المنبرالحر

كردستان بين احلام الشيب والشبّان / جاسم المطير

من اعظم ما قاله المتنبي بيت شعر بإحدى قصائده:
فما الحداثة من حلمٍ بمانعة قد يوجدُ الحلمُ في الشبّان والشيبِ
بهدوء ، مرت في بداية هذا العام ، الذكرى السبعون لتأسيس جمهورية مهاباد عام 1946 . اول جمهورية مستقلة للشعب الكردي ظهرت حلما كرديا سريعا ، لكن القوى الرجعية والاستعمارية اسقطتها بقسوة بعد اقل من عام من اعلانها.
المتوقع أن عام 2046 سيكون مهرجاناً مغايراً، إذ سيحتفل الكرد بكل مكان، بالذكرى السنوية المائة ، مخلدة بمشاهدة فيلم سينمائي بمستوى عالمي ناجح عنوانه (مهاباد – اربيل بين الحرب والسلام). ينال الفيلم قبولاً لدى الجماهير الكردية في العراق وايران وتركيا ، سيكون مضمون الفيلم قائما على رومانسية الشعب الكردي واحساسه بالمعاني والقيم النضالية، التي صدمتْ قضيته على مر العصور، فصار حلم (الشيب) نفسه حلما حديثاً عند (الشبّان) الكرد، كما قال المتنبي بذلك الزمن كأنه يقول اليوم.
لا يوجد بأي قضية من قضايا الماضي أي شيء من التكامل والوضوح إلاّ من خلال الرؤية العميقة في تحليلها وتركيبها، لتشخيص ومعرفة مدى تأثيرها في المستقبل تأثيراً يمكّن القائمين بها وعليها من الحصول على أجوبة وحلول تخص مشكلة من المشكلات سواء كانت على سطح الاحداث الجارية او في عمقها . مثالها ، هنا ، القضية الكردية العراقية ومدى واقعية صيرورتها في جمهورية مهاباد عام 1946 بما معناه: هل يمكن لتجربة مهاباد أن تكون بمثابة (سكنر ألكتروني) لرؤية الطريق الجديد لولادة دولة كردستانية جديدة بين الجبال العراقية وفي قممها الشاهقة..؟
نحن اليوم نعيش في العام 2016 حيث اقليم كردستان العراق حقيقة ثابتة على الارض ، حقيقة غير منغلقة ولا محددة ، لكنها من نوع الحقائق بمواجهة اسئلة متنوعة تحتاج الى اجوبة متعددة قابلة للحركة والتطور.
يمكن ان تتطور هذه الحقيقة من منظورها الواقعي الحالي، لكن ليس من زاوية الادب الروائي التاريخي او الفن المسرحي والدرامي والتشكيلي، بل من زاوية تحرير المواطن الكردي من حالة الفقر والأمية والسأم ومن صعوبات الحياة اليومية الروتينية ونقله إلى مستوى الايمان بالحرية الانسانية وممارسة الديمقراطية وتعزيز احساسه انه لا يعيش في قفص، يأكل في داخله ويشرب، يرتدي ملابسه أو يخلعها قبل النوم او بعده.
المواطن الكردي مثل أي مواطن عراقي او عربي او فرنسي او برازيلي يريد أن يرى حلمه بدولة كردية مستقلة ليست شيئا من المحال .. يريد ان يرى هو أو أولاده أو أحفاده، بأي يوم من ايام المستقبل، تصبح دولته جسماً سياسياً ،حراً، مستقلا قائما بذاته، له انفاسه وخصائصه بمعنى امكانية تحول حقيقة الاقليم الى دولة مستقلة ، دولة كردية ساطعة يتجه مؤلفوها الى الالتقاء بالدولة العراقية الأم باتفاق كونفيدرالي او باقتران فيدرالي آخر ، من نوع ابداعي اداري جديد يبقي العراقيين كلهم بمختلف اجناسهم وقومياتهم واديانهم وعقائدهم بنظام إداري عام واحد، مجتمعين حول شجرة الديمقراطية ، متمسكين بأغصانها ورعاة لجذورها ،خاصة اذا ما ادرك جميع العراقيين، أفراداً وجماعات وأحزاباً ، أن (الدولة) شجرة و(السلطة) أغصان. ينبغي ان تكون هذه الشجرة وارفة الأغصان على العاملين في ميادينها الانتاجية والمعرفية.
سواء حدث هذا او ذاك من اشكال الدولة الكردية فليس ذلك مبعث التجهم السياسي في العراق، كما يظن البعض.
ليس شيئا مأساويا كما يظن البعض الاخر .
ليس ذلك الامر من دون معنى كما يظن البعض الثالث.
انما هو ناتج من نواتج تتويج نضال الشعب الكردي لتحقيق حلم كردي جمعي تعاقب على مختلف الاجيال، حيث الشعب الكردي ، كان وما زال حقيقة ازلية متميزة لكونه الشعب الوحيد على الكرة الارضية من دون دولة وان الكون كله لا يشعر به وبوجوده، بالرغم من ان الكرد كسائر شعوب العالم.
الكرد شعب اصيل ينتمي الى جنس عريق، حيث تشير الكثير من الدراسات الغربية والشرقية ،القديمة والحديثة ،ان الكرد جميعاً من قبائل آرية ، دخلت الى ايران من الشمال - بزمن غير معروف - لكن شأنهم اصبح معروفا على وفق كثير من الدراسات الاكاديمية المعمقة حين امتد نفوذهم بالوديان الخضراء والجبال الشاهقة في العراق وايران وتركيا منذ اواخر القرن السابع قبل الميلاد .
خضع النفاذ الكردي لنوع متعدد الاشكال من الصيرورة والنضال والتكتل بخطوط متوازية أحياناً، متجانسة احياناً أخرى، متصدعة احيانا ثالثة، لكن ليست جميع عواملها واسبابها ليست متعذرة الادراك.

ربما الكثير من الكرد يعتبرون بروز اسم صلاح الدين الايوبي هو شكل من اشكال روعة وكبرياء الشعب الكردي، المغمور بوضع مأساوي، من دون قدوة نضالية كردية ولا نموذج كردي نضالي. كانت جميع الحركات الكردية السابقة بلا منهج ولا قواعد ولا وصفات كردية أي أن حركة صلاح الدين الايوبي ذاتها لم تكن حركة كردية خالصة ،إذ امسك صلاح الدين بزمام (سلطة عربية) في (دولة عربية) تتكون من غالبية عربية. كانت حروبه تضم بعض الاقلية من المقاتلين الكرد لكنها لم تكن تحمل أي مطالب للشعب الكردي ولا ذات علاقة عمومية أو خصوصية بحقوق الشعب الكردي ، أو بمعنى من معاني القضية الكردية ، بالرغم من انتماء صلاح الدين الايوبي الى اسرة من اهالي تكريت، كما يقول البعض، الى أهالي اربيل، كما يقول البعض الآخر والى اسرة تكريتية – اربيلية كما يظن اخرون.
كان صلاح الدين الايوبي قد قاد معركتين حربيتين اسلاميتين عربيتين ضد خصوم الإسلام من قوات صليبية عدوانية قادمة عبر البحر الابيض المتوسط احتلت اراض عربية – اسلامية كان سكانها المسلمون هم المقاومون. بهذا الواقع لم تكن الحربين الأيوبيتين منطلقتين من اية زاوية من زوايا القومية الكردية بالرغم من شهرة اصول القائد العسكري – السياسي صلاح الدين الايوبي بكونه كردياً.
المعروف بوضوح تام وفي حيز مثالي ينتمي الى التاريخ النضالي الكردي الحديث هو الصيرورة الثورية في منطقة (مهاباد الكردية) في مملكة ايران الشاهنشائية عام 1946 . لم تكن هذه الصيرورة مجرد ادارة مفتاح في ثقب باب من ابواب قضية شعب بكامله ولم تكن مجرد اطلاقة عنان الخيال السياسي الانساني، إنما جاءت كميزة من ميزات النضال الجماهيري، كرد فعل لواقع الحياة السياسية القاسية بتجاهل واقع معاناة شعب تم تطويقه بجبال عالية لا يتمكن رؤية ما وراء الجبال.
نتيجة طغيان سابق وتصرفات باغية نغصت حياة الكرد في بلدين متجاورين ، ايران والعراق، حيث تطور مستوى نضال هذا الشعب بمنطقة مهاباد تطورا سريعا من اتحاد كتلتين متحركتين بشجاعة:
1. الكتلة الاولى هي تحرك الكرد العراقيين بقيادة المناضل مصطفى البارزاني في الجبال الكردية العراقية ضد الحكومة العراقية بانتفاضة عام 1945 – 1946 بعد نهوض المد الفكري الديمقراطي العالمي اثر سقوط الفاشية الهتلرية في نهاية الحرب العالمية.. لم يكتب النجاح لهذه الانتفاضة بوجه ممارسة وحشية الجيش العراقي ضد الانتفاضة مما اجبر قائد الانتفاضة ومئات البارزانيين الى اللجوء في الجبال الايرانية حوالي منطقة مهاباد الايرانية.
2. الكتلة الثانية تمثلت بتحرك الكرد الايرانيين بتطور متواز مع تحرك الكرد العراقيين حصلت بصورة مشتركة في منطقة مهاباد الايرانية ، حيث كانت اوضاع العلاقات العسكرية والسياسية خلال الحرب العالمية الثانية في ايران عاملاً مساعداً بجمع نضالين كرديين (ايراني – عراقي) بقيادتين مجربتين، تمثلتا بالكردي الايراني (قاضي محمد) والكردي العراقي (مصطفى البارزاني).
انتقل هذا الجمع بشكل سريع وفائق الى اعلان تأسيس (جمهورية مهاباد) الكردية لأول مرة في التاريخ متأثراً ومستفيداً بشكل مباشر بأول أزمة من ازمات العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث تدهورت العلاقات السياسية والدبلوماسية، بين اكبر منتصرين بتلك الحرب هما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الامريكية، بالرغم من ان ايران كانت قد اعلنت الحياد في هذه الحرب، التي كان من نتائجها توغل القوات السوفييتية داخل الاراضي الايرانية بشمالها . هذا التوغل بالذات أوجد (اللحظة المناسبة) أو (الفرصة المؤاتية) للزعيمين الكرديين المناضلين، قاضي محمد ومصطفى البارزاني يوم 22 – 1- 1946 بإعلان جمهورية مهاباد .
ثم كان ما كان إثر الانسحاب السوفييتي الفعلي من الاراضي الايرانية تحت الضغط الأمريكي و بعد انهيار اذربيجان المفاجئ قد مهّدا السبيل الى القوات العسكرية الايرانية لدخول منطقة مهاباد بقيادة (الجنرال همايوني)، المعروف بحبه الى الفاشية وزعيمها ادولف هتلر. تم اعتقال قاضي محمد ، لكن مصطفى البارزاني ادرك ان عليه مواصلة الكفاح من اجل بقاء (جمهورية مهاباد). كان احساسه الصوفي يؤكد له ان مهاباد هي اقرب من كل الاشياء الى قلوب الكرد جميعا، لكن قوانين النضال لا يمكن ان تكون متساوية مع حالات الواقع. لذلك صار البارزاني امام حقيقة جوهرية هي سقوط جمهورية مهاباد بعد حوالي 11 شهرا من ولادتها كان. من نتائجها ما يلي:
• اعدام قائد الجمهورية قاضي محمد في 31 اذار 1947 كما تم مطاردة انصاره بقسوة وحشية من قبل الجيش الايراني ما زالت آثارها السلبية متواصلة حتى الآن .
• هروب المناضل مصطفى البارزاني عبر الجبال والاراضي الصعبة مع الف من قواته البارزانية الى الاتحاد السوفييتي.. ظلوا فيها الى ما بعد قيام ثورة 14 تموز عام 1958 حيث عادوا معززين مكرمين الى وطنهم العراق عن طريق البحر وصولا الى ميناء البصرة. بينما عاد زعيمهم المنفي عن طريق القاهرة لمقابلة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
كما ظلت تجربة جمهورية مهاباد تلقى الدراسة والنقد والتحليل خلال 70 عاما بعد ان انتهى حلم الشياب الكرد ليحل محله حلم حلم الشبّان المتشوقين لتحويل كردستان العراق الى مكان للعيش يتوفر فيه الامن والعدل والعافية، لا يجبر فيه الشعب ولا يكره على العيش في ظل الخوف والجور والفقر والخطر.
كل الشعب الكردي ، قيادة وقاعدة في احزابه، حكومة وشعباً بكيانه، يريدون اصلاح الامور المعيشية والسياسية، يريدون من الديمقراطية ان تكون اداة الاصلاح، يريدون ان ينهضوا جميعا بأنفسهم ليكونوا احرارا .. هذه الإرادة حق من حقوق الامم أقرتها العديد من المبادئ والمواثيق الدولية.
من هنا صار حلم الشباب الكرد تدوير دنياهم بتحويل اقليم كردستان الى دولة مستقلة ليس فيها أسر وقتل واختطاف وهوان واخفاق ويأس، ظناً ان 13 سنة الأخيرة من عمر الاقليم انتجت صعوبة وتلكؤا بسبب نوع العلاقة بين (ادارة الاقليم) و (الادارة الاتحادية) المتكبرة على اقليمهم حيث التعالي على مطالبهم الحقة.
الواقع الكردي في عراق اليوم ليس الواقع ذاته عام 1946 فقد تطورت القضية الكردية، في العراق ، بعد سلسلة من الحروب السلطوية في زمان ثورة تموز، في زمان البعث الاول ، في زمان عبد السلام عارف ،في زمان احمد حسن البكر وفي زمان صدام حسين والحرب الكيمياوية وجريمة حلبجة، وصولا الى انتفاضة الشعب الكردي الممتدة من انتفاضة الشعب العراقي في آذار عام 1991 حيث استطاع الشعب الكردي ، خلالها وبعدها، اعلان (اقليم كردستان) من ثم في دستور عام 2005 مما وفّر للشعب الكردي في جمهورية العراق تفادي طريق التطور المغلق، منفتحاً، ديمقراطياً، على العالم ،كله، لأول مرة في التاريخ الانساني.
اليوم يوجد بالسياسة الكردية نوع اخر من انواع تلافي طريق التطور المغلق ، تظهر علاماته الواضحة بالكيان العراقي، كله. التطور التقليدي في الاقتصاد العراقي ما زال كلاسيكياً، ريعياً، ليس منتجاً ايجابياً، لا صناعياً ولا زراعياً. لم يستفد من التكنيك العلمي العالمي بتطوير الصناعة والزراعة. ظلت علاقاته الادارية والسياسية داخل الجمهورية العراقية الاتحادية ، مشوشة ومرتبكة. ظلت شقية بـ(الأمل الاتحادي) مرة وشقية بـ(اليأس الانفصالي) مرة اخرى. مبنى العلاقات الاتحادية بين (بغداد) و(اربيل) متخلف ليس مستقراً. الحالة الامنية ليست مضمونة بالسلامة، خاصة بعد ظهور (داعش). روح المحبة والتضامن و المرح والفرح والتعاون والوحدة والكفاح المشترك و السرور مشاعة بين الشعب العراقي من زاخو حتى الفاو، لكنها غير متوفرة، بنفس الروحية والمستوى، بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم. دعامات الصناعة والزراعة في الاقليم تصدعت خلال 13 عاما مثلما تصدعت بجميع المحافظات العراقية الأخرى، حتى سادت موجات كثيرة وعديدة الاشكال والانواع تندفع بكل مكان من البلاد العراقية منذرة بالانفجار والانسحاق.
بظل كل هذه الاوضاع يتعاظم صوت (الاستقلال) و(الانفصال) من جبال كردستان منطلقا من الرئيس مسعود البارزاني رئيس الاقليم ومن عديد القوى الشعبية الكردية . يرتفع الصوت وينخفض مع توتر العلاقة بين الاقليم والمركز.
حاول الرئيس مسعود في زيارته الاخيرة، بداية هذا الشهر الى بلدان اوربية مختلفة، استطلاع الرأي الدولي حول الموقف من اعلان الاستقلال الكردي وتوسيع المشهد الكردي المستقل. لا شك أن ظروف مهاباد لم تعد قائمة . القائم كوضوح الشمس شيء آخر هو الحوار الديمقراطي حول شيء آخر عنوانه العراق الكونفدرالي.
ترى هل كانت تجربة (جمهورية مهاباد في إيران ) أمام العين الكردية القيادية والشعبية المعاصرة في كل ما جرى ويجري خلال 13 عاما من الديمقراطية العراقية ..؟ هل صارت احتمالات الوصفة الاساسية لـ(جمهورية كردية مستقلة في العراق) متوفرة ، الان، بعد 70 عاما من سقوط مهاباد..؟ هل مشاهد الحرب الباردة في العالم اختفت أم اتخذت لها اشكالا جديدة..؟ هل الظروف الاقليمية المحيطة بكردستان العراق، في تركيا ،ايران وسوريا هي ظروف رومانسية ملائمة.. ؟
هل تخلص الشعب الكردي من التوتر الداخلي ومن حالات الصراع اليومي واليأس، خاصة بعد جراح داعش وانخفاض اسعار النفط..؟ هل يمكن السير الى ابعد من المألوف السياسي والامني القائم بالشرق الاوسط لتحقيق هدف وحقوق بناء دولة كردية بالوقت الحاضر بوقت يبدو فيه الحال أن هناك من (يعمل) و (يخطط) لتجديد خارطة سايكس – بيكو متجددة على وفق النوع الجديد من (الحرب الباردة) في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط، خاصة وأن جميع عناصر الحرب الباردة في بلادنا متوفرة حيث يستعد مشعلوها لخوض (الحرب الساخنة) ضد وجود وعدوان واحتلال تنظيم داعش في دولة ساهية لاهية مشغولة بالفساد والفاسدين.
حتى قوى الحركة الكردية نفسها ليست موحدة فقد اختلف مزاج الكثير من قواها المناضلة وتعكر طبع الكثير من قادتها مما أثار الكثير من العواطف والآراء والمواقف المتناقضة حتى حلت خطوب تكتل جديد داخل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. كما شهد الشارع الكردي ويشهد مظاهرات متواصلة تطالب الجماهير بواسطتها بعض حقوقها المعيشية العادلة، المصابة بعدم دفع رواتب الموظفين ..
ليس ما يخص القضية الكردية بمرحلتها الحالية اصبح، الآن، قضية مادح وممدوح او قضية هزيمة مطلب محدود او انتصاره وليست قضية ان يقال عنها كلاماً جميلاً وحسناً، إنما هذه القضية تحتاج الى صنعة عقلية من الوزن العلمي الثقيل للبحث عمّا يجعل من كل جزء من اجزائها وكل احتمال من احتمالاتها خاضعاً لعملية مدروسة دراسة علمية على ضوء الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لإقليم كردستان والعراق، كله .
ربما الشعب الكردي يحتاج بالوقت الحاضر ليس الى من يعجب بنفسه او بقوميته او بنضاله، بل بحاجة ماسة الى عقل غير متوتر ،سياسياً، ليرشده ويرشد الشعب الكردي، كله ،الى الطريق الصحيح ،غير المغلق. يحتاج الى افكار جيمس جويس ، الى حكمة شكسبير، إلى توازن وليم فوكنر ، الى عظمة عقل تولستوي، الى تحليق المسرحي الالماني برشت والى رمزية الممثل المصري عادل امام لامتصاص صدماته المتعاقبة، كما بحاجة الى تلك الرؤية الفسيحة الواسعة بعيون المناضل الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف الذي رأى – قبل ثمانين عاماً - بصفاء تام ، من وراء فيض السحاب الاسود، حقوق الشعب الكردي ناصعة لكي يشارك ويشترك حزبه الراسخة جذوره بقلوب العرب والكرد وغيرهم ، لكي تتحول تلك الحقوق الى كيان كردي معافى له خلود البقاء على أسس قوية من الحرية والديمقراطية .
من دون تلك الرؤى ، كلها، لا توصل غيرة الشعب الكردي وكل شعب مصاب بالكآبة واليأس ، إلاّ إلى التوتر العقلي المفضي إلى الشدّ السياسي أو إلى ما لا يحمد عقباه .
المونولوج الكردي في الحرية والاستقلال بدولة كردية ينبغي ان يكون صبوراً ومتواصلا نضاله مع (كل) الشعب العراقي، فكل العراقيين يعانون، الآن، من نفس جراح السكين فوق الحنجرة.
الشعب في العراق الاتحادي ،كله، بما في ذلك اقليم كردستان يحتاج، بهذه اللحظة، اولا وقبل كل شيء إلى عناية ودروس لتعزيز اسس الحياة الديمقراطية وممارساتها. يحتاج العراق كله من شعب زاخو حتى شعب الفاو الى ممارسة مروءة نضالية مشتركة ضد الفقر و الخوف و القتل و المفخخات، ضد قساة العصر من امثال داعش ومن شابههم .
الشعب العراقي يحتاج ،بهذه اللحظة بالذات، الى من يكشف صفحات تاريخه النضالي الموحد ، فوق خط ديمقراطي مشترك، بساحة ديمقراطية واحدة، لكي لا تكون بعض صفحاته وذكرياتها جارحة بما في ذلك صفحات الحلم الكبير والكرامة العظيمة، التي تجسدت بصفحة مهاباد منذ 70 عاما، ما تركتها فاشية ذلك الزمن ان تينع لكي يستريح فيها بعض الشعب الكردي وينعم بالحرية والسلم والديمقراطية.
لكي يزول الحرج عن الشعب العراقي بما فيه الشعب الكردي فأن قضية استقلال اقليم كردستان ينبغي ان تكون قضية مشتركة للشعب ،كله، ولقواه الوطنية ،كلها ، قضية مشتركة بين الحكومتين، المركزية الاتحادية و الاقليم. قضية مشتركة لا يضطرب ولا يتوتر فيها أي طرف من اطرافها لأن نتائجها ستكون لونا جديدا من الحياة الطبيعية بين العرب والكرد ،غير مقيدة ولا مغلولة ، بل قائمة على اسس من الديمقراطية الحقيقية يمكن ان تكون اساسا لتجربتين مستقبليتين في ايران وتركيا ، ينعم بها كل الكرد بالحرية والديمقراطية والكرامة الانسانية.
أرجح أن زيارة السيد مسعود البارزاني قبل ايام الى بغداد ساعدت وتساعد على استبعاد كل احتمالات التوتر بوقت الاستعداد لزمان فاصل حاسم، بمعركة حربية واسعة وعظمى مع الدواعش المتوحشين. كانت هذه الزيارة بلا حزن ولا شكوى ولا ايثار من طرف على طرف آخر. انها اشارة تعني جميع الوطنيين بمعالجة قضايا الوطن، ليس فقط بعين السياسيين الحكماء، بل بعين العلماء والنابهين من الوطنيين الخلصاء، بحوار مهما طال زمانه كي تعيش البلاد العراقية، كلها، هادئة مطمئنة ، متحققة احلام الشيب والشباب فيها، كما اشار الشاعر المتنبي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 1 – 10 - 2016