأجرون لهم المعلمين " الخصوصين "وإن كانت الموضوعات التي تعلم في البيت هي نفس الموضوعات التي كانت تدرس في المدرسة العامة " الكتاتيب".
ان التمايز الطبقي أدى الى تصنيف المعلمين الى ثلاث طبقات اجتماعية مميزة هي معلموا الكتاتيب الذين كانوا يعنون بتعليم ابناء الطبقات المتوسطة وكانوا يمثلون أوطأ درجات السلم المهني ثقافيا، واقتصاديا، واجتماعيا، والمؤدبين هم معلمو الطبقات العليا في المجتمع، الأمراء والوزراء والأغنياء، اما كبار المؤدبين هم معلموا ابناء الخلفاء، وولاة العهد وهم من الاعلام في الثقافة العربية الإسلامية، فكانوا يعلمونهم القرآن والسنة وكلام الملوك، والعلماء، والحكماء، وعلوم الأمم السالفة، وكانوا يمثلون ذروة المهنية التعليمية، وكان منهم لا الحصر، سيبويه، والكسائي، والاصمعي .
ان تأثير هذا التمايز بين المعلمين في تلك الحقبة الزمنية التي تمايزت فيها اهداف التعليم وبرامجه تبعا للمنزلة الاجتماعية، على أيدي المؤدبين الذي يشمل الأدب، والحكمة، وتفسير الكلام، والشعر، والتاريخ، والمنطق، والفلسفة، وقد تميز ابناء الخلفاء وولاة العهد عن غيرهم بدرجة عالية من التعقيد في المنهج، والهدف نظرا للمستويات الاجتماعية والسياسية وكان الخلفاء، والولاة يوصون كبار المؤدبين بهذا النوع من التعليم أي على التربية الارستقراطية .
أوصى الخليفة هرون الرشيد الكسائي مؤدب ابنه قائلا له: " عرفه الآثار وتاريخ الامم، روه الشعر، علمه السنن، بصره مواقع الكلام، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة، ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه " .
ان هذا التمايز الطبقي أدى الى انفجار الفتن بين الطبقات الاجتماعية المضطربة، وازدياد درجة العنف والبطش في بغداد، وبالرغم من أن هذا الاستياء في هذه الحقبة الزمنية يدل على أن المجتمع العراقي مجتمعا "ديناميكيا " وإن التيارات الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية كانت تعمل بنشاط وراء البريق الذي يظهر في ترف الطبقة " البرجوازية " فالطبقة العاملة لم تقبل بظروفها التعسة والبعض منهم انظموا الى حركات ثورية، كحركة القرامطة، وثورة الزلج، والبعض الآخر تحركوا بطرق سليمة فكونوا الجمعيات، والنقابات، فكانت الجماعة الأولى من الفلاحين والعبيد، والثانية من الصناع والحرفيين .
ان الاضطراب السياسي والاجتماعي إنعكس على العلماء والمربين أنفسهم، على الرغم من انهم منسجمين مع بعضهم في الاهداف الدينية والتربوية، لكنهم إختلفوا في معنى العلم، فالإمام الغزالي يؤكد على حصر غاية المتعلم ليحصل على العلم النافع، مع اجتناب العلوم التي يقل نفعها، ويكثر فيها الجدال، ويشدد على وجوب تقوية اليقين، ثم إنه يعلن جهرة للعقول الشابه في كتابه {ايها الولد } أي شيء إستفدته من تحصيلك لعلم الكلام، والمنطق،والطب، والأشعار، والفلك، والدواوين، غير تضييع العمر ...
ومنهم من يقول ان المراد بالعلم هو العلم المحتاج اليه، الموصل الى النفع في المال، وهو وسيلة الانسان الى السعادة فقط .. وإخوان الصفا يمازجون بين الفكر الديني والنظرة الى الفلسفة في معنى العلم، فيقولون إن المعرفة كلها مكتسبة، واصل اكتسابها الحواس أي انها عملية تذكر وعندما يتعلم الانسان فكأنه يتعلم شيئا قديما مألوفا لديه .
لا تخفى على المختصين بالتاريخ الاسلامي صورة التمايز الطبقي الذي تفشى في العصر العباسي، والذي أدى بدوره الى التمايز بين المعلمين انفسهم وبين أهدافهم التربوية، والعلمية، والتوجهات السياسية والاجتماعية التي لم يكن منها مهرب ولا عنها محيص بين أبناء المجتمع الواحد حتى شاع أنذاك ان الناس اربع طبقات اجتماعية التي أقلقت كيان الدولة العباسية حتى كان سببا في انتشار المدارس العامة في زمن الخليفة"المأمون"، وتعهد بتمويلها ونشر المدارس في مناطق بغداد، أما المعاهد العليا فجعلها للبحث والإبداع والابتكار وربطها ب " دار الحكمة " التي تسمى اليوم ب الأكاديمية، فساهم هذا النشاط في إذابة التعليم الخاص تدريجيا في المدارس الحكومية من اجل إيصال الوعي العلمي، والأدبي والتربوي الى أبعد مدى ومكان في بغداد .
الآن بعد صدور قانون رقم (50) أخذت المدارس الأهلية بالانتشار عاما بعد آخر لاستقطاب الطلبة الميسورين ووضع القانون ضوابط تنظم الدراسة في المدارس الاهلية وبموجب شروط لإجازة طالب الإجازة تشمل التعليمية، والصحية، وان تكون بناية المدرسة مطابقة للشروط واعداد التلاميذ والطلبة في كل غرفة لا يزيد عن خمسة وعشرين تلميذا، أما المدارس الحكومية فهي غير مطابقة للشروط التي وضعها القانون مما أدى الى التفاوت الكبير في نسب النجاح بين القطاعين الحكومي والاهلي .
كل ذلك دعا أولياء الأمور إلى إرسال أولادهم وبناتهم الى المدارس الاهلية على الرغم من التكاليف المالية الباهضة التي لا تستطيع دفعها إلا الطبقات الاجتماعية الميسورة، فأدى هذا التفاوت الى ترسيخ التمايز بين الكوادر التعليمية للقطاعين التعليميين وبين الطلبة على اساس طبقي تبعا للمنزلة الاجتماعية والاقتصادية والمناطقية .
وحتى لا يتمايز ابناء المجتمع الواحد من طلبة وكوادر تعليمية، على الدولة ان تعطي الاهمية القصوى للتعليم الحكومي والارتقاء به الى المستوى المطلوب.
ومن اجل التخلص من ظاهرة التمايز الكبير في التقدم العلمي ونسب النجاح، ومن أهم محفزات نهوض التعليم في القطاع العام هي مغادرة نظام الدوام الثلاثي في مدارسنا، لما يسببه من إرباك في تنفيذ الخطط الدراسية، وانجاز المناهج عن طريق التوسع في بناء المدارس والسعي إلى إيجاد خطط تربوية جديدة تؤسس لنظام تربوي، وإبعاد مدارسنا عن شبح السياسة وتحويل المدارس الى ورش من المثابرة والجد، والحماس والحرص والتفاني .
المطلوب نمط ديمقراطي في إدارات المدارس ينبذ الفوضى والإرباك، ويعمل على الالتزام وحب العمل، وقيام المشرفين التربويين بدورهم الريادي في توجيه العملية التربوية وترك بصمات واضحة عند زياراتهم المدارس التي بعهدتهم، وإدخال نظام الحاسوب وعصرنة المعلومات والبرامجيات، والعمل على تطبيق حقوق الانسان في مدارسنا كافة، والعناية الفائقة بالبطاقة المدرسية وإعطائها الأهمية الكبرى لأنها وثيقة تربوية تتماشى مع الطالب في جميع مراحله، والعمل بنظام الحوافز المادية، والمعنوية بين الكوادر التعليمية والتدريسية في المدارس الحكومية، وهذا يتطلب رفع المخصصات المالية لوزارة التربية والتعليم من الميزانية السنوية، وتعطيها حقها ولا تأكله ......سؤال يطرح نفسه للجميع هل إن التعليم الأهلي في البلاد بدءا من رياض الاطفال الى الجامعات يكون ظهيرا حقيقيا للتعليم الحكومي ورديفا له، ولا يتمايز طبقيا وعلميا ومناطقيا بين ابناء المجتمع الواحد .