المنبرالحر

من قتل الموؤدة ؟! / د. صبيح الجابر

"واذا الموؤدة سُئلت بأي ذنب قُتلت" هذه آية قرآنية، من بين عديد الآيات القرآنية، التي اماطت اللثام عن الواقع الاجتماعي العربي في الجزيرة العربية، الذي كان سائداً قبل الدعوة الاسلامية.
وقبل ان يتحول ولاء القبائل والعشائر ورؤسائها الى الدين الاسلامي الجديد، فقد كان قبل ذلك ولاء الافراد والجماعات التي تشكل القبائل الى قبائلهم ورؤسائهم يأتمرون باوامرهم ويخضعون باجلال الى هؤلاء الرؤساء، خوفا من سطوتهم او خوفا من الموت جوعا اذا ما حرموهم من المشاركة في غزواتهم كما حصل مع الصعاليك ومن المشاركة اما في مجموعات حماية القوافل التجارية بأجر كشركات الحمايات الامنية في وقتنا الحاضر، او في الاغارة على هذه القوافل وتسليب ما يستطيعون تسليبه من البضائع التجارية. اذا فهم يغزون قبائل عربية اخرى تمتلك بعض المال والماشية وآبار المياه وسبي النساء والفتيات، حتى الرجال والشباب ومن ثم تبدأ عملية المساومة، فمن يمتلك ماشية يستطيع ان يدفع فدية للخاطفين بهدف اطلاق سراح المخطوفين او السبايا وخاصة النساء ومن لم يستطع دفع الفدية فان الغزاة من اخوانهم العرب يقومون ببيع السبايا في اسواق النخاسة، اذ ان تجارة الرقيق والعبيد كانت رائجة وقتذاك في ظل قوانين القبيلة واعرافها وعاداتها وتقاليدها الراسخة خاصة وانهم يعتبرون ما يقومون به شجاعة وفروسية، وانتصارا لقوة هذه القبيلة او تلك في الوقت الذي يعاني فيه الفقراء المحرومون من الغزو بامر القبيلة انواع البؤس والشقاء اذ انهم لا يستطيعون ان يوفروا الغذاء او ما يسد رمق ابنائهم ومن يعاني اكثر هو من كانت ذريته من الاناث اللواتي لا يمكن ان يشتركن في الغزوات ولا يمكنهن ان يدافعن عن انفسهن في حال تعرضن إلى السبي على يد قبائل عربية اخرى، وبالتأكيد سيكون مصيرهن مظلما في عالم الرق والعبودية خاصة ابناء وبنات الفقراء، الذين لا يملكون ارضا ولا ماشية ولا بئرا للماء لكي يدفعوا فدية مقابل اطلاق سراحهن.
من هنا جاءت فكرة دفن الفتيات وهن احياء بعد الولادة مباشرة من قبل ذويهن والسبب في ذلك، آنذاك، تتحمله القبائل والعشائر ورؤساؤها وما يسنون من قوانين واعراف تصب في خدمة الرؤساء ومن يحيطون بهم من النفعيين الذين نصبوا انفسهم حراسا لهذه القوانين والاعراف والتقاليد المنحرفة.
ان نزول هذه الآية وغيرها من الآيات جاء ايذانا دعويا لتفكيك العصبيات القبلية وتفكيك ولاءاتها وجعلها في خدمة المجتمع بكل مكوناته فضلا عن خدمة الدين الجديد. ولم ترجع هذه الولاءات القبلية الى السلطة الاسلامية الا في عهد الخلافة الاموية إذ سميت الدولة الاسلامية باسم رئيس القبيلة، اي رئيس قبيلة بني امية. وبعدها الدولة العباسية باسم (ابو العباس السفاح) ثم الدولة العثمانية التركية باسم (عثمان) اذ عاد الحكم إلى القبيلة وعادت الولاءات القبلية، ولكنها هذه المرة باسم دولة، وليس باسم قبيلة كما كانت قبل الاسلام. فما هي طبيعة نظام حكم دولة الخلافة اذن؟ وهل هو نظام حكم قبلي؟
في دولة الخلافة هذه تغيرت الظروف، وتغيرت طبيعة الحياة، وصار رئيس القبيلة اقطاعيا بسلطة عسكرية وصار هو الآمر الناهي. واصبح النظام نظاما اقطاعيا – عسكريا سحقت من خلاله فئات اجتماعية فقيرة واسعة.
فهل هناك شبه بين اليوم والبارحة؟
منذ ان اطيح بالنظام الفاشي عام 2003 والعراق تحكمه بعض الاحزاب السياسية المغطية عملها برداء الدين التي فشلت في ادارة شؤون الدولة منذ اللحظة الاولى، اذ انهم بنوا تصوراتهم في عملية ادارة الدولة اعتمادا على خلفياتهم الفكرية (الماضوية) الامر الذي سهل عملية انزلاق اقدامهم واقدام سلطتهم في رمال العراق المتحركة التي ابتلعتهم وابتلعت سلطتهم.
من هنا اتجه هؤلاء الحكام نحو العشائر والقبائل يلوذون بها، علّهم يظلون متربعين على رأس هرم سلطتهم الواهي، حتى وان حلت اعراف العشائر وعاداتها وتقاليدها وقوانينها مكان دستورهم المدني الحديث، ومكان القوانين والانظمة التي تحكم الدول الحديثة ومؤسساتها الدستورية، وحتى لو عاد العراق الى عصر الجاهلية وزمن (الموءودة) التي كانوا سببا في قتلها. وفعلا عملوا على ضم شباب العشائر الى مليشيات مسلحة مرتبطة بشكل مباشر باحزابهم المتنفذة وبشكل غير مباشر حين شكلوا تشكيلات باسماء عدة من بعض العشائر وشيوخها ووزعوا عليهم الاسلحة وصرفوا لهم المرتبات الشهرية والعطايا والهبات. ولا ندري (مَن يسند مَن وضد مَنْ؟) والى اين سيذهبون بالعراق في سياساتهم هذه؟
لقد اثمرت سياساتهم هذه صراعاً داميا في محافظات آمنة، وبعيدة كل البعد عن الارهاب، صراعا بلباس عشائري، الا ان جوهره مليشياوي سياسي، تحركه ارادات احزاب وقوى متنفذة. وكانت البصرة الضحية الاولى والموؤدة الاولى لهذه السياسة. فالجميع يتذكر موقف مجلس محافظة البصرة حين وقف بوجه وزير الدفاع العبيدي عندما ارسله رئيس الوزراء حيدر العبادي لتدارس اوضاع البصرة المتدهورة ووضع الحلول لهذه الصراعات ولهذه المخازن المخيفة من السلاح بكافة انواعه.. فقد وقفوا بوجه رئيس الوزراء ومبعوثه وزير الدفاع يدافعون عما يسمونه التقاليد والعادات وسنن العشائر البصرية، وهي عشائر كريمة لا علاقة لها بصراعاتهم السياسية، وهي ذات الذرائع التي كان اليمنيون يدافعون عنها بعد ان فاقت اعداد قطع السلاح اعداد نفوس اليمن. وهي ذات الاسباب والذرائع التي كانت سائدة بين القبائل العربية في العصر الجاهلي، العصر الذي قتلت فيه الموؤدة.
لقد ابتليت البصرة المدينة الهادئة والحضارية ومركز الاشعاع الفكري والثقافي والفني على مدى قرون عديدة، بحكام معظمهم لا يمتون بصلة الى مدينة البصرة، ولا الى ترابها وتاريخها المجيد، لا يمتون بصلة إلى ماضيها ولا إلى حاضرها. هذا هو الحال الذي وصلت اليه مدينة البصرة لتكون الضحية الاولى او (الموؤدة الاولى) في عصر الجاهلية الراهن المفروض علينا.