المنبرالحر

الافندي العراقي ومشاهد الانفتاح على الآخر / عدنان منشد

عندما احتل الانكليز بغداد عام 1917 انبهر البغداديون بحسن ازيائهم، وسحر قيافتهم من كل ناحية، اذ لم يبالوا بالغبار والامطار وكان عندهم الاستعداد والخفة في ملابسهم وما على رؤوسهم بخلاف المسلمين.
كان الزي العراقي في ذلك الوقت (الباش بزق) بالنسبة للبغدادي الاصيل، وقوامه السروال الداخلي والصاية والعباءة والجراوية والشروال الكردي المعروف والجمداني بالنسبة لاكراد الشمال العراقي، والعقال واليشماغ والدشداشة والعباءة (الهدم) بالنسبة لزي العرب والاعراب (البدو) في وسط وجنوب العراق.
كانت فئة الافندية في عراق ذلك الزمان محدودة، لا تتجاوز دواوين وسناجق الولايات الثلاث (بغداد والبصرة والموصل) واغلبهم من اتراك الاناضول او البعض من تركمان العراق، ممن يرتدون السترة الطويلة(الفراك) او ما تسمى احيانا بـ (الاسطنبولية) مع لبس الطربوش (العصملي/ العثماني). اذ كان من واجب الادب والاحترام ان ينهض الطربوش عموديا، لا يميل الى الامام او الخلف ضمن ما يعرف بـ (القيراج) في ذلك الوقت، ولا بد ان يكون زر الطربوش في خلف الرأس ولا يجوز ان يدخل الانسان الافندي على الرؤساء واصحاب المقامات الرفيعة وهو حاسر الرأس.
يصف الراحل د. علي الوردي المراحل التي مرت على فئة الافندية في العراق في احد اجزاء سفره الكبير "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، بانهم مدعاة للضحك والسخرية من جموع العراقيين، خصوصا في احاديثهم المتعالية التي قد تتناسب مع قيافتهم او غرابة ملبسهم، حينما يتحدثون عن (المقروبات) اي (المكروبات) التي تحفل بها (قاذوراتنا) اي مزابلنا ان شاءوا الحديث بلغة عراقية مترفة.
ومع ذلك، فان الانتلجنسيا العراقية من رواد الشعر والثقافة والصحافة والقصة التنويريين، امثال الرصافي والزهاوي ومحمود صالح شكر ومحمود احمد السيد، ونوري ثابت (حبزبوز)، نهضوا بهذه الظاهرة اعلانا وترويجا، بل تزيو بأزيائها خلال السنوات الممتدة من عشرينيات وثلاثينات القرن الماضي، حينما كانت المطربة صديقة الملاية تصدح باغنية (الافندي .. الافندي) عبر الغراموفون.
هذا هو محمود احمد السيد اول روائي عراقي معروف في حقبة العشرينات يرتدي زي الافندية الاجانب في العراق، ليجوب بحار الهند الشرقية ليتحفنا بروايته الاثيرة "جلال خالد" ضمن حالة واقعية لصور معينة من الممارسات الفنية، وها هو ذا ايضا الرصافي الكبير ينزع حلته التقليدية العقال واليشماغ والدشداشة ليرتدي بدلة الافندية المؤلفة من ثلاثة قطع (بوجود الصديري) مع الساعة الجيبية في عروة الجاكيت. وقس على ذلك تخلي الزهاوي القدير عن شرواله الكردي، مع ابقائه على طربوش الاتراك، في الوقت الذي سعى فيه الحبزبوز نوري ثابت الى اللباس الرياضي المتعدد، باعتباره مشرفا رياضيا رسميا على الملاعب العراقية.
تاريخ متداخل عجيب في صناعة الافندية في العراق، ربما كانت ثورته الاولى من خلال دعوة الملك فيصل الاول إلى نزع الطربوش التركي واستخدام (السدارة السوداء) التي عرفت فيما بعد بـ (السدارة الفيصلية) كما فعل كمال اتاتورك زعيم الثورة العلمانية في تركيا باسقاط الدولة العثمانية وفرض القبعة بديلا عن الطربوش العثماني، وكما فعل الزعيم المصري جمال عبد الناصر بالغاء الطربوش كغطاء رسمي للرأس، ولكنه لم يجرؤ على تقرير القبعة او السدارة، كما حدث في تركيا والعراق.
وهكذا، وجدنا طه حسين والعقاد والحكيم في اواخر حياتهم ينزعون طرابيشهم متزيين بالزي العالمي، على الرغم من وجود العمامة التي ظلت متربعة على عرشها، حتى وان صغرت عما كانت عليه في الماضي، كما اضمحل طربوشها.