المنبرالحر

تألق تموز وانتصاره / سلام القريني

كان كرنفالا رائعا ، وعلى غير العادة الجارية في الاحتفالات فقد حدثت زحزحة (زمكانيه) حتى بدا للجموع الزاحفة نحو المسرح البابلي عبر شارع الموكب المزدان بالزهور والشموع تراءى لهم في مقدمة المستقبلين رائد المسله الاولى الملك البابلي العظيم حمورابي والى جانبه ملوك كل من اور واشور واكد وقد لبست المدينة حلة جديدة وزينت جدرانها وازقتها وابواب دورها ومحلاتها بالورق الملون والبالونات ابتهاجا بثورة الفقراء وذكراها العطرة في الرابع عشر من تموز اوكما يسميها اجدادنا الاوائل الحاضرون اليوم معنا بـ ( دموز ).
كانوا يلوحون بايديهم فرحين بابناء وادي الرافدين الغيارى المتمسكين بجذورهم وانتمائهم الاصيل إلى هذة الارض المعطاء .. لقد كان معهم دموز في ثورتهم ضد الاستعمار البريطاني . هذا الاله ( اله الرعي والنبات ) الذي اعاد الحياة إلى الملايين بعد سنوات القهر والقحط والحرمان وقد دحروا بصبرهم قوى التخلف والاستبداد الذي خيم على صدورهم ردحا طويلا من الزمن . آبوا الا ان يشاركوا فرحتنا الاسطورية ويقدموا التهاني بهذا النصر المؤزر للحرية والكرامة ولينعم دموز بالسلام منهين حزن شاعرهم السومري الذي كان يقول عن دموز في الطقوس :
كان قلبه يمتلئ اسى
فهام في المروج
الراعي دموزي
حقا انه الابن الصالح الجديد الذي تنبا بانتهاء مواكب الحزن وتحقيق الحلم الدموزي المتمثل بتحطيم شياطين العالم السفلي كما تصفه اسطورة نزول عشتار . ولقد خلد اسمه في العبرية والعربية بشهر تموز .
* * 14 تموز 1959 م
في هذه الساعة امتلأت مدرجات المسرح البابلي بالعراقيين حاملي رايات الثورة فوق الهامات لتخرج فتاة كانها عشتار من بين الجموع بزيها الفردوسي وقد تدلت على منكبيها جديلتين طرزتا بشرائط زرقاء للدلالة على نهري الخير والعطاء دجلة والفرات معلنة ان الجوقة العسكريه ستعزف السلام الجمهوري وتدعو الجميع إلى الوقوف بخشوع وصمت حدادا على ارواح شهداء الحركة الوطنيه الذين طرزوا بدمائهم طريق الثورة الفتية .
فكان أول المتحدثين الزعيم الركن محي الدين عبد الحميد الذي ارتجل كلمة هذا بعض منها :
• لقد علمنا التاريخ رغم انه كان تاريخا للملوك لا للشعوب ورغم انه ينكر دور الجماهير ويشيد بدور الافراد . لقد علمنا هذا التاريخ ان للباطل جولة وللحق الف جولة وان الخلود للشعوب وحدها اما البرابرة العتاة فإلى زوال . واذا كانت ثورة 14 تموز قد انتصرت فان ذلك لم يكن حدثا عفويا او صدفة من صدف التاريخ انها نتيجة تدبير منطقي واضح الاسس .* *
تعود الفتاة لتعلن بأعلى صوتها أن 14 تموز هو يوم الظفر .. يوم الابطال ..
يرتقي المنصة الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي :
الشمس في مدينتي
تشرق
والاجراس
تقرع للابطال
فاستيقظي , حبيبتي , فاننا احرار
كالنهار
كالعصفور
كاالنهار
فلم يعد ,يفصل فيما بيننا جدار
ولم يعد , يحكمنا طاغية جبار
لاننا احرار .
الفتاة / شكرا لتلك الانغام وسيكمل هذا الآلق رائد من رواد الكلمة وعلم من اعلام الادب العربي انه العلامة الدكتور محمد مهدي البصير . لقد فاجأنا هذا الرجل بإعلانه اعتبار هذا اليوم هو عيدنا الأكبر .
* * من حق كل عراقي متحرر ان لم يكن من واجبه ان يعتبر يوم 14 تموزعيدنا الاكبر لانه اليوم الذي انقذ ملايين الفلاحين والعمال والمثقفين وغيرهم من الكادحين والاحرار المخلصين من مظالم الاستعمار ومآثم الاقطاع وجبروت الحكام المستبدين وتوجت الأجيال كفاحها الطويل الشاق بظفرها اللامع الذي يفدونه بالاموال والارواح وهبها الحياة الحرة الكريمه . لقد طلب
شاعر ثورة العشرين العلامه البصير من المفكر الدكتور صلاح خالص التعليق على مقولة احد المفكرين الكبار التي تنص ( بان خير احتفال بالذكرى السنوية لثورة من الثورات هو ان تستعرض المشاكل التي مرت بها ) .
الخالص في بداية كلمته وجه النداء التالي قائلا ( الى اولئك الناس البسطاء الذين لم يستوعبوا يعد معنى ثورة 14 تموز 1958 م ) .
لقد كانت المعركة الاجتماعية والسياسية قبل 14 تموز الجبارة قائمه بهذا الشكل فمن جهه وقفت الطبقه الحاكمه المكونه من الاقطاعين والملاكين الكبار وفريق قليل من رجال المال الذين جعلوا من انفسهم وكلاء للشركات الاجنبيه الاستعماريه فربطوا مصالحم بمصالحها يسندهم ويؤيدهم الاستعمار العالمي بكل قواه ضد امال ومطامح الثورة الفتيه التي وقفت طبقات الشعب الاخرى من العمال والفلاحين واصحاب الحرف والمثقفين الذين يكونوا الاكثريه الساحقة الى صفها مدافعة عن منجزاتها حتى الرمق الاخير .
صفقت الجماهير وعلت زغاريد النسوة وتلألأت السماء بالألعاب النارية حين دعت اللجنة المنظمة الحضور إلى التوجه الى البوابة الرئيسة للمدينة فقد اصطفت العربات التي تجرها الثيران المجنحه لنقل المحتفلين الى شارع الرشيد
.2005م
متجهة إلى المكان الذي تمت فيه محاولة اغتيال احد ابناء الملك حمورابي دموزي القرن العشرين وقد كانت في انتظار الحشود آنذاك جماعة حركة الدفاع عن الشعب العراقي التي تأسست عام 1963م وكان على راس الأشهاد شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري والمناضله الدكتورة نزيهه الدليمي والدكتور فيصل السامر , إنها اللحظة التاريخية المباركة التي أعادت الحق إلى أهله والمتمثل بإزاحة الستار عن تمثال الزعيم الوطني الراحل عبد الكريم قاسم.
وهنا غرد شاعرنا الجواهري الخالد
هنيئا لك العيد الذي انت رمزه
بذكرك يستعلي وباسمك يطرب
اعد مجد بغداد تعد مجد امة
به الكون يزهو والحضارات تعجب
وارجع لها في شمس تموز حقبة
اذا الشمس عن امصارها ليس تغرب
لم يكن حلما بل املا متجددا يستمر بعزم الطيبين من ابناء هذا الوطن فالقادم اجمل ان احسنا اختيار ادواته واحترمنا ارادة شعبنا في تحقيق دولة مدنية ديمقراطية حديثة .