المنبرالحر

لماذا لم يتطور النظام العلماني التركي ؟! / رضي السمّاك

كثرة هي الدراسات العربية التي تناولت اخفاقات التحديث شبه " العلماني " في البلدان العربية ذات النُظم القومية الجمهورية بعد نيلها الإستقلال عن المستعمِر الأجنبي ، وجميعها توسلت تارةً الشعارات القومية وقضية فلسطين بديلاً عن الشرعية الدستورية الحقيقية بمفومها الديمقراطي الحديث وتارةً اخرى لم تتوانَ عن اللجوء إلى الشعارات "الاسلامية " وتثبيتها ضمن اُسس نظامها الدستوري الشكلي المُفصّل على ايديولوجيات احزابها الحاكمة أو قادتها ، وكان أخطر هذه الشعارات الإسلامية تلك التي تُرجمت فيما نصت عليه دساتيرها بمصادر التشريع ، حيث بعضها اعتبر الشريعة الإسلامية مصدراً وحيداً رئيساً ، فيما بعضها الآخر اعتبرها الشريعة مصدراً رئيسياً ضمن مصادر اخرى من مصادر التشريع ، وكل ذلك إنما يتنافى ،بهذا القدر أو ذاك ، مع جوهر اُسس النظام العلماني الحديث بمفهومه السياسي العلمي الصحيح حتى بشروطه الدُنيا التوفيقية مع خصائص المرحلة الاجتماعية التي تجتازها راهناً مجتمعاتنا العربية.
في مقابل ذلك فإن الدراسات العربية التي تناولت التجربة التركية في تشييد النظام العلماني وهي تجربة عريقة نسبياً قياساً بالتجارب العربية مازالت قليلة ، على الرغم ما لهذه الدراسات من أهمية قصوىٰ في تعميق فهم إخفاقات تجارب التحديث العربية ، لا بالنظر فقط لما كان يربطنا بتركيا من علاقات تاريخية خلال الحقبة العثمانية طوال ماينوف على أربعة قرون كانت كافية لترك بصماتها على البُني الاجتماعية والمواريث الثقافية العربية ، بل وبالنظر أيضاً لما تتميز به تركيا على الخارطة السياسية من موقع فريد "جيبوليتيكي "بكل معنى الكلمة كمفصل وشريان حيوي بين الشرق والغرب الاوربي.
لكن هذا الموقع الاستراتيجي الذي استفادت منه تركيا العثمانية مثلما استفادت من تضافر عوامل وظروف موضوعية وذاتية اخرى متشابكة لبسط سيطرتها على كامل مساحة العالم العربي تقريباً، بل ومن تمددها في مناطق من البلدان البلقانية والشرق الاوروبي فشل النظام العلماني الذي شيّده كمال أتاتورك في الاستفادة منه داخلياً، ليس بمعنى بعث أمجاد التوسع الامبراطوري العثماني وإنما بإقامة نظام دستوري ديمقراطي علماني حقيقي وفق ضوابط محسوبة تراعي خصائص البُنية الاجتماعية التركية وتسمح بآفاق واعدة لتطورها الذاتي . لقد كان نمط الانتاج السائد في تركيا عشية تشييد أتاتورك النظام العلماني الجديد في مطلع عشرينيات القرن الآفل شبه اقطاعي ذا خصوصية شرقية ، ولما تتشكل بعد رأسمالية صناعية متطورة . وحسب الباحث السوفييتي نيقولاي ايڤانوڤ فإن القوى الطبقية المسيطرة في السلطنة العثمانية عرفت كيف تراكم ثروات طائلة لكنها بدلاً من توظيفها في عملية الانتاج نزعت إلى البذخ والاسراف . ( راجع إفادات في هذا الشأن : ايرينا سميليانسكايا، البنى الاقتصادية والاجتماعية في المشرق العربي ، الفارابي ، بيروت 1989 ) . كما لم يكن التحديث الذي جرى في السلطنة العثمانية خلال خلال القرن ال 19 أو ما يطلق عليه البعض "الغربنة " متساوقاً مع تلك البُنية الاجتماعية التقليدية ،وبخاصة في ظل لجوء الدولة إلى تشديد المركزية لدى الباب العالي والجمود البيروقراطي.
وترتيباً على ما تقدم يمكننا القول ان مشروع التحديث العلماني الاتاتوركي " جرى كما أسلفنا في ظل علاقات إنتاج شبه إقطاعية لم تضمحل كلياً ، وكانت الرأسمالية الوليدة المتشكلة تفتقر للبنية الاجتماعية المتطورة الناجزة موضوعياً والحاضنة لتطورها ، ولم يوازِها نواة ديمقراطية دستورية تعددية حقيقية واعدة تسمح بهذا التطور على غرار الرأسماليات الغربية العريقة ، بل ما كان العسكر "المتعلمنون " ونخبتهم المدنية المتحالفة معهم والمفتونون بالغرب في وارد تحمل وجود ديمقراطية تعددية كهذه تخرج عن سيطرتهم . وحتى إصلاحات القرن ال 19 التي التي عُرفت بإصلاحات السلطان سليم الثالث إنما جاءت وليدة الحاجة الى خبراء اوروبيين لبناء جيش مُسلح تسليحاً حديثاً بعد الهزائم التي مُني بها امام روسيا القيصرية . وممن تناولوا هذه الإشكالية كلاً حسب حقل البحث الذي تخصص فيه المستشرق ل . ن كوتلوف في كتابه الموسوم " تكون حركة التحرر الوطني في المشرق العربي ، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي ، دمشق ١٩٨٠"، و المستشرق السوفييتي ز. إ . ليڤين الموسوم " الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان وسوريا ومصر ، دار ابن خلدون ، بيروت ، ١٩٧٨ " .
وهكذا يمكن القول ان الرأسمالية الجنينية التي تشكلت في ظل النظام الاتاتوركي الجديد لم تتطور نحو النضوج بما فيه الكفاية بل غدت رأسمالية مسخاء مشوهة ، شريحة مهمة منها تُعرف ب " رأسمالية الدولة " لأنها مرتبطة بالدولة وتدخلاتها الفجة في السوق والانتاج بما يضمن مصالح السلطة الاتوقراطية المُعبرة عن نتاج الرأسمالية الوليدة في الشطر الجغرافي الغربي من البلاد الأقرب إلى اوروبا ( مناطق اسطنبول وأضنة وإزمير ) ، أما في مناطق شرقي البلاد (الأناضول ) فقد ظلت بنيته الاجتماعية المتشكلة في الغالب أقرب للإقطاع وسكانه في الغالب من الفلاحين الاكثر محافظةً وتمسكاً بالدين والتقاليد ولم يطرأ عليها تغيير ، ومن هذه المنطقة تحديداً جاء معظم مثقفي وساسة الاحزاب الاسلامية ومنها حزب " العدالة والتنمية " الحاكم وهي المنطقة التي كان يتعالى على سكانها الروميليان ( أتراك الجزء الغربي ) وينظرون إليهم نظرة فوقية بأنهم فقراء متخلفين في حاجة إلى التحضر . وقد صدرت بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة على الرئيس التركي رجب اردوغان دراسات ومقالات تحليلية أعادت التذكير بهذه الإشكالية القديمة الجديدة المتمثلة في تفاوت تطور البُنى الاجتماعية بين أقاليم تركيا نفسها ، كدراسة حميد بوزارسلان مدير الأبحاث في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية بباريس المنشورة بصحيفة "لكسبرس " الفرنسية فقد أكّد ان الكتلة التي تؤيد هيمنة حزب العدالة بزعامة الرئيس رجب طيّب اردوغان قوامها برجوازية شديدة التدين ومناطقية وهي كتلة تتكون من شرائح من الطبقات الفقيرة نجح حزب العدالة استقطابها من خلال المشاريع الخيرية والتبرعات والصدقات ( الحياة ، 3/ 8 / 2016 ) .
كما سبق أيضاً للمفكر الاقتصادي السياسي المصري سمير أمين أن تناول في إحدى دراساته هذه الإشكالية ذاتها وإن على نحو مُقتضب ، وأرجع ضمنياً النجاح النسبي الذي حققه التحديث الاتاتوركي مقارنة بالتحديث المصري الأقل نجاحاً إلى ان مصر الناصرية تعرضت على الدوام للعدوان الامبريالي، لكن أمين فاتته أهمية الإشارة إلى إن هذا العدوان إنما فرضه موضوعياً تموضع مصر الجيوسياسي في قلب خريطة الصراع العربي الاسرائيلي ورفعها مشروعاً قومياً، بغض النظر عن عثراته في النظرية والتطبيق ، وهذا مالم تكن تواجهه تركيا. ( أنظر : سمير أمين ، مصطلحا " الدولة الصاعدة " و " التنمية الرثة" ، "الطريق " اللبنانية ، شتاء 2015 ) .
وبالنظر إلى المستجدات الأخيرة المتسارعة التي تشهدها تركيا في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل فإنه مالم تعِ علمياً وتدرك القوى الحية والديمقراطية هذه الملابسات والظروف الموضوعية التي نشأت في ظلها تجارب التحديث التركي السابقة سواء خلال حقبة النظام الثيوقراطي العثماني أم خلال النظام الاتاتوركي وما انتهت إليه جميعها من اخفاقات مريعة، ومن ثمَ تبادر لتشكيل جبهة خلاص وطني عريضة تضم كل القوى والحركات السياسية والاجتماعية وممثلي موزاييك التنوع العرقي والديني والقومي الذي يتكون منه الشعب المتضرر من السياسات الشعبوية الاردوغانية الحالية فإن تركيا مرشحة للدخول في نفق طويل من التخلف قد يعيدها عقوداً طويلة إلى الوراء ربما الى عهود الحقبة العثمانية . ذلك بأن النخبة " الاسلاموية " الحاكمة التي تدير دفة الحكم الآن غير مؤهلة فكرياً بالمرة لتصحيح مسيرة التحديث العلماني التي بدأها كمال اتاتورك وتطويرها ، وليست مؤهلة أيضاً لإدارة الازمات الناجمة عن اخفاقات هذه المسيرة منذ إقامة النظام العلماني التركي في عام 1932 أي قبل نحو قرن .