المنبرالحر

هروبان في الحلة / علي فهد ياسين

لازالت الذاكرة الوطنية تؤرخ باعتزاز لواقعة هروب السجناء السياسيين من سجن الحلة المركزي في اكتوبر عام 1967 , عن طريق حفر نفق يفضي الى كراج لسيارات النقل يجاور السجن , بعد أن أستغرقت عملية الحفر مايقرب من خمسة أشهر , أعتمد فيها السجناء على ادوات بسيطة كملاعق الاكل والقطع الحديدية والخشبية الصغيرة , دون أن يلفتوا أنتباه ادارة السجن ومن غير مساعدة او تواطئ من اي طرف حكومي , وتم هروب اربعين سجيناً قبل أن ينكشف الامر وتتم السيطرة على الموقف .
عملية الهروب هذه كانت درسا بليغا للسلطة التي كان يرأس وزارتها طاهر يحيى , ليس في نوعيتها فقط , انما في ايضاح العلاقة بين السجناء الوطنيون وعموم الشعب الذي أحتضنهم ولم تستطع السلطات رغم الاجراءات الاستثنائية التي اتخذتها من اعادة القاء القبض الا على ما يقرب من ربع العدد المعلن لانهم كانوا يعملون في كنف حاضنتهم الكبيرة , شعبهم الذي يناضلون من اجل حياة كريمة ومستقبل افضل لأبنائه .
بعد هذه الواقعة لم تسجل اية عملية هروب لسجناء طوال العقود التي اعقبتها حتى بدء مسلسلات الهروب بعد سقوط النظام السابق , ليس فقط للسجناء بل لعناوين اخرى ليس لعملها علاقة بالسجون , فقد هرب وزراء ومدراء عامون ومستشارون ومفتشون عامون والكثير ممن يحملون عناوين وظيفية بمستويات مختلفة , ليس لانهم كانوا يدافعون عن مصالح الشعب انما على العكس من ذلك تماماً , اضافة الى انهم لا يهربون بجلودهم كما فعلها الوطنيون في سجن الحلة , انما يهربون بأموال الشعب الذي ائتمنهم عليها , وهم لا يحفرون انفاقاً للهروب بل يستقلون الطائرات من المطارات العراقية ويحجزون مقاعدهم بالدرجات الخاصة دون ان يرف لهم جفن .
ما اشرنا اليه هو هروب افراد يخططون ويعتمدون على جهات ساندة توفر لهم ظروف الافلات من القانون , وهو ما يحدث في عموم المحافظات العراقية منذ عشرة أعوام رغم وجود جهات رقابية متعددة تقف على رأسها هيئة النزاهة التي يفترض انها مستقلة , لكن تصاعد عمليات الهروب تؤشر على أن الهاربين فوق القانون , وأن أنشطة التصدي لهم مقتصرة على مستوياتِ معروفة تكون اكباش فداء للرؤوس الكبيرة .
أحدث صفحة في ملفات الهروب جاءت هذه المرة من الحلة, حيث أعلن نائب رئيس مجلس المحافظة بأن (80% ) من المشاريع متلكئة نتيجة هروب (363 ) مقاول !, ومعلوم للعراقيين أن المشاريع ترسو على المقاولين المدعومين من احزاب السلطة في عموم محافظات العراق , هذا يعني أن هؤلاء حصلوا عليها بتواطؤ السلطات معهم , حيث ان شركات المقاولات التي تقدم العطاءات للحصول على هذه المشاريع لا تخضع لتدقيق امكاناتها المالية والفنية ولا تفحص قدراتها على التنفيذ ولا تُسأل عن تنفيذها مشاريع مشابهة سابقاً , وهي في الغالب تابعة لاشخاص ليس لهم علاقة اصلا بفضاءات المقاولات قبل سقوط النظام السابق.
اذا كان في الحلة وحدها هذا العدد من المقاولين الهاربين ,فكم هو العدد الكلي في عموم المحافظات ؟ , وماهي الاجراءات المتخذة بحقهم , خصوصا وان الجميع يعرف أن الهروب غالباً ما يكون الى بلدان عربية معروفة , يعني أن هناك امكانية لتسليمهم للعراق اذا استغلت العلاقات الشخصية والدبلوماسية معاً , لان هؤلاء المفروض بعيدين عن السياسة وتوازناتها , وهم في الغالب لا يحملون جنسيات غير عراقية كما هو حال اقرانهم الوزراء .
اذا قارنا بين هروب السجناء من سجن الحلة في العام 1967 وهروب المقاولين من الحلة في هذه الاعوام , سنجد الفرق بين الوطني الحقيقي الذي يحتمي بشعبه ويناضل من اجل الحياة الكريمة له , وبين المدعي الذي يسرق أموال شعبه ويحتمي بحزبه ويعمل على اشاعة الفساد وتقويض القانون وادامة الفوضى, لكن التأريخ لا يرحم وهو يسجل لكل منهما أفعاله والشعب اصدق الشهود على الطرفين .