المنبرالحر

الأزهر وأزمة المؤسسات الدينية الرسمية العربية / رضي السمّاك

احتضن الأزهر في نهاية الشهر الماضي ومطلع الشهر الجاري مؤتمراً يتعلق بالتآخي الإسلامي المسيحي في الأقطار العربية ، وقد جاء تنظيم المؤتمر في وقت تزداد فيه عمليات داعش والجماعات الارهابية التي تستهدف المنازل والعوائل القطبية المسيحية في شمالي سيناء مما اضطر المئات منها للنزوح إلى مدينة الاسماعيلية وغيرها من مدن القناة الاخرى ، ويُعد مؤتمر الأزهر الأخير من أهم المؤتمرات التي تناولت هذه القضية خلال الأربعة عقود الماضية حيث نجح في دعوة كوكبة متميزة من كبار الشخصيات والرموز الاسلامية والمسيحية ، كما نجحت أعماله في أن يتمخض عنها إعلاناً متطور فكرياً يعكس روح الإسلام الوسطي المنفتح المستنير على العصر ، اُطلق عليه " إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك " ، علماً بأن المؤتمر نفسه حمل عنواناً جذّاباً " الحرية والمواطنة .. التنوع والتكامل ".
ولعل من أبرز النقاط المهمة التي تضمنها إعلان الأزهر : إن مصطلح " المواطنة " ليس مستورداً ( بمعنى خاصاً بالغرب العلماني ) بل هو ،كما ورد في الإعلان ، مصطلح أصيل في الإسلام منذ عهد الرسول ( ص ) إبان ما عُرف ب " دستور المدينة "، وكذلك فيما يتعلق بمصطلح " المساواة " ، وحذّر الإعلان في واحدة من أهم فقراته اللافتة المتميزة في تشخيص مكامن الخلل في الازمات الداخلية التي تعصف بالدول العربية وأشار إلى ان " استبعاد مفهوم المواطنة بوصفه عقداً بين المواطنين مجتمعات ودولاً يؤدي إلى فشل الدول ، وفشل المؤسسات الدينية والنخب السياسية ، وضرب التنمية والتقدم ، وتمكين المتربصين بالدولة والاستقرار من العبث بمصائر الأوطان ومقدراتها " ، كما تمنى الإعلان أيضاً على المثقفين والمفكرين التنبه لخطورة استخدام مصطلح " الأقليات " باعتباره لا يتنافى مع مصطلح " المواطنة " فحسب بل هو موروث من عهود الإستعمار للتفرقة بين المسلمين والمسيحيين بل بين المسلمين أنفسهم ، وأعاد البيان التأكيد في موضع آخر من نصه إن " ضعف الدولة يؤدي الى انتهاك حقوق مواطينها ، وان قوتها هي قوة مواطينها ، وان النخب الوطنية والثقافية والمعنيين بالشأن العام في الأوطان العربية كلها يتحملون جميعاً مسئوليات كبرى الى جانب الدولة في مكافحة ظواهر العنف المنفلت سواء أكانت لسبب ديني أو عرقي أو ثقافي " .
بيد أن الأزهر وهو يحتضن مؤتمراً من أجل تحصين الدول والمجتمعات العربية من فيروسات الفكر الديني التكفيري المتطرف القادرة على اختراق هذه الدول من أوسع ابوابها هو نفسه بحاجة لتحصين نفسه أولاً من الداخل ، فلم تعُد تلك الفيروسات محصورةً على عدد من المراكز الإسلامية وعلى رأسها قلب الجزيرة العربية الحاضن الأول لإنطلاقتها العالمية ، بل وأعداد لا حصر لها من المؤسسات الدينية التعليمية والإعلامية الرسمية في معظم دولنا العربية والإسلامية نفسها ومن بينها مصر وإن كان ثمة جملة من التساؤلات تفرض نفسها هنا : ماهو الرقم الذي يحمله هذا المؤتمر الذي تناول قضية التسامح والوحدة الإسلامية المسيحية في سلسلة عشرات المؤتمرات والندوات واللقاءات المماثلة التي عُقدت طوال العقود الأربعة الماضية تقريباً ؟ ولماذا كل هذه المؤتمرات لم تسفر عن حلحلة لهذه القضية المُزمنة بل ازدادت تفاقماً في الأعوام الأخيرة وبخاصة بعد إجهاض حراكات الربيع العربي الجماهيرية السلمية ؟
غني عن القول ان مكامن الخلل ليست في نصوص تلك المؤتمرات ولا في صدق نوايا كل أو أغلب المشاركين فيها من كلا الجانبين الإسلامي والمسيحي ، وإنما لغياب آليات عملية تنفيذية ورقابية لدى الدول العربية التي تستضيف مثل هذه المؤتمرات لتأخذ بتوصيات المؤتمرات من خلال تعاون صنّاع القرار السياسي فيها معها بالعمل على تطبيقها روحاً وعملاً في المؤسسات الرسمية المعنية في الدولة ، وهذا يتطلب بطبيعة الحال إرادة سياسية جادة لديهم مازالت غائبة . وبالتالي لا غرابة والحال كذلك إذا ما بقيت بيانات وتوصيات هذه المؤتمرات المتعاقبة التي تصرف عليها مئات الالوف من الدولارات مجرد حبر على ورق تستحق من يُقيم لها متحفاً أو ارشيفاً تراثياً ربما ينفع الباحثون العرب المهتمين بدراسة تاريخ مواسم تلك الجهود النظرية التي تمخضت عنها البيانات الختامية الجميلة .
أكثر من ذلك فكيف للدول العربية أن تتنادى إلى مثل هذه المؤتمرات لمعالجة الخلل الداخلي في تمزق شعوبهم بإشعال نيران الفتن بين مكونات نسيجها الاجتماعي وشن الحرب على المكون المسيحي المعروف بعراقته الحضارية والتاريخية في تلك الدول دونما البدء مقدماً بتوحيد أنفسهم والكف عن إثارة النعرات بين الطوائف الإسلامية وبخاصة بين الطائفتين الشيعية والسنية ؟ علماً بان "الأزهر" الذي حرص على دعوة رموز وشخصيات من شتى الطوائف الإسلامية وبخاصة السنية والشيعية هو نفسه بحاجة لكي يلعب هذا الدور الريادي أن يرفض الوصاية المفروضة عليه من الدولة وأن يحصّن نفسه من ڤيروسات الفكر الديني الوهابي المتطرف التي اخترقته والتي تشكل الأساس الايديولوجي للقاعدة وداعش ، وهذا ما أشار إليه نص الإعلان نفسه في الفقرة التي نقلناها آنفاً بين مزدوجين بان استبعاد مبدأ "المواطنة " في التطبيق العملي يؤدي إلى فشل الدول وفشل المؤسسات الدينية على السواء وبطبيعة الحال فإن الأزهر هو واحد من أهم المؤسسات الدينية في عالمنا العربي .
وتكاد الأنظمة العربية جميعها تتشارك بدرجات متفاوتة في تغييب هذا المبدأ من حياتها السياسية الداخلية ، بل هو السر الكامن وراء فشل المؤسسات الدينية الرسمية الإسلامية القائمة بمختلف مذاهبها لافتقارها إلى حد ادنى من الإستقلالية عن الدولة العربية وتكبيلها بالوصاية الرسمية عليها أولاختراق أحزاب الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي ( لاسيما في العراق فيما يتعلق بالشق الثاني ) لها ، وهذا بالضبط ما تستغله الجماعات الارهابية للتشكيك في الدور المنشود لهذه المؤسسات الدينية القائمة وإيقاع شبابنا العربي الغر في حبائلها باعتبار تلك المؤسسات ما هي إلا مؤسسات دينية رسمية فاسدة وأبواق رسمية للأنظمة العربية .