المنبرالحر

سكان الأهوار ..بيئة العمل والحب والجمال .. بلا عمل بلا حب بلا جمال / ناجي محيبس الكناني

في عام 1971 عملت معلما في مدرسة دمشق الابتدائية في قرية الخر الصغير الواقعة على حافات أهوار قضاء المجر الكبير ، في محافظة ميسان. أن ذلك التاريخ لا يمكن أن أسجله بكل ما فيه من تنوع ، ولما يضمه بين دفتيه من تجربة غنية ، خلال السنوات الثلاث الماضية في فهم الطبيعة التي لا يمكن ملاحظتها بالعين فقط ، وإنما بالقلب ايضاً وبسماع حركة الأشياء التي تمتزج مع ضحكات الأطفال ، ومزاحهم وهم في مشاحيفهم التي تستوقفني طويلا ، فالسمع ، والبصر كونا عندي فكرة حقيقية عن الواقع الجميل الذي جعلني أميز جمال الأشياء بشكل منتظم ، ليس بمجرد التجوال الجغرافي على مسطحات الأهوار الواسعة ، وإنما في النشاط الانساني ، والروحي ، والعلاقة الحميمة التي تجعلهم ينسون تعبهم عندما يحصل الجميع على العيش الرغيد ، فهم يتعايشون بحب وسلام ولا يعرفون المصالح الأنانية ، التي يستحيل تحقيقها عند المجتمعات الحضرية.
أن علاقتهم الإنسانية ، ساهمت في بواعث الانجذاب الروحي فيما بينهم ، وساعدت في انعدام الفروق الفردية في حياتهم اليومية في المأكل والملبس والمسكن.
أنهم متساوون في كل شيء ، ووراء كل هذا توافر عندهم نوع خاص من تربية تتجسد في تسابقهم على إرضاء حاجات ضيوفهم ، إن هذه السلوكية متوارثة ، أثمرت عندهم تبصرا ، وإحساسا واعتقادا عفويا بأن لكل إنسان قيمة عليا ، كي يضمنوا لأبنائهم ، وأحفادهم ، سلوكية ذات قيمة روحية تتوفر فيها صفات الحياة الإنسانية ، الحب ، والصدق ، والوفاء ، والسلام.
إن هذه الصفات اتاحت الفرصة لسكان الأهوار لكي يمارسوا أعمالهم بشكل جماعي ، جعلت حياتهم اليومية خالية من رتابة العمل، وبعثت فيهم الارتياح ، والبهجة ، ليدركوا قيمة يومهم العملي المفعم بالأمل، وإلا فليس من الممكن أن يقوموا بإعمالهم بصورة جيدة.
إن الطبيعة في الأهوار العراقية تتميز بحرية الحركة ، والانفتاح للطبيعة بسبب تعدد الأعمال والمهن وأهمها الصيد على أنواعه ، والزراعة وحياكة السجاد ، والحصران ، والأطباق ، وصياغة الحلي الذهبية ، والفضية ، التي تمارسها الطائفة الصابئية ، وكذلك صناعة أنواع الزوارق ((المشاحيف)) والتبادل السلعي.
إن الانفتاح العشائري لسكان الأهوار على المناطق الحضرية المجاورة أدى إلى كثرة المضايف ، أو بالأحرى في كل بيت مضيف قائم بحد ذاته لاستقبال الزائرين ، والمتبضعين ، ، بالرغم من كل هذا الانفتاح على الآخرين كان خوفهم ممن يهددهم بتجفيف الأهوار ، فالمستقبل هو هاجسهم الذي كان يشغلهم ، فازددت شفقة ، وحبا ، وتعلقا بأبناء الهور الطيبين ، الذين يصاحبوننا للتجوال في الهور ، فكلما تنزلق بنا المشاحيف باتجاه المياه العميقة الصافية كالزجاج ، نجد أنفسنا معزولين عن العالم الخارجي حين تحجبنا عن الرؤية ، نباتات القصب ، والبردي الذهبي اللون ، الرشيق الفارع الطول ، التي تكاد تلامس حافاته المتموجة السماء ، حتى لتبدو عذوق الخريط ذي اللون الأصفر الداكن ، الذي يمتزج بقرص الشمس المحمر ، وبأدغال نبات (الشمبلان) التي تحيل زرقة الماء إلى ظلمة متوهجة هاربة باتجاه الآثار السومرية المغمورة في الماء التي تسمى بـ (الأيشان) تغطس في المياه كلما يرتفع بفتور أكثر حسب مناسيب المد، والجزر، وكأن الأثار والاماكن الأخرى تشعرنا ببداية العالم السومري ، ونهايته ، وكلما ينعطف المشحوف بين القنوات المائية، نحو قرى الأهوار المتباعدة عن بعضها ذات البيوت العائمة والمتناثرة التي أقيمت بطريقة فنية رائعة من نباتات القصب والبردي ومخلفات الشلب.
اتخذ الصيادون من البركة وهي مساحة مائية واسعة جدا ، دائرية الشكل محاطة بسياج من نباتات القصب والبردي ، مرسى عام للمشاحيف والطرادات ، التي نراها راسية من خلال القنوات المائية المتعرجة ، والصيادون منشغلون بصيدهم الوفير ، من الأسماك ، والطيور على أنواعها محلقة بالقرب منهم ، تتزاحم مع بعضها وكأنها تنافسهم في عملهم وتضيف إلى جمال المكان الطبيعي سحراً وجمالاً ، كطيور الرفراف ، ونعاج الماء البيضاء كالثلج ، والصداح ، والبراهين ، وغيرها من التي تمتزج أصواتها وزقزقنها بضحكات الأطفال التي تنطلق في الفضاء تعبيراً عن البهجة والفرح بحيث لا تستوقفهم عن التجديف وهم مسرعون بمشاحيفهم باتجاه بيوتهم قبل أن تغادرهم شمس الأصيل حتي ينتهي بهم الحال إلى مرسى المشاحيف في نهر الخر الصغير الذي يغفو كل مساء على حافة الهور بين أحضان نباتات القصب والبردي فيستيقظ الجميع في صباح اليوم الثاني الذي يتميز بالعمل الشاق والمثمر ، والأطفال يتقافزون من على مشاحيفهم مسرعون نحو مدرستهم خوفا من أن يفوتهم الاصطفاف الصباحي ، وهم في بهجة ، وأمل كبير يكمن في وعيهم ، ومن الصعب أن نعبر عنهم بمقاييس ضيقة ، كونهم أبناء قرى نائية، يقودهم الشعور بالتميز في كل شي وأحيانا يأخذ شكل المبالغة عندما يتعلق الأمر بنتائج الامتحانات الوزارية للصف السادس الابتدائي في كل عام فهم متفوقون على تلاميذ مدارس المدن.
من الصعب القول أن كل اهتماماتهم واحدة، فحرصهم على أداء العمل بأفضل صورة، وكأنهم متوافقون بشكل ديمقراطي على مشروع اجتماعي مميز يهدف إلى استمرارية الحفاظ على المستوى التربوي ، والعلمي ، والأدبي ، والفني ، والرياضي والتفوق من أجل التعايش مع بعضهم باحترام.
أن ما جذب انتباهي أن الحياة في الأهوار قائمة على أساسين هما العام والخاص ، فالأول يعني ((النظام)) الذي هو لا شخصي ، يتحكم به الآباء ورئيس العشيرة ، وأجدهم يشرفون على تعظيم الفعاليات الفردية لأبنائهم ، التي تنمي في نفوسهم ، الصفات الحميدة ومن أجل إعلاء شأن نمط (نظامهم ) العشائري ، والأساس الثاني هو (الحب) في حين أن الحب هو شخصي قبل كل شي آخر ، لأنه يضمن للجميع خبرة تتوافر فيها صفات الحياة المتحضرة ، الحق ، والسلام لان الماضي الخالد لمجتمع الأهوار ، اسس تاريخا خالياً من التعصب ومهما في الحياة الإنسانية ، لحاضرهم الذي يحمل في أسسه العلاقات الاجتماعية المتوارثة التي تحمل في جوهرها التآلف الاجتماعي والإبداعي في كل شي، في العلم، والادب والفقه.
أنا فخور بـ قرية الخر الصغير، قرية الحب والفن والجمال وبمدرسة (دمشق الابتدائية المختلطة) التي أنجبت رجالا أوفياء وبعد سنين عجاف جف الماء وغاب الهور عن الأنظار فظهرت للعيان آثار الحضارة السومرية ، بعد أن اقدم النظام المباد على قطع مياه دجلة والفرات عن الأهوار ، وشق قنوات لتصريف المياه خارج الأهوار ، وإقامة السدود والحواجز الترابية من أجل تجفيف المياه وإحراق النباتات وتلويث المياه مما أضطر السكان إلى النزوح إلى مناطق المدنّ ، ومن أجل اخماد الانتفاضة التي انطلقت في بداية التسعينات من القرن الماضي.
وقد قررت الأمم المتحدة إدراج مناطق الأهوار العراقية على لائحة التراث العالمي بعد عودة نسبة من المياه إلى بعض مناطق الأهوار من أجل حمايتها ، وتنشيطها وأقامة المشاريع المهمة كي تنهض بواقع الأهوار سياحيا ، واجتماعيا واقتصاديا.
وستعود قريبا قرية (الخر الصغير) والعلم العراقي يرفرف عاليا على سارية مدرستها (دمشق الابتدائية) وسيلتئم سكان الهور وتتآلف النفوس فيما بينها مرة أخرى ، وتعود الطيور فرحة إلى أعشاشها والبجعات تفرش أجنحتها بوقار على مسطحات الأهوار المغمورة بالماء.
لن ننسى تلك الذكريات الجميلة التي تعبر عن الخُلق الرفيع لأولئك الناس الذين ارتبطت نفوسهم العذبة بطبيعة الأهوار التي سيمتد سحرها وجمالها وعطاؤها إلى نهاية العالم.