المنبرالحر

مئوية ثورة اكتوبر .. العدالة الاجتماعية بين الاشتراكية والرأسمالية (2) / رضي السماك

ظل حلم العدالة والمساواة الاجتماعية يراود الشعوب والمجتمعات الإنسانية منذ فجر تاريخ البشرية ، ولم تكن الأفكار الاشتراكية التي ظهرت على يد ماركس ورفيقه أنجلز في القرن التاسع عشر إلا الصيغة الاكثر تطوراً لمسار تاريخي طويل من محاولات إقامة مجتمع العدل التي يتساوى الناس ويختفي فيه استغلال الإنسان لأخيه الانسان ، ومع أن أكثر هذه المحاولات التي حالفها النجاح في مجتمعات وعصور سالفة سبقت عصر ثورة اكتوبر جرت وفق بنى اجتماعية أكثر تخلفاً من المجتمع الروسي الا أنها تلتقي في الجوهر مع الافكار والمبادئ الأكثر تطوراً التي جاء بها ماركس والتي لم يظهر مذ عصرهما إلى يومنا هذا ما هو أرقى منها وإن ظهرت صيغ وإسهامات تطويرية لها سواء بمناحي يمينية متفاوتةالشدة أم بمناحي يسارية متفاوتة الدرجة أيضاً . واستطراداً لهذا المعنى وتأسيساً عليه فإنه لم تظهر أيضاً منذ عصر ماركس وأنجلز تجربة مديدة للعدالة والمساواة الاجتماعية وانتفاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان طبقياً ولو بالحدود الدُنيا الممكنة الا من خلال التجربة الاشتراكية السوفييتية والتي استمرت على مدى ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن ( 1922 - 1991 ) بصرف النظر عما أعتورها من أخطاء جسيمة ظلت تتفاقم حتى أفضت إلى انهيارها مطلع العقد الأخير من القرن العشرين .
على أن تلك الثغرات الكبيرة ما كان لها بأي حال من الأحوال أن تحجب ايجابياتها في المساواة والعدالة الاجتماعية والتي عجزت كل الدول الرأسمالية عن بلوغها ولو في إطار البنى والقوالب التي السياسية والاقتصادية التي شيّدتها باعتبار العدالة الاجتماعية مطلباً عالمياً وقيمة إنسانية عليا مشتركة لا تنفيها كل الانظمة المختلفة ، بل لطالما اعترف الباحثون والمفكرون الرأسماليون ، وبخاصة بعد انهيارالتجربة السوفييتية ، بالاوضاع المتدهورة للمجتمعات الرأسمالية على مختلف الصُعد الاقتصادية والصحية والبيئية والتعليمية والاجتماعية و بما وصلت إليه من طور متوحش متعولم في الاستغلال واهدار آدمية الإنسان على نحو خطير لم يسبق له مثيل في التاريخ منذ الثورة الصناعية . وحتى المكاسب الاجتماعية التي أقرتها الأنظمة الرأسمالية المتقدمة ، وعلى رأسها الضمانات الصحية والاجتماعية ، إنما تمت تحت تأثير الافكار الاشتراكية التي جاء بها ماركس وأنجلز ونضالات الطبقة العاملة وأحزابها وبضمنها أحزاب الاشتراكية الديمقراطية الاصلاحية سواء أثناء استلامها السلطة انتخابياً أم من خلال نضالاتها خارج الحكم وخاصة تلك التي تتم بالتنسيق مع القوى اليسارية والشيوعية . ولو لم يستطع الاتحاد السوفييتي أن يحرز شيئاً من تلك المنجزات في العدالة والمساواة الاجتماعية لما كان مصدر إلهام البتة لكثير من شعوب العالم حتى مع ما شاب تجربته من ثغرات وأخطاء قاتلة . يكفي أن ثلاث معضلات تتفاقم وتعاني منها المجتمعات الرأسمالية لم تعرفها مجتمعات الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية السابقة وهي كفالة حق العمل وغياب البطالة والجوع والتسول ، وحق التعليم المجاني التام بمختلف مراحله ، وتوفير السكن بأسعار زهيدة ، وحق العلاج والتأمين الصحي . وعلى سبيل المثال فإذا كانت الرأسمالية اليوم ترفع لواء مكافحة الاتجار في البشر في العمل واستغلال المرأة والأطفال في تجارة الجنس فإن حتى أعداء الاشتراكية يعترفون بإنعدام وجود هذه الآفات الخطيرة المهينة لكرامة الإنسان في المجتمعات الاشتراكية السابقة . لكن الشيوعيين واليسار عامةً والروس بخاصة - بصفتهم معنيين بهذه التجربة التي ألهمت يسار وشعوب العالم بأسرها بدرجات متفاوتة- كم هم بحاجة اليوم في مئوية الثورة لإعادة التذكير بأخطائها القاتلة التي أدت إلى انهيار نظامها السياسي الذي صمد ما يقرب من قرن بغية الاتعاظ واستلهام العِبر منها ورسم أقرب وأنجع الطرق الممكنة للوصول إلى السلطة وإعادة بناء الااشتراكية على اُسس وطيدة ديمقراطياً بالاستفادة من رصيد وخبرة التجربة السوفييتية المديدة بمثالبها ومنجزاتها فضلا عن خبرات قوى اليسار في شتى أرجاء العالم بمنجزاتها واخفاقاتها سواء أكانت من القوى التي استلمت السلطة أم لم تستلمها .