المنبرالحر

التطرف الإسلامي المعاصر وجدلية تجديد الخطاب الديني / احمد عواد الخزاعي

نشأ التطرف الإسلامي المعاصر، كنتيجة حتمية لتضافر عدة عوامل، يمكن حصرها بمسارين متوازيين في تأثيرهما على صيرورته وانبعاثه، بصورة بدت لعالمنا المعاصر أكثر وحشية من جذوره الضاربة في عمق التراث الإسلامي .. المسار الأول، تقف وراءه أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية، أثرت بشكل كبير على خلق جيل محبط في عالمنا الإسلامي والعربي على وجه التحديد، يعاني هذا الجيل عقدة الإقصاء والتهميش، وينظر الى الآخر بعين الحسد والكراهية والريبة، وقد شكل الفقر والحرمان المحرك الفاعل في نشأة هذا التطرف الإسلامي وديمومته.. فانتشار البطالة، وعدم القدرة على الزواج، وغياب المبادرة الفردية، وتكميم الأفواه، وتغييب الحريات العامة والخاصة من قبل النظم الدكتاتورية التي ربضت لعقود طويلة على صدر شعوبنا الإسلامية والعربية، كل هذه العوامل وغيرها، ساهمت في بلورة رؤية جديدة لبعض أفراد هذا الجيل، حول نظرته للحياة، وسعيه للخلاص وجلد الذات، من اجل نيل رضا الله تعالى، والدخول إلى جنات مليئة بالخمر والنساء الجميلات.. لكن الخطاب الديني والذي يمثل القسم الآخر المحفز لنشأة التطرف، قد عمل على توجيه بوصلة هؤلاء الشباب نحو طرق اقصر واقل عناء، لنيل الآخرة ونعيمها، والهروب من واقعهم المرير، هذا الخطاب الديني الذي يستمد حضوره الفعال والمؤثر من التراث، بشطريه الفقه والتاريخ الإسلامي، فما زال الفقه الإسلامي يدور في فلك القرن الرابع الهجري بأطره الزمانية والمكانية، هذا الفقه الذي يشكل ثمانية بالمائة من آيات القران الكريم والذي تحول إلى كم هائل من المؤلفات والفتاوى الناتجة بفعل تراكمات تاريخية، نابعة من مواقف وانحيازات طائفية اتجاه الآخر، ومصالح سياسية واقتصادية.. فلم يستطع فقهاء القرن الثامن عشر ومن تلاهم والذي يطلق على الكثير منهم بالمجددين ، في أن يخلقوا نوعا من الموائمة الموضوعية بين النص وعامل الزمن، بل على العكس من ذلك، فقد سعى الكثير منهم إلى تحريف مفهوم التجديد وسحبه إلى الخلف وتركيسه، وتكبيل المجتمعات بنصوص دينية لا تتواءم مع طبيعة التطور الحضاري والفكري الذي شهده العالم في القرنيين الأخيرين، وبقيت هنالك فجوة كبيرة لم يستطع المشرع أو المجدد الإسلامي المعاصر سدها أو تحجيمها، بين النص من منظور فقهي يعود إلى قرون سحيقة، وبين مجتمعات تحاول ان تتأقلم مع محيطها، وفق رؤية جديدة للدين والتراث، فاغلب المجددين الذين خاضوا في هذه الجدلية الشائكة لم يستطيعوا الخروج من فلك النصوص الفقهية المقولبة، وكل ما عملوا عليه هو تدوير هذه النصوص وإعادة إنتاجها مرة أخرى بطريقة ( كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء).. فنجد مثلا سيد قطب في كتابه ( معالم على الطريق) والذي ألفه قبل إعدامه بسنوات قليلة .. يفسر في كتابه هذا نظرته المعاصرة للدين والمجتمعات الإسلامية والعالمية بصورة عامة، بطريقة لم تبتعد كثيرا عن التطرف والعودة إلى الإسلام من منظور سلفي متشدد، فهو ينظر إلى ألعالم باجمعه على انه يعيش جاهلية معاصرة بقوله ..( إن العالم كله يعيش اليوم، من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها، في جاهلية لا تخفف منها شيئا هذه‏ التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الهائل (.. وفي موضع آخر من الكتاب يدعو إلى إعادة تجديد الإسلام من عقدة الانطلاق من الأصل، أي إعادة اسلمة المجتمعات الإسلامية مرة أخرى ..( كذلك ينبغي أن يكون مفهوما لأصحاب ‏الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين يجب ان يدعوهم أولا، إلى اعتناق العقيدة حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين وتشهد لهم شهادات الميلاد إنهم مسلمون، يجب أن يعلموهم إن الإسلام هو، أولا، إقرار عقيدة لا اله إلا اللّه بمدلوله الحقيقي، وهو رد الحاكمية للّه في أمرهم كله وطرد المعتدين على سلطان اللّه بادعاء هذا الحق لأنفسهم، ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام أول مرة، فإذا دخل في هذا الدين، بمفهومه هذا الأصيل، عصبة من الناس فهذه العصبة هي التي يطلق عليهم اسم المجتمع المسلم، الذي يصلح لمزاولة النظام ‏الإسلامي في حياته الاجتماعية، لأنه قرر بينه وبين نفسه أن تقوم حياته كلها على هذا الأساس والا يحكم في حياته كلها إلا اللّه) انتهى كلام سيد قطب.. وهنا نلاحظ الإشكال الكبير الذي يكتنف حديث سيد قطب، ومحاولته خلق حالة من التجديد تعود بالمجتمع الإسلامي إلى جذوره التي تختلف بيئيا وزمانيا عن عصره، حيث يشير إلى أن أفضل عصر مرت به البشرية في مسيرتها الإنسانية هو عصر الصحابة أي القرن الأول الهجري، وأصبح من الضروري العودة إليه بكل حيثياته، وأطلق عليهم مصطلح العامل الثالث في نهضة الأمة الإسلامية، وهذا ما تفعله الجماعات الإسلامية المتطرفة اليوم ، وذلك باستحضارها للقرن الأول الهجري بكل تفاصيله، وظروفه الاجتماعية والاقتصادية ..( العامل الآخر هو أن الصحابة، اي الجيل الأول، كانوا يقرؤون القرآن، كمن يتلقى الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى‏الجندي في الميدان الأمر اليومي ليعمل به فور تلقيه).
هذه الجدلية الضبابية الكبيرة في عالمنا الإسلامي جعلت الفرد المسلم أسير لأدلجة قسرية مقدسة يخشى التشكيك بها أو تجاوزها، بل عملت على تحيده عن المفهوم الحقيقي للنص المقدس والقيم الإنسانية للإسلام، وهذا ما نراه بوضوح اليوم في عالمنا الإسلامي المعاصر وانتشار ظاهرة التكفير والقتل والسبي ، وفق رؤية دينية سلفية تفرض نفسها على الواقع بقوة السلاح، وتستمد ديمومتها وأبجدياتها من تراث ضبابي بحاجة الى عملية شاملة لإعادة النظر فيه، والى ثورة راديكالية تجديدية حقيقية لترتيب أولوياته وإعادة صياغته وفق نظرة عصرية تنظر إلى الإنسان كقيمة عليا، بغض النظر عن انتمائه الديني والعرقي، ويشترك في صياغة هذا الفكر المتجدد فئة الشباب التي تشكل سبعين بالمائة من عالمنا العربي، وبكافة اختصاصاتهم وتوجهاتهم، ليساهموا في خلق دين يأخذ من التراث روحه القيمية والاعتبارية وخطوطه العريضة الغير قابلة للتأويل او التشكيك، وهذا ما أشار إليه كل من المجدد الشيخ محمد عبدة، فعبر عن هذا الموقف بقوله.. ( أن التقليد نفسه هو المشكلة سواء تقليد المشايخ فيما ابتدعوه من بدع و خرافات و أوهام يحشون بها مناهج الأزهر، أو التقليد النصي للسلف الصالح بدون إبداء مرونة في التعامل مع مستجدات العصر وتغير المكان والزمان ).
وجاء بعده المجدد الكبير السيد محمد باقر الصدر ليؤكد هذا المعنى في كتابه المدرسة الإسلامية..( إن الحركة الغائية للتاريخ تختلف بصورة جذرية عن التصور القائل بالعودة إلى ما كانت عليه الأمة في عصر ذلك‏ الجيل القرآني الفريد، جيل الصحابة، فمسيرة الأمة مسيرة تكاملية متواصلة، والعودة إلى الوراء، أو إلى نماذج تاريخية ‏ذاهبة، أمر مستحيل، فنحن في انتظار عودة جديدة للدين لا ترتبط حرفيا بذلك الأنموذج الذاهب، بل هي عودة جديدة ‏بقيادة جديدة وأساليب جديدة، وان بقي المضمون واحدا، وهو الإسلام) .. وهنا نلاحظ الفرق الكبير بين الرؤيتين المعاصرتين، بين يريد العودة بالأمة والإسلام إلى القرن الأول الهجري والتعاطي مع شعوب العالم وحضاراتها وفق هذا المنظور القاصر، وبين من يرى ان الإسلام هو منظومة قيمية يجب على المسلم استلهام هذه القيم وجعلها مشتركات تربطه مع الآخر، وتتفاعل بايجابية مع التطور التكنولوجي والحضاري الذي يشهده عالمنا المعاصر، ومن هنا تنطلق جدلية التجديد الإسلامي، كيفيته ؟ وما هو الدور الذي يجب أن يلعبه ؟ ومن أين ينطلق ؟ وما هي حدوده التي يتوقف عندها ؟ ومن يمتلك الجرأة الكافية، لقيادة مثل هكذا مشروع تنويري ؟ بعد أن فشلت ما بين أيدينا من طروحات منطقية تجديدية في أن تأخذ حيزها الطبيعي في الفكر الإسلامي المعاصر، لأسباب سياسية وأخرى طائفية.. كل هذه الأسئلة تبقى معلقة بانتظار إجابات كبيرة، بحجم الأزمة التي تعيشها امتنا الإسلامية، وبحجم الدماء التي تسيل باسم الله والدين.