المنبرالحر

" التخاذل العربي عن نصرة الأقصى ..مالغرابة فيه ؟ / رضي السمّاك *

يتوهم من كان يظن يوم الجمعة الماضي الذي انطلقت فيه الهبة الفلسطينية الجديدة احتجاجاً على الاجراءات التعسفية الاستفزازية الاسرائيلية الأخيرة تجاه المسجد الأقصى وزوّاره ومن ضمنها فرض مرور المصلين على بوابات اليكترونية قبيل ولوجهم إليه ..
نقول يتوهم من كان يظن ويتوقع بأن ثمة شيئاً ما ولو صغيراً ربما يحدث ليكسر المواقف المعهودة المزمنة التي تقفها الأنظمة العربية من انتفاضات وهبات الشعب العربي الفلسطيني ضد سلطات الاحتلال الإسرائيلي ، فقد أضحى من الحقائق المُسلّم بها ان هذه الانظمة برمتها تقريباً لم تعُد متخاذلة ضد نضالات الشعب الفلسطيني فحسب بل ومتواطئة مع الدولة الصهيونية في اخماد وقمع انتفاضاته لما لانتصاراتها من انعكاسات إيجابية غير مرغوبة في انعاش وتحفيز الحراكات السياسية والجماهيرية المقموعة في البلدان العربية كافة نحو النهوض من جديد بعد إجهاض أحلامها الربيعية منذ ست سنوات .
ثم ما الذي كان يمنع سلطات الاحتلال ألا تتمادى في إهانة واستفزاز مشاعر العرب والمسلمين في القدس ما دامت مواقف أنظمتهم المتخاذلة من القضية الفلسطينية تسير حثيثاً من سئ إلى أسوأ منذ هزيمة 1967 - ولا سيما بعد اتفاقيات كامب دافيد الانفرادية التي وقعها الرئيس المصري الأسبق انور السادات مع اسرائيل - حتى بلغ الحال بالعرب إلى هذا الضعف والهوان على نحو غير مسبوق تاريخياً منذ نزول الإسلام وبصورة لا مثيل لها لدى أي اُمة مرت بتحديات من الحروب والهزائم عبر تاريخها وتتمتع بحد أدنى من الكرامة ؟
ففي زمن لا يتوانى فيه الرئيس الامريكي دونالد ترامب عن تأكيده على ثوابت سياسات بلاده الدائمة في المنطقة- جهاراً نهاراً - بدعم إسرائيل بمختلف الوسائل المالية والعسكرية وضمان تفوقها العسكري على العرب ، ناهيك عن تعهده أثناء حملته الانتخابية باعترافه بالقدس عملياً عاصمة للدولة العبرية من خلال نقل سفارة بلاده إليها ؛ وفي زمن أصبحت فيه تصريحاته هي المرجعية التي تستشهد بها الأنظمة العربية في اتهاماتها المتبادلة بتمويل ودعم الارهاب فيما الولايات المتحدة يحفل تاريخها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بسجل حافل من ممارسة الارهاب الرسمي عبر حروبها العدوانية الخارجية وتدخلاتها العسكرية في عدد من بلدان العالم الثالث ؛ وفيما ربيبتها إسرائيل تُمارس أيضاً الارهاب الرسمي اليومي المسكوت عنه دولياً بحق أبناء الشعب العربي الفلسطيني المقاوم والصامد فوق ترابه الوطني وتحت ملأ سمع وبصر ترامب والأنظمة الخليجية المؤتمرة عملياً بأوامره السياسية ؛ وفي زمن بات فيه السماح بانشاء قاعدة عسكرية لتركيا إحدى الدول الاعضاء الإسلامية في حلف الناتو العدواني لحركات التحرر الوطني وللشعوب العربية فوق أراضي دولة خليجية " مستقلة " أمراً اعتيادياً يُضاف إلى القواعد العسكرية الامريكية العدوانية المنتشرة في كل دول مجلس التعاون الخليجي ؛ وفي زمن أضحى فيه إسكات وقمع أصوات القوى السياسية والشعبية العربية ليس بسبب التعبير عن تطلعاتها المشروعة في الاصلاح والديمقراطية وحقوق المواطنة الواحدة المتساوية فحسب ، بل ولمصادرة حتى حقها في التظاهر السلمي للتعبير عن تضامنهم مع شقيقهم الشعب الفلسطيني في مواجهة صلف الاحتلال الفاشي الأسرائيلي وغطرسته والمُدجج بأشرس وسائل القمع من الأسلحة بصدورهم العارية ؛ نقول في زمن يجري فيه كُل هذا وذاك هل ثمة غرابة أو استغراب بأن يصل العرب إلى هذا المستوى من الحضيض والهوان وادماء كرامتهم بكل أبعادها وأشكالها الوطنية والدينية والقومية والطبقية !
على أنه بقدر ما تثيره الاتهامات الإعلامية المتبادلة بين الأنظمة الخليجية لبعضها بعضاً بالتطبيع مع العدو الأسرائيلي التقزز والغثيان لكسب شعوبها إلى صفها في معاركها العبثية الراهنة ذات المصالح الأنانية الضيقة ، وهي الغارقة جميعها من الرأس الى أخمص القدمين في مستنقع التطبيع ، بقدر ما تنطوي في ذات الوقت أيضاً على اعتراف وإقرار ضمني من قِبلها بالمكانة الوطيدة التي لا تتزحزح والتي تشغلها القضية الفلسطينية في أفئدة شعوبها ، إذ تتوهم الانظمة العربية إن هي راهنت على عامل الوقت وما تمر به القضية الفلسطينية من تعقيدات سياسية جمة وقتية وخلط غير مسبوق في الاوراق واصطفافات دولية واقليمية جديدة غير مؤاتية إن الشعوب العربية المنكوبة بدورها بتلك الانظمة الدكتاتورية سيدفعها كل ذلك إلى اليأس أو الاحباطات المستديمة للتخلي عن نصرة قضية شقيقها الشعب الفلسطيني ، لاسيما في ظل افتقاد الانظمة العربية ذاتها للشرعية الدستورية الحقة . وحتى مراهنتها على تغوّل ووحشية الهجمة الامريكية الصهيونية هو رهان خاسر آجلاً أم عاجلاً مادامت القضية الفلسطينية وبالتلازم معها كُل القضايا الوطنية الداخلية لشعوبنا العربية جمعاء حية في قلوبها لا تموت ، وما دامت أيضاً تملك أقوى وأمضى الأسلحة لانتصارها في عصرنا - عصر المناداة بحقوق الانسان والديمقراطية والتعددية - ألا هو عدالة هذه القضايا وإرادة شعوبها القوية التي لا تُقهر .
وأخيراً فلعله من المفارقات الساخرة إن "البوابات الاليكترونية " التي ابتدعتها سلطات الاحتلال الأسرائيلي مؤخراً والتي جاءت دون مسوغات أمنية حقيقية سوى احترازات هوسية مسبقة لارضاء فوبيا خوفها من المصلين الفلسطينيين المنتفضين ضد الاحتلال حتى أثناء توجههم لاداء صلواتهم في "المسجد الأقصى " تأتي في ظل تفرج أنظمة عربية وتخاذلها ازاء ذلك المسلك الصهيوني المُشين والمهين لكرامة العرب والمسلمين أجمعين في حين بدت بعضها - الأنظمة الخليجية - متخاذلة عن إقامة مثل تلك البوابات الاليكترونية على واجهات المساجد والكنائس لضمان سلامة وأمن مواطينها المصلين العرب في كنائسهم ومساجدهم والمستهدفين من " داعش " على الهوية الطائفية والمذهبية !
* كاتب ومحلل سياسي بحريني