المنبرالحر

الحق في تقرير المصير / د.ماجد احمد الزاملي

الحق في تقرير المصير هو: حق الشعب ان يقرر- وبشكل حر وبدون تدخل خارجي من أي دولة اخرى - اقامة دولة على مساحة معينة وتحديد نظام حكمها. ويعتبر حق تقرير المصير للشعوب من المبادئ الأساسية في القانون الدولي بإعتباره حقاً مضمونا لكل الشعوب على أساس المساواة بين الناس ، لذلك كانت هناك صلة قوية ومباشرة بين مفهوم حق تقرير المصير بكل أشكاله ، وبين مفهوم حقوق الإنسان كفرد أو جماعة عرقية أو ثقافية من جهة ، والديمقراطية في صيغتها القديمة والحديثة من جهة أخرى . وإذا كان الرجوع إلى مبدأ تقرير المصير قد استهل في العام 1526م فإنه لم يجد تطبيقه الفعلي إلا في بيان الاستقلال الأمريكي المعلن يوم 4تموز 1776م وبعدها في وثيقة حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789م في فرنسا. ولما حصلت المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في أمريكة الجنوبية على استقلالها في المدة من 1810-1825م خشي الرئيس الأمريكي مونرو أن تلجأ الدول الأوربية إلى التدخل في شؤون دول أمريكة الجنوبية، فأصدر عام 1823 تصريحاً تضمن حق تلك الدول في تقرير المصير.. مبدأ تقرير المصير من المبادئ التي نصّ عليها ميثاق الأمم المتحدة ونصّ عليها كذلك العقد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966م، لكن هذا المبدأ الهدف منه كان تحرر الشعوب من المستعمر، بمعنى أنه قُصد منه تحرر الشعوب الأفريقية والآسيوية وشعوب أمريكا اللاتينية من الاستعمار الأوروبي. وطرحت فكرة حق تقرير المصير في اوروبا في القرن الثامن عشر وذلك بعد ان استطاعت علاقات الانتاج الرأسمالية في هذه البلدان ان تنتصر على علاقات الانتاج الإقطاعية حيث ولد اثناءها المجتمع المدني و أنشأت اثناءها دولة القانون وأقرت ايضا مبادئ الحقوق السياسية والمدنية. وجاء مفهوم حق تقرير المصير بعد ان تحولت الرأسمالية من منتجة ومصدرة للبضاعة الى منتجة ومصدر للرأسمال، حيث تم تقسيم العالم واعادة تقسيمه عبر ما عرف بالاستعمار الذي سيطر على الشعوب من اجل نهب ثرواتها وخيراتها عبر ما عرف بالشركات العلمية المتعددة الجنسية. لبسط سلطة الرأسمال عبر الاستعمار المباشر على الغالبية العظمى من دول العالم، لاسيما في آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية. إن القانون الدولي قد تأثر بالأحداث والتطورات التي يمر بها المجتمع الدولي، وهذا هو حال القواعد القانونية بشكل عام فهي تنشأ لتنظم مجتمعًا معينًا في وقت معين، ومما لا شك فيه أن القانون الدولي يتأثر بالتفاعلات السياسية والاقتصادية التي تسود المجتمع. مفهوم حق تقرير المصير من خلال التطورات والظروف التي مر بها ، إذ إن حق الشعوب في تقرير مصيرها يعني أن لجميع الشعوب حقًا ثابتًا في اختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومركزها الدولي دون تدخل أجنبي و إن حق تقرير المصير لا ينطوي على الجانب السياسي فقط بل يشمل الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ولكن إذا أخذناه بالمفهوم الضيق فهو يعني إقامة دولة مستقلة ذات سيادة أي أنه يعبر عن الجانب السياسي لهذا الحق المتمثل في حق الشعوب الواقعة تحت السيطرة إن السياسة الاستعمارية التي انتهجتها بعض الدول في فرض سيطرتها على الشعوب الأخرى واستخدمتها كأداة في تنفيذ سياستها ومحاولتها كذلك طمس الهوية الثقافية لهذه الشعوب واستغلال مواردها الاقتصادية إلى أقصى حد ممكن كان من نتيجتها رسوخ رغبة جامحة لدى كافة شعوب العالم في تصفية الاستعمار بكافة أشكاله وهذا أصبح ما يعنيه حق تقرير المصير ويتضح ذلك من خلال القرار 1514 لعام 1960 م الصادر عن الجمعية العمومية للإمم المتحدة . وفي 12/12/1972 صدر عن الجمعية العامة قرار مهم آخر برقم 2955 , كما أكدت الجمعية العامة في القرار رقم "2787" والصادر في 12 كانون أول 1972م في حق الشعوب في تقرير المصير والحرية والاستقلال وشرعية نظامها بكل الوسائل المتاحة لها والمنسجمة مع ميثاق الأمم المتحدة، وطلبت في القرار رقم "3970" الصادر في تشرين ثان 1973م، من جميع الدول الأعضاء الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها واستقلالها و حق الشعوب في تقرير المصير والحرية وشرعية نضالها بكل الوسائل المتاحة لها والمنسجمة مع ميثاق الأمم المتحدة. وبقرارها رقم 3070 الصادر في 30/11/1973 أيضا ركزت الامم المتحدة على تقرير المصير,ودعت الجمعية العامة منذ ذلك الوقت على تأكيد هذه المبدأ في جميع قراراتها المعنونة تحت (الإعمال العالمي لحق الشعوب في تقرير مصيرها ومنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة والاحترام العالمي لحقوق الإنسان). وفي غضون ذلك وقعت في آب 1975 ثلاث وثلاثون دولة أوربية بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في هلسنكي الاتفاقية النهائية التي أسفر عنها مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا. وقد تضمن القسم الأول منها إعلان المبادئ التي ينبغي أن توجه علاقات الدول المشتركة فدعى إلى الأخذ بعشرة مبادئ توجيهية وصفت بأنها غاية في الأهمية وأن الواجب يقضي تطبيقها بلا تحفظ. وقد نص المبدأ الثامن منها على حق تقرير المصير.
وتتضح أهمية هذا الحق كونه يشكل الإطار العام الذي تندرج ضمنه الحقوق الأخرى ، فكيف يمكن المطالبة بحقوق الإنسان الخاصة في إطار شعب فاقد لحقه في تقرير مصيره ، أن حق الشعوب في تقرير مصيرها طرح في إطار المنتظم الدولي بداية القرن العشرين حيث ورد في مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون نهاية الحرب العالمية الأولى وكانت مبررات طرحه البحث عن وسيلة للتعامل مع الأمم التي كانت خاضعة للإمبراطوريات المتواجدة آنذاك وخصوصا الإمبراطورية العثمانية ،ثم تبنته الأمم المتحدة في ميثاقها ووردت الإشارة إليه بصيغة عامة ، وتم الربط ما بين حق تقرير المصير وتصفية الاستعمار وصدر بهذا الشأن قرارات متعددة ،ولم يكن هناك إشكال في الاستناد لهذا الحق لتمارس الشعوب الخاضعة للاستعمار النضال بكافة أشكاله لنيل استقلالها وخصوصا أن العلاقة الاستعمارية بين الدول الأسيوية والإفريقية الخاضعة للاستعمار والدول المستعمُرة كانت جلية ،فالدول الخاضعة للاستعمار كان لها مِن التمايز العرقي أو الديني ومِن التاريخ الخاص بها ما يعطيها الحق بان تقرر مصيرها بنفسها، ،بمعنى أن تقرير المصير يعني حرية اختيار الشعب /الأمة لأسلوب حياته وكيفية تجسيده ،وهذا المعنى هو الذي تأكد في سنة 1966 حيث صدرت عدة برتوكولات حول الحقوق السياسية الاجتماعية والاقتصادية وفيها تم توسيع مفهوم حق تقرير المصير ليصبح حق الشعوب بتقرير مصيرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون ربط الموضوع بالاستعمار.
وقد جاء تأكيد ميثاق الأمم المتحدة على هذا الحق في المادة 55 بإعلانها رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريتين لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم -مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب بان يكون لكل منها حق تقرير مصيرها. ووجد مبدأ تقرير المصير في أوروبا دعما كبيرا ضد طغيان الملوك والطبقات الحاكمة ورجال الدين ، فالثورة الفرنسية والأمريكية أطلقت هذا المبدأ من أجل الأفراد والشعوب والأمم التي من حقها أن تتمتع بالحرية ، وأن تقاوم الاضطهاد أياً كان ، وأن تحدد أوضاعها الداخلية والدولية ، فوجدت فكرة الاقتراع العام أو ما أصبح يعرف بديمقراطية الحكم ، وإنبثاق مفهوم جديد لمبدأ تقرير المصير . ويُمارس حق تقرير المصير عن طريق الديمقراطية والوسائل الودية التي أهمها الاقتراع ، لكن إذا رفضت القوى المهيمنة على السلطة داخل الوحدة السياسية الواحدة اعطاء الشعوب الحق في تقرير مصيرها ، فان لهذه الشعوب أن تمارس الكفاح المسلح الذي هو تقرير المصير عن طريق الوسائل الثورية ، لنيل حقوقها ، ولا يعتبر هذا النوع من الكفاح إرهابا وتفتيتا للوحدة الوطنية. أن الاعتداء على هذا العقد الاجتماعي من قبل المستعمرين يعطي الحق للناس في قطع أي التزام لهم مع السلطة الاستبدادية كحق وواجب. على أن المقاومة المسلحة هي المرحلة الأخيرة للاحتجاج ضد الهيمنة الاستعمارية.
وقد أقر "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" (1789م) بعض الحقوق الطبيعية للإنسان لا يجوز المساس بها: حق الملكية، حق الحرية، الحق في الأمن، الحق في مقاومة الظلم والاستبداد. مؤصلا لهذا الحق في الاتجاهات المدافعة عن هذه الحقوق بشكل مبكر. وقد اعتبرت المادة 33 من النص الثاني لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في 1793 أن حق مقاومة الظلم هو النتيجة الطبيعية لحقوق الإنسان الأخرى. أما "إعلان حقوق وواجبات الإنسان الاجتماعي" الذي أقر في جنيف في 9/6/1793 فقد أقر في المادة العاشرة حقوقا ستة هي المساواة والحرية والأمن والملكية والضمان الاجتماعي ومقاومة الظلم. واعتبرت المادة 44 أن لكل مواطن الحق في مقاومة الظلم ويحدد شكل المقاومة في الدستور.
بعد هذا المسار الطويل الذي بلغة حقّ تقرير المصير , سياسياً وقانونياً , ارتقى هذا الحقّ إلى مستوى " القاعدة الآمرة في القانون الدولي قواعد آمرة وقواعد مكمّلة أو مفسرة , شأنها شأن قواعد القانون الدولي عند مختلف الدول . وأهمية القاعدة الآمرة تتخلص في كونها ملزمة للدول . بل يجدر بهذه الدول إبطال أيّ معاهدة قائمة تتعارض مع هذه القاعدة الآمرة , وذلك تبعاً لأحكام القانون الدولي . هذا ويشار إلى أنّ بعض فقهاء القانون الدولي لا يسلّمون بوجود قواعد دولية آمرة , وذلك انطلاقاً من نظريتهم إلى مصادر القاعدة القانونية القائمة على الاتفاق بين الدول وحسب صار واضحاً في الممارسة الطويلة للمجتمع الدولي، دولاً ومنظمات دولية، أن طبيعة تقرير المصير قد تطورت فصارت تعني أحد أهم الحقوق التي تقررها مبادئ القانون الدولي المعاصر، فهو يرتب للشعوب حقوقاً ويرتب على الدول التزامات ذات طبيعة دولية وهو حق دولي جماعي وعام في آن معاً. فهو حق دولي جماعي بمعنى أنه مقرر للشعوب دون الأفراد وهو حق دولي عام لأنه مقرر لمصلحة جميع الشعوب من دون أن يقتصر على فئة دون أخرى من شعوب العالم فهو، نظرياً، يشمل جميع الشعوب المستقلة وغير المستقلة وفقاً للمعنى السياسي القانوني لتعبير الشعب كما تحدد في ميثاق الأمم المتحدة وليس وفقاً للمعنى المرتبط بمبدأ القوميات. من الأمثلة للقواعد الآمرة , التي يجب التقيد بمضمونها , ولا يجوز الاتفاق على خلافها , القواعد التي تحظّر الاتّجار بالرقيق , ومبدأ حرية أعالي البحار , والقواعد التي تحظر إبادة الأجناس , والقواعد التي تحظر القيام بالقرصنة , والقواعد التي تمنع الالتجاء إلى الحرب في غير حالة الدفاع الشرعي ... وقد تحوّل حق تقرير المصير قاعدة آمرة بعد هذا التراكم اللافت للمعاهدات والاتفاقات والوثائق الدولية المؤيدة لتطبيق هذا الحق في مضمار العلاقات الدولية , من ميثاق الأمم المتحدة إلى قرارات الجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية ومجلس الأمن , إلى مواثيق وقرارات المنظمات الدولية و الإقليمية , إلى المؤتمرات الدولية المتعلقة باهتمامات القانون الدولي العام.
ومع عودة الاعتبار والأهمية لمشكلات الحدود السياسية , والأقليات القومية , وحركات التحرر الوطني في نهاية القرن العشرين , يتركز الجهد الدولي على بلورة حق تقرير المصير , وتكريسه قاعدة قانونية آمرة , بالتزامن مع صعود حقوق الإنسان في العلاقات الدولية . ويصعب الفصل بين حق تقرير المصير وحقوق الإنسان من الناحية الموضعية , ذلك أن مطلبي التحرر و الاستقلال هما من جوهر حقوق الإنسان المدنية والاقتصادية والسياسية. احد اسباب المطالبة بهذا الحق هو تطور الوعي القومي ونشوء الحركات القومية في اوروبا في القرن التاسع عشر. تطورت الحركات القومية في اوروبا على خلفية التغييرات الاجتماعية السياسية والفكرية مثل حركة التنوير وتطور حركات اجتماعية.
وأمام تمادي الدول في اضطهاد الأقليات العرقية في بلدانها وفي تطور جديد لصالح المجتمع المدني وحقوق الإنسان، صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في الأول من كانون الأول 1992 على مشروع إعلان حماية حقوق أبناء الأقليات القومية أو العرقية الدينية أو اللغوية، وقد أتت هذه الموافقة بعد صدور قرار كل من لجنة حقوق الإنسان في 21/2/1992، وقرار المجلس الاقتصادي – الاجتماعي في 20/7/1992 باقرار مشروع اعلان حماية حقوق الأقليات وتقديمه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة مصحوبا بالتزكية للتصديق عليه، وجاء في الاعلان:
(إن الدول يجب أن تضمن وجود الهوية الوطنية والاثنية والثقافية والدينية واللغوية للأقليات داخل أراضيها، وأن تشجع على قيام الظروف لتشجيع هذه الهوية).
لقد أيد مجلس الأمن حق تقرير المصير للشعوب التي تخضع للاستعمار ويؤكد ذلك قراراته المتعلقة بهذه المسألة خاصة القرار الصادر في نوفمبر 1960م الذي يحث فيه الحكومة البرتغالية على الإقرار بحق الشعوب والأقاليم التي تخضع للاستعمار البرتغالي في تقرير مصيرها. كما أصدر مجلس الأمن القرار (47) لسنة 1948م بشأن مشكلة كشمير وهو يعد بحق من وجهة نظر البعض مرجعاً لحل المشكلة الكشميرية والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم حيث يُعد القرار دعامة لتنفيذ حق تقرير المصير. لأنه اعتراف بأن مسألة انضمام كشمير إلى الهند أو باكستان يجب أن تقرر من خلال وسائل ديمقراطية حرة واستفتاء عادل ومنصف. لم يتغير موقف مجلس الأمن كثيراً بعد العام 1990م عن موقفه السابق فيما يتعلق بحق تقرير المصير خاصة فيما يتعلق بالنزاعات المسلحة ذات الطابع غير الدولي. ولكنه في بعض الأحيان اعترف بأهمية منح بعض الأقاليم الحكم الذاتي في مواجهة مطالبة بعض الأقاليم بالانفصال عن الدولة الأم كما حدث بشأن الصراع بين ألبان كوسوفو والصرب داخل الإقليم، حيث أصدر القرار (1199) في 23/12/1998م أكد فيه أحقية ألبان كوسوفو في الحصول على الحكم الذاتي دون تأييد حق تقرير المصير الذي يترتب عليه الانفصال عن الدولة اليوغسلافية. وفي 30/7/1998م أصدر مجلس الامن القرار (1187) بشأن الوضع في جورجيا بشأن الصراع بين الحكومة وإقليم أبخازيا حيث أكد أن إقليم أبخازيا يدخل في الأراضي الجورجية ولا يجوز انفصاله عن الدولة تحت أي مسمى. ولعل مفهوم حق تقرير المصير الذي يأخذ به المجتمع الدولي أنه حق للشعوب التي تكون دولاً، ويفسر لنا عدم قبول المجتمع الدولي والقانون الدولي لاستقلال جمهورية البوسنا وكذلك عدم قبوله بانفصال أبخازيا عن جورجيا والشيشان عن روسيا.
وإذا كان مبدأ تقرير المصير قد حضر في القانون الدولي مرتبطا بنضال الشعوب من أجل الحصول على استقلالها، فإن النظام العالمي الجديد، الذي تقوده القوة الأمريكية، كان يبشر بواقع جديد. فقد انفتح المجال أمام صناع القرار الأمريكي خلال هذه المرحلة للعودة إلى مبدأ تقرير المصير، مع إعادة زجه بدلالات سياسية جديدة تخدم المصالح الأمريكية عبر العالم، وذلك بعد إفراغه من دلالته القانونية التي رسخها نضال حركات التحرر عبر العالم، في صراعها ضد الدول الاستعمارية. وتنص المادة الأولى من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أن لكافة الشعوب الحق في تقرير المصير, وأن لها استنادًا لهذا الحق أن تقرر بحرية كيانها السياسي وأن تواصل نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي, كما تكفل نفس المادة حقوق الشعوب في ثرواتها ومواردها الطبيعية وذلك دون الإخلال بالالتزامات الناشئة عن التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبادئ المنفعة المشتركة, كما أنه لا يجوز بحال من الأحوال حرمان أي شعب من موارده المعيشية. فطبيعة تقرير المصير قد تطورت فصارت تعني أحد أهم الحقوق التي تقررها مبادئ القانون الدولي المعاصر، فهو يرتب للشعوب حقوقاً ويرتب على الدول التزامات ذات طبيعة دولية وهو حق دولي جماعي وعام في آن معاً. فهو حق دولي جماعي بمعنى أنه مقرر للشعوب دون الأفراد وهو حق دولي عام لأنه مقرر لمصلحة جميع الشعوب من دون أن يقتصر على فئة دون أخرى من شعوب العالم فهو، نظرياً، يشمل جميع الشعوب المستقلة وغير المستقلة وفقاً للمعنى السياسي القانوني لتعبير الشعب كما تحدد في ميثاق الأمم المتحدة وليس وفقاً للمعنى المرتبط بمبدأ القوميات.
إن النص على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بحريتها في العديد من القرارات التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، أصبحت تعني أهم الحقوق التي تقررها مبادئ القانون الدولي المُعاصر، فهو يرتب للشعوب حقوقاً وعلى الدول التزامات كل دولة تجاه نفسها وتجاه الدول ألاخرى، فهو مقرر لجميع شعوب العالم دون استثناء أو تمييز بسبب العرق أو اللون أو الثروة أو الأصل القومي.
أما مجلس الأمن الدولي فقد اهتمّ، هو الآخر، ولا سيما مع بداية السبعينات، في المساهمة الفاعلة من أجل تنفيذ الحق في تقرير المصير من قبل الشعوب المستعمرة. فكان له موقف حاسم في ما يتعلّق بـ "ناميبيا"، حيث طالب جنوب أفريقيا برفع يدها عن المستعمرة. وتعهّد مباشرة رعايتها حتى استقلّت في العام 1990 (وكانت آخر مستعمرة افريقية). وكان له ولا يزال موقف حاسم آخر من عدد من الدول التي سعى إلى تعزيز الديمقراطية فيها من خلال الإشراف على استفتاءات شعبية أو على انتخابات عامة لتثبيت الاستقرار السياسي في الدول، أو لإجراء المصالحات الوطنية أو ما شاكل ذلك. وقد أصدر مجلس الأمن عدداً من القرارات الهامة بهذا الصدد. وقام، مباشرة أو غير مباشرة، بدور متقدّم في إطار ممارسة الحق في تقرير المصير.
إن حق الشعوب في المساواة أخذ ردحًا طويلا من الزمن إلى أن أقر كأحد الحقوق الأساسية للشعوب والتي بدونها لا يمكن الحديث عن أي حقوق للإنسان أو للشعوب إذ أن من أهم النتائج التي ترتبت على حق الشعوب في المساواة هو الحق في تقرير المصير، إذ أنه لا يحق لشعب أن يحكم أو يستعبد شعب آخر.