المنبرالحر

هادي العلوي اذا ما بعث حيّاً في زمن العوار: حيث الفساد "وجهة نظر" والفاسد "رجل دولة"! / فخري كريم ( ١ )

في نهاية القرن الماضي، وفي حُمّى التغييرات العاصفة التي عشناها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، عقدت هيئة تحرير مجلة "النهج" بتركيبتها الجديدة، التي ضمت نخبة مفكرين من العالم العربي، اجتماعها الاول لتحديد وجهتها الفكرية والسياسية الجديدة.
كانت "النهج" قبل ذلك، منبراً مشتركاً للاحزاب الشيوعية والعمالية في العالم العربي، وتوقفت عن الصدور بعد التحولات التي رافقت عواصف التغيير، وانعكست آثارها على الحركات والاحزاب الشيوعية وحركات التحرر الوطني، ولم تسلم من آثارها السلبية، الحركات الاجتماعية في البلدان الرأسمالية، التي بدأت حكوماتها تعيد النظر في البرامج الاصلاحية الاقتصادية، وتُفكِّك هيكلية "دولة الرفاه" لتصفي بموجبها، تدريجياً، الكثير من الامتيازات والحقوق التي كانت قد تنازلت عنها لتحسين شروط حياة الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية محدودة الدخل، والنقابات العمالية والمهمشين اجتماعياً.
كان التوجه الجديد المفترض اقراره لمجلة "النهج" يعتمد قدراً واسعاً من شروط حرية الكتابة والتناول والمعالجات الفكرية والسياسية والاقتصادية للظواهر التي تفرض نفسها في ظل العولمة "وحدانية القطبية"، "المستبدة" بطبيعة هيمنة القوة العسكرية في بنيتها.
لقد أدى التغيير العاصف في العالم، الى انقلاب في "المفاهيم" و"القيم" و"الثوابت". وتاهت الحركات الفكرية، وطائفة من المفكرين والاحزاب، في دوامة "تجديد نفسها" ونفض غبار الماضي عنها، وتغيير اسمائها ولافتاتها، كما لو انها باتت ممسوسة بوباءٍ ينبغي "التطهُّر" منه بأي وسيلة، وتحت اي شعار، وبأي لبوس!
كان العالم العربي، والبلدان "العالم ثالثية" ميداناً ملغوماً بهاجس "التطهُّر" والتغيير، مع انها لم تكن تشغل حيزاً فاعلاً في عملياته، يُمَكّنُها من التأثير في وجهته. فموقعها ك"تابع" يخضعها للتأثيرات العرضية، التي يفرزها الصراع الضاري بين "المعسكرين" الاشتراكي والرأسمالي، وهي "تداور" خياراتها السياسية وفقاً لموقعها من طرفي الصراع، وتبعاً لذلك "تُفبرِك" صياغة النظريات والمفاهيم التي تعكس "تبعيتها"، دون ان تعبر عن حركة الواقع ومتغيراتها، او ان تعبر عن نبض مجتمعاتها المتخلفة. ولبرهة تاريخية ظلت البلدان المذكورة، تعيد انتاج وضعها المأزوم، وهي في حيرة وتجاذباتٍ متناقضة.

( ٢ )
في تلك الاجواء "المحيّرة" كان هناك مفكرون وكتاب، اعتادوا "استسهال" التكّيُف، اعتماداً على الاستنساخ والتجسير و"الردح" الفكري والنظري، ثم وجدوا انفسهم في حالة "انعدامٍ للوزن"، وضياعٍ فكري، وانفصال عن الواقع، يعمقه غياب دليلٍ جاهزٍ كان البعض منهم يعتمده في تحديد معالم طريق التطور. ومع الانسلاخ القسري عن الماضي، الذي اتضح انه غير قابل للانبعاث من جديد، بدأت موجات "التجديد" النظري المتهالكة، للعالم الجديد الذي نقل البشرية الى "مصاف العولمة" وآفاقها "الواعدة" المرائية. واتخذ نقد الماضي "الاشتراكي" طابع مراجعة فوضوية، اقرب ما تكون الى "البراءة و التطهر" والنقدٍ العبثي "للاشتراكية"، والتخلي الفظّ عن مفاهيمها وقيمها، واطرها السياسية والتنظيمية. وبلغ الانسلاخ و"التطهر" عند بعض الكتاب والقادة مستوى من الاسفاف، حد إدعاء انهم "تنبأوا" بانهيار "المنظومة الاشتراكية" كنتيجة حتمية للتآكل والتصدعات البنيوية العميقة، التي تعرضت لها بسبب "الجمود والتحجر و"الرثاثة" غير القابلة للحياة!
حملت تلك الظروف طائفة من "التنظيرات الشكلانية"، ذات الطابع التبشيري، بمرحلة توافقات واندماجات في المصالح، وتعديلات او "تكييفات" في المفاهيم وما تستوجبها من "تنازلاتٍ" و"أطر" سياسية وحزبية، وانبثقت بالتلازم مع تلك الظواهر "التجديدية" مؤتمرات وتجمعات وحوارات بين الاحزاب والحركات القومية والاشتراكية والاسلام السياسي. واقيمت ندوات فكرية "للتصالح" بين روافدها، وفي مستوى اكثر اسفافاً، تصاعدت دعوات تبشر بالخيار الثالث، و"الكتاب الاخضر". وتجرأ قادة آخرون على وضع "القرآن" باليمين و"رأس المال" باليسار، كناية عن توحيد الاسلام والاشتراكية!
وكان ابرز جهدٍ "فكريٍ" شهدته تلك المرحلة من "الخواء" والتسطيح، مبادرة "تجديد الاشتراكية"! كما لو ان الاشتراكية "فُصِّلت" في بلداننا، وشهدت ولادتها الطبيعية في العالم الثالث. او ان الاحزاب الشيوعية والعمالية اعتمدت في وثائقها، برنامجاً اشتراكياً وتوجهاً لتطبيقه. مع ان الواقع يدلل بالاستناد الى وثائقها البرنامجية، ان اياً منها لم يكن ينص الا على برنامج "انتقالي" يتماشى مع واقع دول اتسم بالتخلف، وضمور التبلور الطبقي. وقد تجسد ذلك البرنامج فيما اطلق عليه، طريق "التطور اللا رأسمالي" لتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. والزعم بتجديد الاشتراكية عربياً، يكاد يُشبه الدفع ببراءة الشيوعيين من تهمة الالحاد! اذ ليس في اي برنامج من برامج الاحزاب الشيوعية والعمالية، نص يتعلق بالضمير وبسرائره، وبنوازع الايمان والالحاد.

( ٣ )

من بين "المفاهيم" التي تغيّرت بفضل الانهيار وتسربت في الاواني المستطرقة، لتتنعَّم بها الشعوب والامم في ظل "العولمة الكوكبية"، هو "الفساد" بمختلف مظاهره وتراكيبه وتسمياته. وتزامن ذلك مع تحول المافيا من ادارة اقتصاد الظل "السوق السوداء" الى قيادة الدولة في الاتحاد السوفيتي السابق، وبلدان "المنظومة الاشتراكية".
كانت السوق السوداء جريمة يتعرض المتعامل فيها، في ظل "النظام الاشتراكي" الى الملاحقة، والسجن المشدد. لكن حجم السوق السوداء الذي كان يُسمى ب"اقتصاد الظل"، بلغ مستويات تهدد اقتصاد الدولة، وتنخر في هيكله. والتأثير الاخطر للسوق، كان يتمثل في القيم والمفاهيم والعادات التي يشيعها في المجتمع، والتفاوت في المستوى المعيشي، للافراد والجماعات التي تنخرط بمعدلات متزايدة، في عمليات وتجارة السوق السوداء، وانعكاسها المباشر في تردي آليات واداء "السوق الاشتراكي" والازمات التي تنتج عنها على حياة المواطنين.
في تلك المرحلة "النافضة"، اصبح المحكومون بجرائم السوق السوداء وممارساتها، ومنهم من حكم بالاعدام، "سجناء رأي" و"شهداء قضية"، بوصفهم ضحايا النظام الشمولي، وفقاً للمفاهيم السائدة في الغرب الرأسمالي!
ومع تباعد المسافة، او الحد الفاصل بين انهيار تلك الانظمة، ورسوخ بدائلها السائرة على طريق التطور الرأسمالي، بدأت منظومة القيم والمفاهيم والمبادئ، الاجتماعية والاخلاقية التي ارتبطت بتلك الحقبة او تزامنت معها، "تبهت" و"يتضاءل تأثيرها" ثم "تضمحل" في المجتمع، وبين الافراد. وتَغَيَّرتْ ايضاً توصيفات وتعاريف العمال والفلاحين، واعيد توصيف الطبقات المتوسطة، حسب شرائحها ومواقعها من العملية الانتاجية، التي طغت عليها التكنولوجيات المتطورة، ودفعت فئات اوسع من المجتمع الى الانفصال عنها، فيما يُشبه الاغتراب.
ومن قوة الصدمة المعرفية التي أفاق العالم عليها، بدا المشهد كما لو انه مراسيم احتضار، واعلان دراماتيكي عن نهاية التاريخ!

( ٤ )

في عامٍ تال لانهيار جدار برلين، ودفن الاتحاد السوفيتي، مشيعاً بطقوس بيروسترويكا ميخائيل غورباتشوف، كان هادي العلوي، الفقيد الكبير، الصوفي، المترهب على طقوسٍ اسلامية، مسكوناً بدفقٍ مضاعفٍ من الايمان بالقيم الانسانية العليا، محروساً بتابواته، وحصانته من الدنيويات الهشة، غير القابلة للتعايش مع تساميه عليها، حتى في تلك المفردات التي تشكل مقومات اولية للحياة الطبيعية. لم يكن مستعداً لأي مستوىً من التسوية، او غض النظر عما يتعارض او يتناقض معها. انصاف الحلول او تجزئة المفاهيم، او ليّ المبادئ، كانت تعني بالنسبة له شيئا في مصاف الخيانة، والهرطقة القيمية.
أثيرت في الاجتماع الاول لهيئة تحرير مجلة "النهج"، تحت تأثير تلك الاجواء المهمومة والمُرهَقة بعملية التجديد الفكري والنظري، توجهات لرسم الملامح العامة لسياسة المجلة ومنطلقاتها الفكرية.
وكان جلياً ان الاقتصاد يشكل قاعدة البنيان الفكري والسياسي للمجلة. طرح المفكر الماركسي الكبير الدكتور صادق العظم، طائفة من الهموم التي رأى انها جديرة بالمعالجة والتحليل في اعداد "النهج". وبين الموضوعات التي رأى انها اساس همٍ مجتمعي في البلدان العربية، وسورية منها، "ظاهرة الرشوة". وفي تقدير العظم ان زاوية التقييم للظاهرة لا بد ان تتغير، لتأخذ بالاعتبار البون الشاسع في دخول المواطنين، والتفاوت بين الطبقات والفئات الاجتماعية، وما يترتب على ذلك من عوز وفقر واملاق. ومن هذا الاستدراك، علينا ان نفهم ان الرشوة "ما هي إلا شكل من اشكال اعادة توزيع الثروة في المجتمع"!.
قبل ان ينتهي العظم من تفسير مفهومه للرشوة، واضاءتها بمزيد من الشرح والتدليل الاقتصادي والمجتمعي، نهض الفقيد هادي العلوي، وعلامات السخط والاستنكار والغضب قد غطت ملامحه، واشعرتني بقلق عليه من اصابة قلبية.
ظل وهو واقف يرتجف، يردد بصوت مسموع: خيانة، انحراف في القيم، تدليس وتبرير للسقوط البرجوازي!
انفردت به في غرفة مجاورة محاولاً تهدئته، وثنيه عن الاستقالة من هيئة التحرير. خاطبته بكل ما احمل له من ود وتقدير: دعنا نتجاوز المجلة، ولنقرر معاً التخلي عن قرار اعادة اصدارها. ولنبحث عن فريق متجانس يتشارك معنا الرؤيا، بالنحو الذي تريد التبشير به، فهل لك ان تحدد بضعة اسماء تصلح للمهمة وفقاً لما نعتقد وننوي العمل بموجباته الفكرية؟ سينتهي البحث، كما قلت، بانفرادنا وربما آخر، على اتفاقٍ ضمني، وسنكون نحن كتاب المجلة وقراءها في نفس الوقت. فالعالم من حولنا يتعرض لعاصفة هوجاء مدمرة، والناس يتغيرون، وطوبى لمن ينجو من الاستسلام لموجاتها المناهضة لقيمنا، وقسماتنا الانسانية.
قاوم هادي العلوي حتى النفس الاخير، الابتذال الفكري، والمسايرة المخلة لدواعي ما يراه انحرافاً عن خط التطور والانبعاث الانساني. وعاش بانشغالاته وانحيازاته وتشوفاته لكل ما هو عميق الصلة بالناس، متخلياً عن كل ما يحول بينها وبينه، في اطار "جمعية بغداد المشاعية" التي كان يتقاسم مع مريديها، لقمة عيشه الكفيفة.

( ٥ )

مات هادي العلوي"محظوظاً" اذ لم يواجه انهيار منظومة القيم التي تربى وكرس كل حياته العملية وكتاباته، لاشاعتها بين بني البشر. مات مع حلمٍ انبعاث عراقٍ تتوارث اجياله الجديدة، توهجات الزمن الهادئ الجميل، حلم العودة الى الاصول الممتدة في عمق الحضارة الانسانية.
وكان من حظه ان لا يرى خراب العراق الجديد، ولا يستظل بحكم اشباه الرجال، معطوبي الضمير.
ولو قُيّضَ له ان يعيش في هذا الزمن المعطوب الفاجع، غير القابل للترميم، على ايدي زعماء الصدفة البائسة، لمات كل يوم، وكل دقيقة، ولَتَيّبس في زاوية مظلمة في غرفة نومه، بلا حراك.