المنبرالحر

كَمْ نفْتَقد"سفرطاس"* الزَّعِيم؟ / يوسف أبو الفوز

فتحت ثورة الرابع عشر من تموز 1958 آفاقا جديدة للشعب العراقي، في التطور على كل الأصعدة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لم تكن ثورة 14 تموز حدثا عاديا في العراق وعموم المنطقة، فقد جاءت ردا محكما وجذريا ضد الصراع والتناقض الدائم، ولعقود طويلة بين مصالح الحكام، ومصالح الشعب، الذي عانى كثيرا من الفقر والجهل والمرض، فتراكم غضبه لعقود بسبب من حجم الانتهاكات المتكررة لكرامته وطمس حقوقه، على يد سياسيين ارتهنوا لمصالح قوى خارجية، هي قوى الاستعمار البريطاني ومصالح "حلف بغداد" سيّئ الصيت.
إن اندلاع بركان غضب الشعب في 14 تموز، كان طوفانا اكتسح أمامه كل البناء المهتريء القديم، وأسّس لبناء عراق، فتي، جديد، عبر سلسلة متواصلة من الإصلاحات والقرارات الجريئة في إعلان دستور عراقي مؤقت جديد لدولة جمهورية خرجت من حلف بغداد، وسنّت لمواطنيها قانونا متقدما في الأحوال الشخصية وسلسلة من القوانين التقدمية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إن نظرة بسيطة لألبوم صور السنوات القصيرة لثورة 14 تموز، قبل أن يتم وأدها على يد البعثيين العفالقة، من مجرمي 8 شباط، بتوجيه ودعم من قوى مخابرات دولية ودول إقليمية، ومحاولة دراسة سلوك وعلاقة قادة الثورة مع أبناء الشعب من خلال هذه الصور والحكايات المنسوجة حولها، ستكشف وتبين لنا أن هذه العلاقة، كم كانت استثنائية جدا وباهرة وبراقة.
من منا لم يسمع قصصا حقيقية، أو حتى مبالغ فيها، عن تواضع قادة الثورة وبساطتهم ونزاهتهم؟ حكايات وصورعن الزعيم عبد الكريم قاسم (1914- 1963)، ماجد محمد امين( 1922ـ 1963)، وصفي طاهر (1918ــ 1963)، فاضل عباس المهداوي (1915ـ 1963) وغيرهم؟ حكايات عن زعيم الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي كان يتحرك وسط الناس بسيارته البسيطة بدون حمايات مشددة، معه فقط السائق أو مرافق واحد، ويلتقي بسطاء الناس على نواصي الشوارع أو في المطاعم الشعبية، حين يتناول طعامه أحيانا. وكيف كانوا يجلبون له طعامه البسيط من بيت أخيه بـ "السِّفرطاس"، وكان يدفع لهم مبلغا شهريا من راتبه مقابل ذلك، وفي كل مرة كان يدعو الموجودين من حوله لمشاركته الطعام. وبسبب محبة الناس له راحوا ينسجون عنه القصص في هذا الأمر، فظهر العشرات ممن أكلوا من "سِّفرطاس الزعيم" صدقا أو مبالغة! وبعد استشهاده لم يورث شيئا، ووجدوا في جيبه بضعة دنانير هي كل ما يملك، لا حسابات سرية ولا أرصدة خيالية، فلم يتمكن أعداؤه وأعداء ثورة 14 تموز من إيجاد أي مجال في هذا الشأن لتشويه سمعة الزعيم، فاستحق لحسن سيرته ونزاهته لقب "زعيم الفقراء"!
والحديث يتواصل عن بقية قيادات الثورة من رجال عرفهم الناس وحفظ التاريخ سيرتهم الزاهية، وحيث يمكن إيراد عشرات القصص من الشواهد، التي توثقها الصور وعشرات الشهود عن تميز هؤلاء الناس في كل شيء، لذا استحقوا حب واحترام الناس.
وإذ تنظر من حولك الآن تجد ما يشعرك بالخجل من سلوك سياسيين تبوأوا مواقعهم في الدولة،لأسباب ليس لها علاقة بآليات بناء دولة أو كفاءة أكاديمية أو سياسية، وإنما لمجرد كونهم محسوبين على ملاك الحزب الطائفي الفلاني أو القومية الفلانية. وإذ تنظر لسلوك أي واحد من هؤلاء السياسيين، حتى تجد أنه عزل نفسه عن الناس بسلسلة لا حد لها من الحمايات والحراس ومواكب سيارة خرافية، تحت حجج تردي الوضع الأمني، ضاربا عرض الحائط بأهمية أن يكون على تواصل مع أبناء شعبه الذين يفترض أنه جاء لخدمتهم وتحقيق مطالبهم، ناهيك عن رائحة الفساد التي تزكم الأنوف، تفوح منه ومن بطانته التي لا تجيد حرفة سوى نهب أموال الشعب.
كأي مواطن عراقي، أتابع أحيانا ما تنقله وسائل الإعلام من تقارير، بالصوت والصورة، عن اجتماعات ولقاءات قادة سياسين عراقيين مع أمثالهم من الساسة، أو مع مريديهم وأنصارهم، وأرى حجم البذخ والترف الذي أحاطوا به أنفسهم، فيشعر المرء بالخجل لكل هذه الفخفخة الطاووسية، التي جلبت نقمة الناس أكثر من محبتهم، فيتساءل المرء: ألهذه الدرجة يستخفون بأبناء شعبهم، دون الخوف من المحاسبة والعقاب؟!
ولكن التاريخ يعلمنا أن للشعب صبره، مهما طال الأمد، والذي لابد أن ينفذ يوما، فتعمل طلائعه لتغيير كل الموازين لأجل استعادة كرامته ولأجل نيل وضمان حقوقه. وما حركة الاحتجاج السلمية، المستمرة لأكثر من تسعة شهور سوى جرس إنذار يرن كل يوم في ساحات الكرامة، إعلانا عن الحنين لأيام يشاركهم فيها من يقود بلادهم بطعام سفرطاسه، بدون حواجز أو قيود.
إن ذلك لقريب!
ـــــــــــــــــ
* سفرطاس: آنية من الموروثات الشعبية العراقية، وهي عدة أواني بعضها فوق بعض مشكلة طبقات، يوضع فيها الطعام ويرسل الى مكان خارج البيت. وأصل الكلمة تركي، ومن مقطعين "سفر" و" طاس" أي "ماعون السفر "، ويسميها أهالي المناطق الغربية من العراق: " المطبقية ".