المنبرالحر

قراءة للمشهد السياسي العراقي قبيل الانتخابات / د. جاسم الصفار

قليل في العراق من يتوقع تغييرات حاسمة وجوهرية في الخارطة السياسية للوضع قبل الانتخابات النيابية القادمة، والمزمع اجراؤها في ربيع 2014. ويعزز هذا التصور ما تمخضت عنه انتخابات مجالس المحافظات التي اجريت بداية هذا العام. فالاستقطاب الذي تكون بعيد الانتخابات البرلمانية الماضية عام 2010 ما زال هو الفاعل في الساحة السياسية العراقية رغم هشاشة مواقف وتحالفات كلا القطبين، الماسكين بمقاليد السلطة بصبغتيهما الطائفية الشيعية والمناوئ له بعنوانه الطائفي السني. ولا يغير من طبيعة هذا الاستقطاب ما يعلنه بعض رموزه بين الحين والاخر من نفي للصبغة الطائفية لتحالفاتهم.
فمؤسسات الدولة منذ سقوط النظام السابق عام 2003 وحتى يومنا هذا مبنية على اساس طائفي تتغير فيه ادارتها وهياكلها التنظيمية احيانا وفقا للمحاصصة بين اطراف الاستقطاب الطائفي مع استحقاقات للمكونات القومية والدينية غير العربية وغير الاسلامية، تفرضها نتائج الانتخابات و"ألكوته". وفي جميع الاحوال فان القيادات السياسية لهذه المكونات القومية والدينية اختارت لنفسها النأي عن الصراع الطائفي الدائر بين القطبين الشيعي والسني الا بالقدر الذي له علاقة بمصالحها وطموحاتها رغم مشاركتها في ادارة مؤسسات الدولة المركزية.
ومن هنا فان ادارة شؤون الدولة العراقية المركزية و"عدم ادارتها"، بقيت في حدود مسؤولية قطبي الصراع الطائفي. ومع ادراك الشارع العراقي، ان اسباب فشل الدولة في اداء مهامها، بجميع اوجهها الامنية والخدمية وغيرها، تتحملها قوى وتيارات التحالفين الطائفيين. الا انه مع ذلك بقي منحازا طائفيا بسبب حالة التوجس والريبة من الاخر، التي فرضتها عليه اليات الصراع الدموي الذي تمارسه قوى الارهاب المدعومة من الخارج والمتلبسة بألبسة طائفية تكفيرية واستعلائية.
ليس هنالك توصيف للقراءة الواقعية للوضع في العراق اليوم اكثر من تعبير "متشائلة" للكاتب الفلسطيني الكبير اميل حبيبي. فالظروف متهيئة اكثر من اي وقت مضى لتشكل تحالفات جديدة خارج المعادلة الطائفية ومتجاوزة لها. أي لإنشاء قوة ثالثة تطرح مشروعاً بديلا عن المشروع الطائفي العاجز تماما عن ادارة مؤسسات الدولة العصرية، وبرموز سياسية قادرة على استقطاب الشارع العراقي. فالمشروع الطائفي عاجز تماما عن ان يكون مشروع دولة موحدة وعصرية، كما ان جميع اطرافه في كلا الاستقطابين كالإخوة الاعداء، يقتتلون فيما بينهم على حساب امن واط?ئنان المواطن العراقي.
على ان توفر الظروف الموضوعية لا يكفي بالتأكيد لبزوغ نجم قوة ثالثة تتموضع وتستقر في مكان بارز في الخريطة السياسية العراقية، ما لم تتوفر ظروف ذاتية تجعل من هذه القوة الثالثة قطبا انتخابياً يثير اهتمام الناخب العراقي. وبصورة خاصة، اهتمام تلك النسبة من الناخبين الذين اختاروا عدم المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات في نيسان الماضي اضافة الى الذين احبطتهم نتائج تلك الانتخابات فقرروا بعدهاعدم المشاركة في الانتخابات البرلمانية القادمة. وتجدر الاشارة الى ان نسبة المسجلين على قوائم الناخبين، والذين لم يشاركوا في ان?خابات مجالس المحافظات بلغت اكثر من 60 بالمئة وهذه النسبة تعتبر كبيرة في ظروف العراق التي يميزها الاحتقان والتخندق الطائفي.
ولادة تحالفات سياسية جديدة ونعي اخرى اصبحت السمة الغالبة لأنشطة القوى والتيارات والاحزاب السياسية على تنوع مسمياتها وعناوينها، منذ بداية العام الحالي. وقد بلغ هذا النشاط أوجه في شهر تشرين الثاني الجاري بالإعلان عن تشكيل تحالفين كبيرين. اولهما "التيار المدني للإنقاذ والتغيير"، والذي اعلن عن عقد مؤتمره التأسيسي في الاول من تشرين الثاني. شاركت فيه ضمن قائمة كبيرة ضمت 26 عنواناً، شخصيات كانت الى وقت قريب تتبوأ مراكز بارزة في حكومة المحاصصة الطائفية. إلان هذا التحالف لم يصمد طويلا امام ضغوط الاحزاب المتنفذة في ?لسلطة والتي تمكنت من استقطاب بعض اطرافه، اضافة الى خروج اطراف اخرى منه.
أما التحالف الاخر، وهو الاكثر اهمية، والذي اعلن عن تشكيله في بلاغ صادر عن اجتماعه الاول في 20 تشرين الثاني من العام الحالي، ضم قوى وتيارات سياسية شاركت معظمها في انتخابات مجالس المحافظات الماضية ولم تفلح في تحقيق مكاسب ذات شأن. وابرز المشاركين في التحالف الاخير هو "التيار الديمقراطي العراقي" الذي يشكل الحزب الشيوعي العراقي اكبر مكوناته. ومع ان البلاغ الصادر عن اجتماعه الاول لم يتضمن تحديداً إسم التحالف الا ان هنالك شبه اجماع بين اطرافه على ان عنوان التحالف الذي سيعلن قبل الخامس من شهر كانون الاول القادم، ل?بد أن يكون معبرا عن الاهداف التي اطرها البلاغ الصادر عن الاجتماع، بوصفه للتحالف على انه " تحالف مدني ديمقراطي عابر للطائفية لخوض الانتخابات، بمشروع مدني واضح يكون بديلاً للمشاريع الطائفية؛ مشروع ديمقراطي يسهم في تصحيح مسار العملية السياسية، وتخليصها من أزمتها الراهنة، في اتجاه بناء الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة والقانون والضمانات الاجتماعية".
وفي جميع الاحوال، فانه لا التحالفات الاخيرة ولا تلك التي سبقتها لم تصل بعد، بإعلانها عن تشكلها وحده الى مستوى الطموح ما لم تتوفر لديها الامكانيات المادية واللوجستية، وما لم تتبع اعلان ولادتها فعاليات ونشاطات يلاحظها ويشارك فيها الشارع العراقي.
اضافة الى ذلك، تجدر الاشارة الى واحدة من اهم ثغرات تلك التحالفات، وهي السعي المحموم لتجميع اكبر قدر ممكن من القوى والرموز السياسية في اطارها، دون حساب لحساسية الناخب العراقي اتجاه بعض تلك الرموز. فوجود عناوين غير معروفة للشارع العراقي، تبقى اقل ضررا من عناوين اخرى ذات بريق سلبي اكتسبته نتيجة لممارسات ارتكبتها في تاريخها السياسي جعلتها غير جماهيرية وغير مقبولة لأغلبية الناخبين العراقيين. كما ان طاحونة التسقيط الاعلامي والدعاية المضادة لا تهتم كثيرا بالشعارات بقدر اهتمامها بمثالب وثغرات شخوص ورموز المعارضة ا?سياسية،والتي التصقت في ذاكرة المواطن البسيط الباحث عن مشروع بديل يخلصه من تركة النظام السابق دون تجاوز لثوابته الوطنية وطموحاته الانسانية.
فمع انه لم يعد في العراق اليوم من وازع يفرض على الناخب العراقي استمرار تأييده للتيارات والقوى المهيمنة على مؤسسات السلطة، غير سياسة الشحن الطائفي التي تعتمدها تلك القوى التي افرزتها سياسة المحاصصة الطائفية. وان هذه السياسة لم تفض سوى الى فشل صارخ في ادارة الدولة. الا ان الناخب العراقي يبقى متطلعا نحو بديل يطمئن له لاجتياز خنادق الطائفية. وان يكون هذا البديل قادراً على التأثير في مفاصل الدولة.
ومع تقلص المسافة التي تفصلنا عن الانتخابات النيابية القادمة، يبقى السؤال المحير، هل من فسحة امل بمفاجأت تفتح الطريق نحوالتغيير في خارطة العراق السياسية بعد اكثر من عقد على هيمنة نظام المحاصصة الطائفية؟ ولكي تتسع مساحة الامل في فسحة اليأس لابد من ان تتبنى قوى التحالف المدني الديمقراطي برنامج طوارئ للتهيئة للانتخابات، يحسب الحساب لكل يوم افل قبل حلول موعدها.