المنبرالحر

الصحة النفسية وسياقات التصدي المجتمعي للتطرف والارهاب / د. ماجد الياسري

كان أحد نتاجات عولمة الإرهاب وامتداده الى مختلف بلدان العالم العربي والإسلامي واوروبا وأمريكا واستراليا هو انتشار أفكار التطرف والتحاق عشرات الالاف من الشباب بالمنظمات الإرهابية بتعدد مسمياتها وأنواعها متنقلين بين سوريا والعراق وليبيا وغيرها واعتبرت هذه البلدان الإرهاب والتصدي له عسكريا واستخباراتيا ومجتمعيا خاصة على صعيد مكافحة نمو مظاهر التطرف بين الشباب ومن الجنسين من الأولويات الوطنية ومهمة لكافة مفاصل الدولة ومؤسساتها.
فمثلا يتم على الصعيد الوطني في سياقات التصدي للإرهاب رسم خطة وطنية عليا لمكافحة الإرهاب تشمل الجوانب الأمنية والعسكرية والاستخباراتية والإعلامية تقودها هيئات وفرق عمل متخصصة وترصد لها ميزانية خاصة تفي باحتياجاتها. الا ان التحدي الأكبر هو على الصعيد المجتمعي خاصة في إيجاد وتطوير اليات قادرة على رصد وتشخيص ومتابعة ومساعدة الشباب الذين يصبحون نتيجة عوامل اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية عرضة للانسياق والخضوع الى الإرهابيين المحترفين من الدعاة والمحرضين لتبني التطرف فكرا وممارسة الى حد الانتماء الفعلي الى تنظيمات سرية والمشاركة في أنشطة إرهابية في الشرق الأوسط او شمال افريقيا او في تنفيذ جرائم في داخل البلد ذاته كما حدث في بريطانيا وأمريكا واستراليا وفرنسا والمانيا وبلجيكا سواء المشاركة مع عدد اخر من الإرهابيين للتنفيذ (عملية شارلي إيبدو مثلا في باريس ) او منفردا ( كحادثة قتل العسكري ريجبي في منطقة ويليج في لندن او حوادث القتل بالدهس كما حدث في (نيس وبرلين ) . وتشير الدلائل إلى ان سياسة داعش الحالية هي توجيه المتعاطفين معها او من يود الانضمام إليها بالبقاء في بلدانهم واستخدام كل ما هو ممكن ومتاح كأسلحة لقتل وترويع المواطنين مثل وسائط نقل او بالسكين ومساعدة الإرهابيين والمتطرفين ماليا ولوجيستيكيا او استخدام أدوات التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر والفضاء الرقمي للترويج للأفكار الإرهابية الداعشية. وهناك تقديرات أيضا ان هزيمة داعش في سوريا والعراق ستعقبها هجرة معاكسة الى البلدان الخليجية وشمال افريقيا ومختلف بلدان العالم الغربي من قبل عناصر مدربة بشكل عال عسكريا وتقنيا.
النموذج المجتمعي البريطاني
واجهت بريطانيا خلال السنوات الماضية تحديا خطيرا حيث ذهب الى تركيا والعراق وسوريا ما يقارب 800 شاب وشابة للانخراط في تنظيمات داعش عاد منهم بحدود 50 في المائة، كما وازداد عدد المتعقبين في بريطانيا بتهم إرهابية بنسبة 35 في المائة، في عام 2015 مقارنة بـ 2010 . وفي الفترة ما بين 2015و 2016، أوقفت شبكة تويتر 125000 حسابا لعلاقتها بالإرهاب وحذف جوجل مايقارب 14 مليون فيديو. وهناك شبه اتفاق بين المختصين على ان تفسير الانحراف نحو التطرف له أسباب ودوافع وعوامل مساعدة واخرى جاذبة الا ان المحصلة النهائية هي الوقوع في فخ وحبائل الأوساط المشجعة والممولة للإرهاب ولكن وبسبب ان كل فرد يسلك طريقه الخاص فان قضية تشخيص وتحديد البدايات الأولى صعبة جدا وهي موضع جدل ودراسات معمقة من مراكز الأبحاث مع اجماع على أهمية الدور المؤثر والفعال لشبكات التواصل الاجتماعي في ترويج الفكر الإرهابي والتجنيد اصافة الى استخدامها كوسيلة اتصالات وتخابر وتبادل المعلومات واستلام التوجيهات . وفي بريطانيا مثلا تم وضع برنامج وطني للتصدي لكافة اشكال التطرف والإرهاب على الصعيد المجتمعي في المدن البريطانية وعلى مستوى البلديات والإدارات المحلية وبالتعاون مع المؤسسات الحكومية والتربوية والصحية بهدف الوصول الى الضعفاء ممن يمكن ان ينساقوا الى الفكر المتطرف والإرهابي ومساعدتهم وحمايتهم وعوائلهم من التبعات الخطيرة التي تهدد حياتهم والاخرين والامن الوطني. والهدف الرئيس هو حماية هؤلاء الشباب وعوائلهم من مخاطر الانزلاق في النشاطات التطرفية العنيفة التي قد تؤدي بهم الى الموت او الوقوع تحت طائلة القانون في حالة ارتكاب أفعال مخالفة له.
ولهذا البرنامج محوران:
المحور الأول: ويسمى بـ " المنع " وهي هيئة على مستوى إدارة محلية يديرها متخصص من الإدارة المحلية في سياقات التصدي للتطرف والعنف المجتمعي نتيجة الترويج للكراهية والبغضاء على أساس عنصري وتضم أعضاء من مؤسسات المجتمع المدني المحلية كتنظيمات محلية من الجاليات الآسيوية والشرق أوسطية او منظمات شبابية ومراكز دينية وتعني بالتطرف بكافة اشكاله وانواعه ودورها الأيديولوجي في الترويج للفكر المعادي للتطرف وتشجع وتعمل على التلاحم المجتمعي وتعزيز المناعة المجتمعية ضد كل اشكال البغضاء والعداء وتقوية روح المواطنة واحترام حقوق الانسان والتنوع المجتمعي ويمتد نشاطها الى المؤسسات والأندية والمدارس لرفع مستوى الوعي تجاه ايديولوجيات وممارسات التطرف وكل ما يشيع مظاهر العداوة والبغضاء في المجتمعات المحلية لمنع انحدار الشباب نحو البؤر التي تشجع الإرهاب .
ويشمل دورها اقتراح دورات تدريبية لتطوير كوادر تدريسية ذات خبرة في فهم وتشخيص مظاهر التطرف وإحالة الافراد الذين يطهرون نقاط ضعف على مستوى السلوك او الفكر للانخراط في نشاطات ذات صلة بالتطرف والإرهاب وتقديم مناهج دراسية للتصدي لإشكال التطرف في المدارس.
وبسبب حساسية الموضوع وعلاقته بسياقات التصدي الوطني للإرهاب كان هناك جدل حول موضوعين الأول عن خطر تقويض الحريات الشخصية والثاني التركيز على أيديولوجيا دينية محددة كسبب للتطرف والذي قل بعد ان تم تدقيق المفاهيم والسياقات وضمان احترام حرية ممارسة الشعائر والتمييز بين الدين كحق روحي انساني والتوظيف السياسي للدين الهادف الى الترويج للتكفير والإرهاب.
هذا الجدل سيستمر وهو امر إيجابي لأنه يسهم في خلق التوازن الذي يسمح بديمومة الدولة المدنية ويبعد مخاطر السياقات الخاطئة المعتمدة على تقديرات غير دقيقة.
المحور الثاني: ويسمى بـ " التواصل " والذي عمم في نيسان 2014 . ويتكون اطاره التنظيمي من لجنة تتشكل من فريق عمل مهني متعدد الاختصاصات والكفاءات ويقوم بتقديم الخبرات والدعم وحماية الافراد الذين أصبحوا تحت تأثير الأفكار المتطرفة والإرهابية.ويقود الفريق المهني شخصية من كوادر الإدارة المحلية مؤهل ويقوم باستلام الاحالات من جمعيات خيرية أو منظمات ومنها مدارس ومؤسسات دينية ومراكز صحية أو عوائل او افراد. وتصان المعلومات الشخصية مع شفافية في أشكال وأساليب التعامل وبهدف حماية الشخص وتقديم الدعم والعون والمساعدة والنصيحة مع ضمان سرية المعلومات الشخصية ويتم قبوله فقط في حالة موافقة الشخص المحال ذاته طوعيا.وبعدها يتم تدقيق وتحليل المعطيات المتوفرة من العائلة والمدرسة وغيرها لتفادي الاخبار الكاذب لأغراض عدائية ومن ثم اجراء عملية التقييم الاولي وبضمنها تدقيق وتقييم المخاطر في إمكانية التصدي للتطرف وشدة الحالة حسب السياقات المتبعة مع مواصلة تقييم الاستجابة للمساعدة المقدمة للشخص. وتناقش الحالة في اجتماع لجنة التواصل الدوري للتأكد من ان هذا هو الأسلوب المناسب والأفضل للتعامل معها وتحديد الجهات المتخصصة نفسية او اجتماعية وغيرها التي يجب تحويل الحالة إليها واية جهات مهتمة بالمعالجة والتصدي للمخاطر ومنها مثلا اجتماع تقييم الحالات الصعبة او الجهات والمؤسسات التي تقدم الدعم من النشاطات المختلفة وتقليل العزلة المجتمعية عبر التدريب والمساعدة في المشاركة في البرامج التعليمية والعامة التي تشجع الاختلاط والتواصل مع الاخرين والمساعدة في توفير مجالات التعليم والسكن والصحة وتنظيم حياة الشخص كالعمل والمهنة والدعم العائلي والروحي حسب طبيعة ونوع التطرف. فعلى سبيل المثال هناك شخصيات من طوائف دينية تتولى تقديم النصح والارشاد الروحي والتصدي للفكر المتطرف.
ومن أعضاء الفريق الأساسيين الباحث الاجتماعي والمرشد النفسي الذي يسهل عملية التواصل مع المؤسسات الاجتماعية او النفسية التابعة مثلا لوزارة الصحة.
وفي ما يلي جدول احالات من 2007 و لغاية 2014:
من هؤلاء 1450 اقل من عمر 18 سنة منهم 50 في المائة، من ديانات غير الإسلام.
التطرف والصحة النفسية
وتأتي أهمية التواصل مع المؤسسات الصحية النفسية لان التقديرات حول أهمية ودور العوامل النفسية التي تتطلب تداخلا سريريا مهنيا قد اختلف خلال العقد الأخير وخاصة بعد 11 أيلول 2001.
ففي السبعينات مثلا كان التصور الغالب هو عدم وجود علاقة بين السلوك الإرهابي والحالات النفسية السريرية كالمرض العقلي وقد بني هذا الاستنتاج على أساس تحليلي لعدد محدود جدا من الدراسات المتوفرة التي اعتمدت على الملاحظة بسبب صعوبة الوصول الى عينات يمكن دراستها بحثيا. وفي 2007 نشر فريق بحثي بإشراف البروفسور بول ميلين أستاذ الطب النفسي العدلي ومدير معهد الصحة النفسية العدلية في فيرفيلد في استراليا دراسة عن 24 حادثا عنفيا استهدف شخصيات سياسية عامة في اوربا الغربية بين الفترة 1990- 2004، ادت الى وفاة 5 وأصابه 8 بجروح خطيرة . 10 من الذين ارتكبوا العمل العنيف يعانون مرضا عقليا (وهم المسؤولون عن اغلب حالات الوفاة والجروح الخطيرة) و9 فقط لأسباب سياسية.
ومن أهم الاستنتاجات
1. نسبة كبيرة من منفذي العمليات يعانون مرضا عقليا
2. وجود اعراض سبقت الاعتداء تشير الى احتمالات الهجوم العنيف
3. تشخيص هذه العلاقة ممكن ان يقلل من مخاطر اعتداءات لاحقة عبر اعطائهم الفرصة للعلاج لتقليل مخاطر الاعتداءات مستقبلا.
وفي دراسة استعراضية نشرها جيف فيكتوروف أستاذ في قسم الاعصاب والصحة العقلية استعرض فيها العلاقة المعقدة بين الإرهاب والصحة النفسية على أساس كاليفورنيا في 2005 معطيات اكاديمية لدراسات منشورة في مجلات علمية رصينة والنظريات التي تحاول تفسير السلوك الإرهابي على أساس سوسيولوجي بالاعتماد على نظريات علم الاجتماع ( فرضيات منها التعلم الاجتماعي وفرضية الإحباط – العدوان او الحرمان النسبي او الاضطهاد او البيئة الحضارية النسبية)
او بالاعتماد على العلوم النفسية ومنها أنماط شخصية الإرهابي التي تم توصيفها على أساس قياسات للشخصية او نظرية الخيار العقلاني أو بالاعتماد على التحليل النفسي ( والتي يقسمها الى أربعة اتجاهات الأولى توكد على نظرية الهوية والثانية حول النرجسية والثالثة تركز على البارانويا والاخيرة حول التفكير المطلق) او على فرضيات أخرى مثل النظرية العقلية او السلوك الذي يسعى الى الاثارة او السلوك الذي أساسه الإحساس بالمذلة والسعي نحو الانتقام او المعتمدة على الديناميكية الداخلية للجماعات.
وبشكل عام فان ما قدمته الفرضيات النفسية لتحليل السلوك الارهابي مخيبا وافتقدت الاستنتاجات المبنية على بحوث رصينة والذي هو نتاج عوامل عدة منها:
1. صعوبات عملية بسبب ان اجراء بحوث وانتقاء عينة مناسبة يتطلب التواجد في مناطق غير مستقرة سياسيا وساخنة امنيا , ولهذا نجد ان اكثر من كتب ملاحظات عن سلوكيات الإرهابيين هم من الإعلاميين وليسوا اكاديميين متخصصين
2. ان الجهات الرسمية التي تقود عملية مكافحة الإرهاب لا تتعاون مع جهات اكاديمية وطنية او دولية لإجراء بحوث رصينة ذات أهمية للبلد ذاته بالدرجة الأولى عبر انتقاء عينات مناسبة حسب مواصفات البحث ويعكس حالة ما أسمية بمرض " عسكرة " التصدي للإرهاب الذي يرى ان مكافحة الإرهاب تتم عبر العمليات العسكرية فقط ولا يجد أهمية في ما يمكن ان تنتجه دراسات رصينة من هذا النوع في اغناء سياقات التصدي للإرهاب مثلا حتى على الصعيد الأمني
3. ان الارهابين ذاتهم غير متحمسين للتعاون مع بحوث من هذا النوع وينظرون اليها وإلى القائمين بها بعين الشك.
4. ان ”البرادايم" او النموذج النظري لتفسير السوك الإرهابي معقد وموضع جدل وبالتالي لا يسهل عملية رسم منهاج بحثي لدراسة الظاهرة.
وفي استعراض نشر حديثا لاهم البحوث حول العلاقة بين الاضطرابات النفسية ( 2016 ) من قبل باحثين لهم اهتمام بها الموضوع كان اهم استنتاج هو زيادة نسبة الحالات المرضية العقلية لدى الإرهابيين المصنفين كهجوم من نوع "ذئب منفرد".
وفي تشرين الثاني 2016 عقد مؤتمر متميز والأول من نوعه في مدينة كامبردج ضم العشرات من الأطباء المتخصصين في الطب الشرعي والعدلي من بريطانيا وأوروبا وأمريكا وكندا تحت عنوان "التطرف والإرهاب والخدمات الصحية النفسية " وقدمت فيه بحوث وتجارب عملية اكدت جميعها على ضرورة الاهتمام بتقييم الصحة النفسية لدى الشباب الذين يقحمون في دوامة التطرف وأيضا اعتماد معايير موضوعية لتقييم المخاطر مع برامج عملية سريرية للتصدي لها ويمكن تلخيص الموقف العام الحالي ان هناك حاجة الى المزيد من البحوث الرصينة تتناول دور الحالات النفسية السريرية في صيرورة " العقل الإرهابي ”وتأثيراته على السلوك العنفي المتطرف.