المنبرالحر

كاسترو على كفتي ميزان التقييم الموضوعي / رضي السمّاك

اُسدل الستار يوم أمس على آخر مراسم تشييع القائد والمناضل الاُممي الكوبي الفذ فيدل كاسترو التي استمرت 9 أيام ، هو الذي الذي رحل عن عالمنا عن عمر يناهز ال 90 عاماً، بعد حياة حافلة من النضال العنيد الذي لا يلين ولا يفت في عضده ضد جبروت أعتى قوة رأسمالية امبريالية متغطرسة ممثلة في الولايات المتحدة والتي هي على مرمى حجر من بلاده ، فقد ووري رماد جثمانه الثرى في مقبرة " سانتا إيفيغينيا دي سانتياغو " بشرق البلاد ، وحسب وكالات الأنباء الغربية فقد قطعت الجنازة الرمادية مسافة ألف كيلو متر مربع من هاڤانا إلى منطقة المقبرة المذكورة، واحتشد مئات الالوف من الجماهير الكوبية في الساحات العامة والطرق السريعة لوداع قائدها أثناء عبور موكبه الجنائزي .
من بين كل الشهادات التي كُتبت عن القائد الراحل تتفرد شهادة صديقه الروائي الكولومبي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز ، الفائز بجائزة نوبل للسلام سنة 1982 ، بمزية كونه خبِره عن قرب وتوثقت العلاقة بينهما على امتداد نصف قرن منذ انتصار الثورة الكوبية في أواخر الخمسينيات حتى رحيل ماركيز نفسه قبل عامين ، بالرغم من ان الشهادة لا تخفي وقوع صاحبها في أسر الإعجاب والافتتان بشخصيته بكل جوانبه السياسية والإنسانية.
ففي المقال الذي خص به صحيفة "غرانما " لسان حال الحزب الحزب الشيوعي الكوبي يُميط ماركيز اللثام عن جوانب لربما ظلت مجهولة لدى العديدين عن شخصيته ، منها شغفه الكبير بالقراءة ، فهو قارئ نهم للموضوعات الاقتصادية والتاريخية ومتابع عن كثب للقضايا الأدبية ، كما يتمتع بقوة بديهية حيث لا يتوقف عن طرح الاسئلة حتى يعرف أدق التفاصيل ، فإذا زاره زائر من أميركا اللاتينية وأعطاه معلومة عن حجم استهلاك الأرز في بلاده فإنه بعملية حسابية سريعة يبدي استغرابه من استهلاك الشخص الواحد ل 10 كيلوغرامات من الرز يومياً ، وهو يعرف عن عدوه الولايات المتحدة أكثر مما تعرفه هذه عنه وعن بلاده ، بل هو يفتخر بأنه طوّر سياسة خارجية لبلاده صلبة أو جسورة تناسب غطرسة الولايات المتحدة وعدم الانحناء الى تهديداتها أو الخوف من استعراض عضلات قوتها العسكرية ، هي التي تصغر عن حجم الولايات المتحدة 84 مرة ، وهو لا يرفض الإجابة عن أي سؤال أو يتهرب منه ،والأهم من ذلك فهو يتأنى في حديثه لاختيار الكلمات المناسبة ، مُدركاً ان اساءة استخدام الكلمة قد تجلب ضرراً لا يمكن إصلاحه .
لكن كاسترو ما كان ليحقق تلك الشعبية المرموقة في أوساط شعبه وفي أوساط حركات التحرر العالمية وتصبح بلاده الجزيرة الصغيرة قدوةً ثورية في ملحمة صمودها الاسطوري الطويل ضد الحرب النفسية التي شُنت عليها والحصار الاقتصادي والعلاجي الطويل المضروب عليها لولا وجود غريمتها الاتحاد السوفياتي القوة العظمى الثانية ، والتي ألقت بكل ثقلها للدفاع عنها وانتزعت تعهداً من عدوهما المشترك بعدم الاعتداء عليها على إثر ماعُرف بأزمة الصواريخ الكوبية العام 1962 .
ومثلما يصعب علينا تخيّل مصير الثورة الكوبية والنظام الاشتراكي الذي أقامه كاسترو في بلاده لولا وجود الاتحاد السوفياتي على الساحة الدولية ،يصعب علينا أيضاً تخيّل مصائر حركات التحرر العالمية كافةً ، وبخاصة في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والتي خاضتها تلك الحركات ضد الاستعمار والأنظمة العسكرية والفاشية لولا وجود كوبا نفسها بقيادة كاسترو بما قدمته من دعم لها كبير متعدد الجوانب سياسياً واقتصادياً وعسكرياً .
وإذا كان كاسترو هو واحد من القادة الوطنيين الكُبار الذين اُخذ عليهم "دكتاتوريتهم" في الحُكم ، بينما ينبري مدافعون بالتذكير ليس بأدوارهم الوطنية التحررية فحسب ، بل والتأكيد على نظافة أيديهم من الفساد وبراء ذممهم المالية ، فإن من ينتقد " دكتاتورية " أولئك القادة وإن صحت نسبياً ، فإنما يضعهم في مقارنة تعسفية بقادة دول غربية عريقة في ديمقراطيتها دون الأخذ في الحسبان ملابسات الظروف الموضوعية التاريخية التي نشأت خلالها تلك الدول المستقلة حديثاً والتي لم تراكم أي تجارب ديمقراطية سابقة ، بل وظل الإرث الاستعماري أحد المعوقات الاساسية التي ما فتئت مجتمعات وحركات تلك الدول تعاني منها في سعيها لتعبيد طريق تطورها المستقل نحو الديمقراطية دون وصايا استاذية من الخارج ، ناهيك عن العراقيل التي يضعها في طريقهاالاستعمار الجديد ممثلاً في نهج الهيمنة العالمية الذي تعتمده الولايات المتحدة لوأد نواة أي تطور ديمقراطي مستقل كما ذكرنا لا يصب في خدمة هذا النهج ومصالحها الرأسمالية الأنانية ، ومن ذلك حماية الانظمة الاستبدادية ودعمها في مواجهة قوى التغيير الديمقراطي ، وتجميل البرلمانات الديكورية للانظمة الدكتاتورية في العالم العربي .
أما فيما يتعلق بالفساد وتوظيف السلطة فهذا القائد وبشهادة أعدائه لم يترك وراءه ثروةً تُذكر للتربح ، ولربما يصح وضع الإنفاق والدعم الاقتصادي المالي والعسكري والتعليمي المخصص لدعم دول وحركات التحرر على ميزان التقييم الموضوعي عما إذا يتصف هذا الدعم بقدر معقول من التوازن بين احتياجات ومتطلباتالشعب الكوبي في التنمية وبين مقتضيات الدعم الاُممي لنصرة الثورات وحركات التحرر العربية والعالمية ، وهذه الاشكالية ذاتها واجهها الاتحاد السوفياتي في سنواته الأخيرة واُتهم لاحقاً من قِبل خصوم نظامه الاشتراكي في الداخل والخارج بأن أشكال الدعم الخارجي التي كان يقدمها كانت على حساب مصالح الشعوب السوفياتية وخاصةً إبان تورطه العسكري في افغانستان لحماية النظام اليساري فيها ، عدا ذلك فإنه في الوقت الذي اُتهم فيه هذا القائد الراحل بحبه لعبادة شخصيته من شعبه ، فإنه أوصى بعدم تسمية أي شارع بإسمه أو ساحة أو مدينة أو منشأة أو مشروع بعد رحيله أو اقامة أي تمثال لتخليده ، بل ان شقيقه رؤول كاسترو الذي خلفه في الحكم منذ ان اقعده المرض قبل نحو عشر سنوات رفض ان يقوم التلفزيون الكوبي بتغطية إعلامية شاملة لليوم الاخير من مراسم التشييع ، في الوقت الذي تزلزلت فرنسا البلد الأول في تقاليد حرية التعبير والديمقراطية لمجرد أن صرحت رويال سيغولين وزيرة البيئة الفرنسية التي شاركت في مراسم الدفن ممثلة لبلادها: " إن الفضل يعود إليه في استعادة الكوبيين أراضيهم وحياتهم ومصيرهم " ، ونسي مهاجمو الوزيرة ماضي بلادهم السياسي الإجرامي بحق شعوب البلدان التي استعمرتها وخاصةً الجزائر !