المنبرالحر

"الرجع البعيد" للتكرلي ونكبة الشعب في انقلاب شباط / نوال ناجي يوسف

أذهلتني القراءة الاولى لرواية الرجع البعيد، قبل عقدين ونصف تقريبا. أذهلتني أدواتها وتقنياتها وأسلوبها المغرق في الرمزية والايحاء، وكان علي، لشدة استمتاعي وتأثري بالرواية، ان اعود اليها ثانية لأقرأها بمزيد من التأني، حتى تتكشف لي عوالمها المذهلة وشخصياتها الملتبسة. وتبدت لي كشريط من معايشات يومية للعذابات التي طحنتنا، ولا تزال نتائجها حتى الان تطحن شعبنا بسادية قل نظيرها. فهي ادانة شديدة الوضوح للانقلاب ومنفذيه.
تتفرد الرجع البعيد بين كل الاعمال الروائية التي تناولت نفس الموضوع انها، اولاً عمل فني بامتياز، تناول مرحلة مهمة ومفصلية في تاريخ العراق، دون ان ينزلق الى التقريرية والمباشرة باي شكل من الاشكال. وثانيا،ً انها صدرت من كاتب لم يلتزم يوما بأيديولوجية سياسية معينة، من هنا تأتي قيمة شهادته الموضوعية على تلك الحقبة الدموية في تاريخ العراق.
تبدو الرواية للوهلة الاولى رواية كلاسيكية بامتياز، تتحدث عن تاريخ أسرة من الطبقة المتوسطة، بأفراحها وأتراحها، بعواطف الحب والكره، اللؤم والطيبة، الرومانسية المفرطة والمادية الاشد افراطا.ً الا انها سرعان ما تتكشف عن تسطير لتاريخ دموي وشخصيات سادية تنتمي الى احزاب فاشية أجهزت بطرق بشعة على ثورة تموز الفتية بأسلوب عمد فيه التكرلي، كعادته في كل رواياته، الى استخدام الرمزية في التعبير.
تقول الباحثة د. بتول قاسم ناصر : " كنت قد تجاوزت التفسير الرمزي لأحداث رواية (الرجع البعيد) على أمل أن أقف عند هذا التفسير في المستقبل وذلك لأني كتبت هذا البحث في زمن النظام السابق والتفسير يشير الى دور النظام السابق ورموزه في الإطاحة بالحكم الوطني في 14 رمضان، 8 شباط الأسود 1963.
... ولقد أكد القاص فؤاد التكرلي في آخر لقاء تلفزيوني معه قبيل وفاته بثته قناة الحرة من خلال برنامج (سيرة مبدع) صحة هذا التفسير الرمزي لأحداث هذه الرواية فذكر أنها رمز يشير الى شناعة فعل البعثيين الذين اعتدوا على شرف وكرامة العراق ومجد تاريخه، وخربوا انجازاته الكبرى وقتلوا قواه الوطنية."
تدور احداث الرواية في بيت قديم في باب الشيخ ببغداد، تعيش فيه اربعة اجيال لأسرة من الطبقة المتوسطة. ولاستخدام التكرلي اُسلوب " تعدد الأصوات " في عكس احداث الرواية، تعاقب علينا ثلاثة رواة: الأخوان مدحت وَعَبَد الكريم وابنة خالتهما منيرة، بالاضافة الى الراوي بضمير الغائب.
يعتبر الكثير من النقاد ان المشهد المروع لاغتصاب منيرة من قبل احد محارمها (ابن اختها عدنان)، هو المشهد الرئيس في الرواية والذي يجسد ثيمة الرواية. كذلك يكاد يجمع اغلب النقاد على ان شخصية منيرة ترمز للعراق وان شخصية عدنان ترمز للبعث.
يقول الباحث نعيم كرم لله الحسان:
"فكل شخوص الرواية وأبطالها يمثل نمطا مجتمعيا تعرض الى الإستلاب والإرباك ومجهولية المصير بعدما تعرضت قيمه الشخصية في الصميم الى تدمير والمحاربة من قبل الوجوه اللامبالية للمحنة التي سببتها سلوكياتهم المدمرة، (فمنيرة) المدرسة الثانوية الشابة في حقبة الستينات والتى تمثل الطموح والتمدن وتعلم المرأة في مجتمع يريد أن ينمو، تتعرض الى محنة قاسية تهدد وجودها في الحياة وتجعلها بلا معنى، مجهولة المصير خائفة ومنعزلة تتملكها رغبة عدمية، بعدما تعرضت الى الإغتصاب وفقدانها رمزية الشرف في جسدها من قبل إبن أختها {عدنان}، والذي يعمل مسؤولاً في الحرس القومي إبان الإنقلاب عام 1963. وبهذا تعتبر محنتها مركبة ومعقدة فالمغتصب هو من محارمها وهذا بحد ذاته إستغراق في محو القيم الثابتة لمجتمع يقدس القيم ويتفانى من إجلها، من قبل غاصب منتمي الى الحرس القومي الذي قاد الإنقلاب ونفذه. وبذلك يظهر جليا مراد الروائي الدال على أن (منيرة) هي الوطنية العراقية وقيمها التي إنتهكت على يد الإنقلابيين الذين يمثلهم (عدنان) قائد الحرس القومي الذي ارتكب الفظاعات بحق أبناء الشعب العراقي."
في حين تقول الكاتبة الانكليزية كاثرين كوبهام :
" النقاد مجمعون على ان منيرة تمثل وترمز للعراق او حتى لثورة 1958 التي اجهضت واختطفت في عام 1963. غير انهم لم يتفقوا، على الاقل في ما هو مطبوع ومنشور، على ماذا يمثل عدنان على المستوى الرمزي، مع ان كثير من القراء يرونه يرمز الى حزب البعث.
" وفِي الوقت الذي اغتصبت القوى الفاشية ثورة تموز الواعدة، فقد تخلت عنها البرجوازية الجبانة. وهذا هو جوهر الفكرة الاخرى للرواية. فعندما تغتصب منيرة في بعقوبة، تهرب الى بغداد لتلجأ الى بيت خالتها، فيتدله ابنا خالتها، مدحت وَعَبَد الكريم، في هواها. ولكون الثاني شخصية عدمية مهزوزة، يتردد في كشف عواطفه طويلاً الى ان يحسم الموقف القرار الذي اتخذه مدحت بالزواج منها. الا ان هذا سرعان ما يتخلى عنها هاربا،ً ليلة الزفاف، بعد اكتشافه فقدان بكارتها. وهنا يتجلى بسطوع جبن وخوف البرجوازية وتخليها عن حماية والدفاع عن ثورة تموز.
في الدلالة على ازدواجية مدحت، الذي يرمز في الرواية الى البرجوازية الصغيرة، نراه يؤكد باصرار تخليه عن منيرة، سواء اضمرت او اعلنت فقدانها عذريتها قبل الزواج. ففي ص 304 من الرواية، يكلم مدحت نفسه بعد هروبه من البيت وترك عروسه تواجه مصيراً مجهولا: "ماذا لو قالت له كل شئ؟ لماذا لم تنبئه بالسر؟؟ لماذا؟ لماذا؟ كان يطلق همهمات هي اقرب الى الأنفاس المكبوتة. سمعها، كان يسمعها وكان ارتجافه يشتد وكذلك خفقان قلبه. لكن ذلك لم يحدث، وهي لم تقل شيئاً. ذلك لم يكن. لم يوجد. ما كان ليوجد، ما كان ليحصل. ولو كان قد وجد وحصل.... لكان تلافاه... كان سيتركها... كان سيتركها، سيتركها. ساوره بعض الهدوء. كان سينجو بجلده. هذا ما كان سيحدث، ولعلها عرفته. ولذلك اختارت له... ماذا، الهلاك البطيء؟ الموت على أربعة أقسام أَو خمسة؟".
عمد التكرلي، الى شطر الفصل الأخير (الثاني عشر)، الى قسمين تحت عنوان واحد، (الزخم والبقاء)، ووضع بينهما الفصل الثالث عشر، الذي يروي انتهاء المقاومة والانتصار الدامي للانقلابيين بقتل عبد الكريم قاسم واستباحة أنصاره. وهذه الحركة من التكرلي، اشارة رمزية بارعة للبيان رقم ١٣، الصادر عن "مجلس قيادة الثورة" والذي فوض أفراد الحرس القومي مليشيا البعثيين الفاشيين صلاحية إبادة كل المعارضين. وقد اثار هذا البيان الذي لم يسبق له مثيل استنكار واشمئزاز العالم.
تنتهي الرواية بموت مدحت برصاصة طائشة، بعدما يكون قد اتخذ قراراً بالعودة الى منيرة، الا ان تنفيذه للقرار كان غير مدروس، فيه الكثير من الرومانسية وأوهام البطولة، مما يحيلنا الى الرمز مرة اخرى، في إشارة واضحة الى نهاية عبد الكريم قاسم المأساوية.