المنبرالحر

غياب الرعاية الحكومية للصناعة وأثره على الاقتصاد الوطني / حسام الدين الانصاري

في السنوات التي أعقبت تأسيس النظام الجمهوري في العراق وخصوصاً في أواسط السبعينات بعد تأميم النفط تمكن القطاع العام والمختلط في العراق من بناء قاعدة صناعية متسارعة توزعت جغرافياً على مختلف المحافظات من خلال التوجه نحو بناء المعامل والمنشآت الصناعية وفق أحدث التقنيات العالمية المتقدمة والخطوط الانتاجية المتطورة السائدة آنذاك والتي شملت منظومة واسعة من المنتجات التي تغطي احتياجات السوق المحلية.
وعلى أثر احتلال الكويت بدأ العد التنازلي للصناعة العراقية بسبب اختناقها بأزمات لم تتمكن من تجاوزها لإدامة تشغيل المعامل والخطوط الانتاجية وصعوبة الحصول على المواد الأولية اللازمة للانتاج ، فضلاً عن انقطاع العلاقات مع الشركات التي ساهمت في بناء تلك المعامل وخدماتها الاستشارية والتدريبية والتي توقفت عجلتها منذ بداية التسعينات وظهور عوامل التراجع والمعوقات التي أثرت الى حد كبير على الانتاج من النواحي الكمية والنوعية وقيام المصانع الحكومية باعتماد اسلوب التعاقد مع الشركات الأجنبية بطريقة الدفع الآجل مما أدى الى إغراق العراق بديون كبيرة.
وأدى هذا الواقع الذي تعاني منه الصناعة في العراق الى تدمير ما تبقى منها مع دخول قوات الاحتلال الامريكي الى العراق عام 2003 وتوقف العديد من المنشآت الصناعية عن العمل بسبب انفتاح الحدود على مصراعيها للسلع والمنتجات الاجنبية غير القياسية والتي لا تحمل شهادات وشروط المواصفات القياسية العالمية لتغرق السوق العراقية بالمنتجات الرديئة وبأسعار متدنية جذبت اليها المستهلك العراقي ، مما أدى الى ضعف الطلب على المنتوج المحلي الذي أدى بدوره الى سلسلة من الاجراءات التراجعية في مسيرة الصناعة العراقية من تعطيل الخطوط الانتاجية أو العمل الجزئي وتكدس الانتاج في مخازن الشركات المنتجة وما ترتب عنه من تراجع في قدراتها المالية.. وما تبع ذلك من تردي في النوعية وتحول المنشآت الاقتصادية الى عبأ على الاقتصاد الوطني وغياب دورها في التنمية الاقتصادية.
إن عدم وجود ستراتيجية واضحة من قبل الدولة في مجال التنمية الاقتصادية التي يتصدرها القطاع الصناعي ، وعدم جدية الدولة في رعاية هذا القطاع بشقيه العام والخاص، لا سيما القطاع الصناعي الخاص الذي يلعب دوراً أساسياً في الحياة الاقتصادية ويحتل مساحة واسعة في مجال الصناعات الصغيرة والمتوسطة كان من أهم اسباب تدهور وخراب الصناعة وتوجه مؤسسات الدولة لممارسة دور سلبي يتنافى مع وظائفها الاساسية في دعم القطاع الصناعي وذلك من خلال توجهها لزيادة مواردها المالية عن طريق فرض الرسوم والضرائب المركبة وزيادة بدلات ايجار المواقع المستأجرة من الدولة وفرض الغرامات العشوائية والمبالغة في استحداث المزيد من الأعباء المالية وضخامة اجور الخدمات والوقود والكهرباء التي يتكبدها ومن دون أية استثناءات لهذا القطاع الانتاجي، الامر الذي جعل المؤسسات المسؤولة عن التنمية الصناعية مؤسسات جباية وليس رعاية ودعم للقطاع الصناعي ، واصبح دورها لا يتعدى دور أية مؤسسة ضريبية لا يهمها ما تحققه المشاريع الصناعية من تراكم اقتصادي يساهم في تطوير اقتصاد البلد ، هذا فضلاً عن عدم وعي القيادات الادارية لهذه المؤسسات بأهمية القطاع الصناعي الخاص ودور رأس المال الوطني في التنمية بسبب تعامل الادارات الحكومية بأساليب بيروقراطية مع الصناعيين ، اضافة الى المعوقات التي تضعها ظاهرة الفساد الاداري والضغوط التي يتعرض لها هذا القطاع من قبل العناصر المسيئة التي تعمل على ابتزاز الصناعيين ، وعلى عكس ما يجري في بعض الدول المجاورة التي أعطت نتائج طيبة في مجال التنمية الصناعية وزيادة صادراتها الى الاسواق الخارجية بسبب اعطاء قدر من الرعاية والدعم لصناعاتها الوطنية وصيانة حقوق الصناعيين وتشجيعهم ، الامر الذي وفر لهم المناخ الاستثماري المشجع والدعم والتسهيلات التي تقدمها المؤسسات الحكومية لتعزيز الاقتصاد الوطني وتوفير العملات الصعبة وعملية التراكم الاقتصادي.
وقد انتكس القطاع الصناعي في العراق بشكل مباشر بعد الاحتلال الامريكي لأسباب تتعلق بقلة التخصيصات وشحة الاستثمارات فيه وتعثر الانتاج نتيجة الخلل الذي أصاب الهياكل التنظيمية لمؤسسات الدولة الانتاجية وانفتاح السوق العراقية بصورة عشوائية على السلع المستوردة التي عطلت الانتاج الوطني بشقيه العام والخاص بسبب المنافسة غير المتكافئة واتباع سياسة التمويل الذاتي من قبل الشركات الحكومية التي تزامنت مع انحسار دور القطاع الصناعي العام في قدراته المالية ، رغم عدم تأثير وضغط القطاع الخاص على ميزانية الدولة لاعتماده على موارده الذاتية ، والذي يفترض ان يكون بعيداً عن التأثيرات السلبية للاجهزة الحكومية التي تتحكم بمقدرات القطاع الصناعي العام، خاصة وأنه قادر على ان يلعب دوراً فعّالاً في الحياة الاقتصادية للتعويض عن الفراغ الذي يتركه القطاع العام في الوقت الذي يلاحظ بأن جهود المؤسسات الحكومية المسؤولة عن دعم وتنمية هذا القطاع تمضي في الاتجاه المعاكس من خلال تركيز اهتمامها على زيادة مواردها المالية على حسابه والامعان في عرقلة دوره الاقتصادي في التنمية وعملية التراكم الاقتصادي من خلال فرض الاعباء المالية والتي يمكن ان يكون هناك مبرراً من فرض بعضها في حالة تقديم الدعم والتسهيلات من قبلها.
ونتيجة لهذه السياسة التي تتبعها الاجهزة الحكومية في ادارة شؤون الصناعة رغم اعلانها عن الرغبة في جذب وتوظيف رؤوس الاموال وتشجيع المستثمرين فإن هذا الواقع يعبّر عن هشاشة وضعف اجهزة الدولة وعدم جديتها في رسم سياسة تنموية ، وجهل المسؤولين في الاجهزة الاقتصادية من معرفة مقومات وسبل التنمية الاقتصادية ومواجهة الفساد في مفاصل الدولة. ولا بد من الاشارة الى ان التأريخ يعيد نفسه ، فقد سعت الحكومة السابقة ممثلة بوزارة الصناعة سنة 1987 على أثر حملة الاصلاح الاداري والاقتصادي التي أطلقتها آنذاك تحت عناوين كبيرة والدعوة الى الاستثمار في العراق والتي تقدم على أثرها عدد من رجال الاعمال والصناعيين من الخارج لغرض التعرف على فرص الاستثمار ، وبعد القيام بجولة لزيارة المؤسسات والدوائر الحكومية التي تتعاطى العمل في هذا المجال للتعرف على القوانين والتعليمات والاجراءات التي تحكم وتنظم فرص الاستثمار والعمل المشترك بين الحكومة والمستثمرين الاجانب ، كانت النتيجة مخيبة للآمال حين وجّه ممثل رجال الاعمال العرب المجتمعين معبراً عن رأي الوفد الذي يترأسه مخاطباً وزير الصناعة آنذاك بالحرف الواحد " في ظل طريقة وطبيعة عمل مؤسساتكم الاقتصادية المسؤولة عن ادارة شؤون التنمية الصناعية والاستثمار فلا تتوقعوا ان يجري استثمار دينار واحد من قبل أي مستثمر خارجي في بلدكم ".
ويبدو بأن هذا النهج لا زال قائماً وان العقلية التي تحكم مسيرة الاقتصاد والاستثمار وصلت الى حد الافلاس المعرفي للمسؤولين في الدوائر الحكومية المسؤولة عن ادارة اقتصاد البلد ، مما جعل رجال الاعمال والمستثمرين الخارجيين يعزفون عن التفكير بالاستثمار في العراق في عصر الانفتاح الاقتصادي المزعوم بسبب تخلف اساليب التنمية في البلد وغياب الأمان لرؤوس الاموال وتعقيدات الروتين الحكومي القاتل والبيروقراطية في التعامل وعدم انفتاح المسؤولين في المواقع الادارية على مختلف مستوياتهم في فهم عملية المنافع الاقتصادية المتبادلة التي يسعى اليها المستثمرون وما يترتب عنها من خدمة للاقتصاد الوطني ، واستشراء الفساد المالي والاداري في الاجهزة الحكومية الذي لم يعد خافياً على المستثمرين الاجانب من خلال تقارير الامم المتحدة والهيئات الاقتصادية الدولية التي وضعت حقيقة واقع العراق في قمة الفساد الاداري والمالي وهدر المال العام وغسيل الاموال وعمليات السرقة المفضوحة.
إن التردي الذي أصاب الصناعة في العراق يظهر بوضوح آثار التدهور والتراجع في كافة مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والحضارية ، وما آلت اليه الاحوال المعاشية الصعبة للمواطن العراقي من جراء هذا التراجع الاقتصادي المتسارع للقطاع الصناعي الذي يقاس بتقدمه ونجاحه درجة تطور الامم ، ويصطف تحت طائلة انتكاسة القطاع الصناعي للسلع الانتاجية والخدمية والاستهلاكية قطاع الصناعة النفطية الذي يعاني هو الآخر من التأخر التقني وضعف الانتاجية وعدم استغلال عنصر التنوع في البدائل للمنتجات النفطية التي أصبحت مواردها المالية أكثر اقتصادية كصناعة تحويلية من عملية تسويق النفط الخام ، والتي لجأت بعض دول العالم الصناعية غير النفطية الى استيراد النفط الخام كمادة أولية وتحويله الى آلاف المنتجات والمواد الصناعية والبتروكيمياوية والاستهلاكية.
وبناءً على ذلك فإنه لا بد من إحياء وايجاد السبل الكفيلة بإرساء قواعد وحضارة صناعية متطورة والعودة بها لأخذ دورها الفعال في مسيرة التطور وايجاد إدارات كفوءة ونزيهة والتي يمكن أن تظهر معطياتها وانعكاساتها على مجمل مضامين ومجالات حياة المجتمع والازدهار الحضاري في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والتعليمية والثقافية والتحول الحضاري النوعي للواقع السكاني بدوافع الزخم الذي تحققه الصناعة التي ارتقت بدول العالم المتقدمة الى قمة الازدهار ، والتي تعبر عنها الوقائع الواردة فيما يلي :-
1- رفع مستوى التنسيق بين القطاعين العام والخاص.
2- توفير العملة الصعبة من خلال عملية تصنيع المنتجات وتغطية حاجة السوق المحلية كبديل عن الاستيراد.
3- استغلال عناصر الانتاج المتيسرة في البلد من قوى عاملة وموارد نفطية ومواد زراعية ومياه وموارد جيولوجية وثروة حيوانية لتطويعها في خدمة العملية الانتاجية.
4- الارتقاء بنشاطات البحث والتطوير التي تفرضها العملية الانتاجية التي لا تتوقف عن نشاطات التحديث واحلال البدائل المناسبة.
5- تنشيط رأس المال الخاص وسن القوانين المشجعة للاستثمار.
6- رفع كفاءة مؤسسات وأجهزة ادارة القطاع الصناعي لمواكبة التطور العالمي.
7- الارتقاء بالتعليم الصناعي والتأهيل والتدريب الذي تتطلبه العمليات الانتاجية وتأثيرها الايجابي على رفع مستوى وعي ومهارات العاملين.
8- إزاحة القيادات الفاشلة والفاسدة من مراكز القيادات الادارية واختيار الكوادر الادارية المتقدمة والمتخصصة والنزيهة التي تتطلبها ادارة المشاريع الصناعية.
9- تفعيل دور المرأة في العملية الانتاجية واسهامها في عملية التنمية واطلاق طاقات خريجات الاختصاصات الهندسية والتقنية في قيادة مراكز العمل الصناعي.
10- توفير فرص اكتساب المعارف والمهارات من قبل الكوادر العاملة في الصناعة من خلال التعرف على مجريات التقدم الصناعي العالمي.
11- الارتقاء بالمنتوج الصناعي من خلال الحصول على حق المعرفة لانتاج السلع ذات الماركات العالمية الشهيرة والاهتمام بمستوى الجودة وتحسين النوعية.
12- ترسيخ تقاليد وسياقات عمل نظامية لدى العاملين في المشروع الصناعي بالحفاظ على الوقت الانتاجي والمواد الأولية والنوعية.
13- تنشيط فعاليات التصدير وما يترتب عنها من فوائد في جذب العملات الصعبة. وتكون حافزاً لزيادة الانتاج الذي يؤدي الى تقليل كلف الصنع باستغلال التكاليف الثابتة بمعدلات انتاجية اعلى.
14- اشراك الخبراء والاختصاصيين في مجال الادارة الصناعية والاقتصاد في خطط التنمية ورسم سياسة استثمارية رصينة.
15- تنشيط المؤسسات الاقتصادية والمهنية كمؤسسات داعمة كدوائر التنمية الصناعية واتحاد الصناعات ومراكز التقييس والسيطرة النوعية وجمعيات رجال الأعمال ومؤسسات الاستثمار المحلية والاجنبية التي تجد في تنامي النشاط الصناعي فرصة ملائمة في الدخول بمشاريع استثمارية.
16- الحد من الاستيرادات العشوائية والسلع المنافسة للمنتجات المحلية وتنظيم عمليات الاستيراد وفقاً للاحتياجات الحقيقية وللسلع الجيدة والمعمرة التي لا تسبب هدراً للعملة الصعبة.
17- الاستفادة من الخدمات الاستثمارية التي تقدمها الشركات العالمية عند الحاجة لادامة المشاريع القائمة من أجل زيادة انتاجيتها وتحديث المعامل أو الدخول في تصنيع منتجات جديدة.
18- النهوض بمستويات مرتكزات البناء التحتاني وتطوير الخدمات لمواكبة احتياجات التطور الصناعي وزيادة الانتاج التي تتطلب المزيد من الخدمات البلدية وانشاء الطرق والجسور ومشاريع الماء والكهرباء والابنية اللازمة للمدارس والمستشفيات والاسكان والقضاء على الاختناقات التي تؤثر على عملية التصنيع.
19- جذب القوى العاملة من مختلف مراحل التعليم والاختصاصات لما تتميز به المشاريع الصناعية من تنوع في الاحتياجات للعاملين ، وبما يساعد في القضاء على البطالة التي يعاني منها المجتمع سواء على مستوى الخريجين أو على مستوى القوى العاملة الماهرة وغير الماهرة.
20- تحريك القطاع الصناعي لبقية القطاعات الانتاجية والخدمية ، فهو يحتاج لمنتجات القطاع الزراعي وموارد القطاع التجاري ومنتجات المعامل والورش الصناعية للقطاع الخاص من جهة ، ويقوم بتجهيز تلك القطاعات باحتياجاتها من المواد الأولية والسلع والخدمات التي يمكن توفيرها لسد احتياجاتها من جهة اخرى.
21- استعادة عافية الوضع الأمني وايجاد فرص التحاق العاطلين بالعمل.
22- تحقيق سياسة تنمية الاقاليم من خلال توزيع المشاريع الصناعية على مختلف المناطق والمحافظات.
23- نشر ثقافة العمل الجماعي في المصانع والمشاريع الانتاجية العملاقة والقضاء على البطالة المقنعة المتمثلة بالاعمال الفردية غير الانتاجية التي تستنزف طاقات العاملين فيها من الشباب واصحاب الاختصاص.
24- تحفيز الحس الابداعي ورفع روح المبادرة والابتكار من قبل العاملين كنتيجة لمعايشة وسائل الانتاج الحديثة.
25- توسيع مساحة التعليم المهني الذي يساعد بشكل فاعل على احتواء الشباب الذين لم يتيسر لهم الدخول الى الجامعات والدراسات الاكاديمية بما يوفر الكادر الفني لمشاريع خطط التنمية.
26- وسيلة لتحفيز مؤسسات الدولة لاعتماد اساليب التخطيط ومسح احتياجات السوق وتطوير اساليب الخزن والارتقاء بأنظمة التسجيل والتوثيق والمحاسبة ومسك السجلات الحديثة واستخدام الاساليب الاحصائية لاستقراء حجم الطلب.
27- وضع الخطط الكفيلة بتطوير المنتوج وتحسين النوعية.
28- تطور قطاعات النقل والمواصلات لمواكبة خطط التنمية في نقل المواد والسلع والبضائع والافراد وتوفير مستلزمات العملية الانتاجية.
29- خلق طبقة عاملة تتمتع بالمهارات التقنية التي تفرضها طبيعة الاعمال التي تتعامل بالتكنولوجيا الحديثة والاساليب والطرق الهندسية الحديثة ومعايشة مستجدات التحديث والتطور الحاصل في مجال المكننة والالتزام بأنظمة وتقاليد العمل والانتاج.
30- رفع المستوى المعاشي للفرد وتحقيق الرفاه الاجتماعي من خلال زيادة دخل الفرد وتوفير فرص العمل.