المنبرالحر

لغز داعش ومدن الانبار والجيش العراقي/ فرات المحسن

شكل الاعتصام في بعض مدن العراق وبالذات منها مدينة الرمادي، وضعا مقلقا جدا لسلطة المركز العراقية. ودائما ما لوح المعتصمون بمواقف مناوئة بدت في مجملها تحدا صارخ للسلطة التنفيذية التي سميت وفق توصيف ساحات الاعتصام بسلطة المالكي الشيعية وأحيانا أطلقت عليها تسمية حكومة الروافض العميلة لطهران.
لم يدع السيد رئيس الوزراء نوري المالكي فرصة دون أن يلوح بفك الاعتصام وتشتيت شمل القائمين عليه، ودرج العديد من مناصريه في ائتلاف دولة القانون على اتهام المعتصمين بالعلاقة مع التنظيمات الإرهابية. ولم تكن ساحات الاعتصام لتخلو من هكذا شبه بل كانت مرتعا لأصوات نشاز، تارة تدعو للانفصال وعلنا ترفع الرايات لنصرة دولة العراق الإسلامية أو الجيش السوري الحر، وتارة تلوح بالقصاص من الصفويين وهم الشيعة حسب التسمية الطائفية. فكانت حرب تصريحات ضروس بين جبهتين ترتفع عندهما رايات الطائفية خفاقة. ولكن الغريب أن طرفي الخصومة يلوذان دائما بالعراق كمسمى لهوية ويتباريان بالذود عنها ويطعن بعضهما الأخر بتهمة التنصل عنها وخيانتها. ولكن على مستوى الضجيج الإعلامي والوقائع على الأرض فالصوت الطائفي دائما ما كانت له الحصة الأكبر والمساحة الأوفر ودائما ما يفضح رغبات وتوجهات كلى الطرفين.
أن استطاع المواطن العادي تشخيص الكثير من العلل والخلل والتناقض والتضارب في عمل الكثير من السياسيين العراقيين، فأن إداريي السلطة، باتوا مكشوفي الظهر وعراة في ما يقترفونه من أفعال، وحين يندفع أحد منهم ليدلي برأي، يواجه من الأخر برأي مناقض بل مفند، وتبدأ سلسلة من فضائح لا طائل لها.
مازالت قضية هروب السجناء من سجن أبو غريب تتفاعل داخل أروقة السلطة، ونتائج التحقيق لم تعرض للشعب العراقي حقيقة ما جرى، ومن هي القوى السياسية والإدارية النافذة التي قامت بالأعداد و التهيئة لهروب ما يقارب الألف سجين، لحين ما جاء التصريح الصارخ على لسان السيد وزير العدل وهو المختص والمعني والمسؤول الأول عن أوضاع سجون العراق، والعارف بحيثيات الواقعة من ألفها إلى يائها، حيث صرح بأن العملية أشرف عليها البعض من كبار الساسة العراقيين لصالح نظام بشار الأسد، ولغرض استفزاز وإرعاب الولايات المتحدة ودول أوربا وإجبارهم على تغير موقفهم من الأحداث في سوريا، وبدلا من تجهيز المعارضة السورية ومنها جبهة النصرة و داعش بالسلاح، فأن عليهم الدعوة لحل النزاع سلميا وتجنب وحشية تلك المعارضة عبر الالتزام بعقد مؤتمر جنيف الثاني.
هل كانت عملية هروب سجناء أبو غريب لعبة من الألعاب السياسية القذرة، أم ترى انفلات التصريحات والروايات من أفواه البعض دون حساب لردود الفعل بات هو الملمح السياسي الوحيد، وفي هذا لا يمكن التعويل على ما يقال في زخم الكذب والنفاق والتغليس وطمطمة الأحداث واختفاء تحقيقات اللجان. ولكن مع ما ظهر من تفاعل مع تصريح الوزير يجعل المرء يتيقن بصحة وجود مؤامرة سياسية كبرى وليس جريمة عادية، وما جاء على لسان البعض من السياسيين كشف ملامح عملية الهروب مستندين على رواية وزير العدل العراقي، وهذا ما يؤكد اليقين بالواقعة. فهؤلاء الساسة وضعوا الكثير من النقاط على الحروف في أشارة لصفقة جهنمية قادها رجال حزب البعث من المبثوثين في الجهاز الحكومي وفي مراكز نافذة وحساسة منه، وتحديدا القيام بذات الغرض الذي أعلنه السيد وزير العدل، أي تهريب السجناء لصالح سلطة بشار الأسد وحزب البعث السوري، وفيها يتم إرعاب العالم المتحضر بجرائم ووحشية رجال القاعدة.
بمستوى أخر للأحداث قال رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة واسط السيد صاحب الجليباوي أن مجلس المحافظة أتخذ قرار بالتحقيق في كيفية إرسال الفوج الثاني شرطة واسط للقتال في محافظة الانبار دون تجهيزات عسكرية. وهناك استجواب للقادة الأمنيين.
لا يمكن الوصول إلى نتائج حاسمه لمثل هذا الأمر ولا يستطيع مجلس المحافظة الحصول على أجوبة شافية. فالتحركات والأفعال تدار وفق أجندات ليس فقط أكبر من الأفراد العاديين وإنما أعلى شأوا وقدرة وقوة من قادة كبار في العملية السياسية، ويشارك في أدارتها طواقم متخصصة في تحريك دفة الحدث نحو الجهات المحددة والمعلومة. وحتى قادة لهم ثقلهم السياسي يصبحون في الكثير من الأحيان بيادق يُنقلون من موقع لأخر فوق رقعة الشطرنج وهم مسلوبي العقل والإرادة. وهذا ما حدث في عمليات فك الاعتصام في الرمادي وقبله قتال منظمة القاعدة وداعش في صحراء الأنبار، التي تبدو في مجرياتها ووقائعها لغزا محيرا ليس من السهولة فك طلاسمه، وفي الوقت نفسه فأن هناك لوحة من المشاهد والوقائع تفضح المخفي، يمكن للمرء أن يكتشف من خلالها مقدار الخسة والدناءة التي راح من جراءها العشرات ضحايا من أبناء شعبنا العراقي من الذين لا ناقة لهم فيها ولا جمل، سوى كونهم وقعوا بين فكي الرحى ليكونوا وقودا لواحدة من أغرب المعارك .
فجأة وبعد مضي العام الكامل أعلن السيد المالكي عن استعدادات وحشود لفك الاعتصام في الرمادي وأعطيت مهلة للمعتصمين توقيتها كان صلاة الجمعة الأخيرة لحشدهم، ولن يسمح بعدها بوجود ساحة للاعتصام. وفي يوم أخر أعلن عن مقتل قائد الفرقة السابعة اللواء الركن محمد الكروي ومجموعة من قادة الفرقة وجنودها أثناء عملية اقتحام وكر من أوكار المسلحين في غرب محافظة الانبار. وقبل أن تبدأ عملية الرد والثأر لمقتل الشهيد محمد الكروي تضاربت الأنباء عن طبيعة الحملة ثم المعركة ونتيجة استشهاد هذه المجموعة. ثم أعلن عن بدأ هجوم للجيش العراقي في عمق الصحراء لضرب أوكار القاعدة والثأر للشهداء، ولكن المعركة لم تستمر غير يوم واحد، ثم توقفت فجأة بأوامر عليا لينسحب الجيش نحو الحدود الإدارية القريبة من مدن الانبار، وفجأة صدرت الأوامر لفك الاعتصام في الرمادي ورفع الخيام ومنصة الخطابة، وبتوقيت متزامن أعلن عن اعتقال النائب البرلماني أحمد العلواني ومقتل شقيقه. وعلى ذات المنوال والسرعة صدرت الأوامر بانسحاب الجيش من المدن في محافظة الأنبار لتتقدم داعش والقاعدة وتسيطر على محافظة الرمادي والفلوجة وباقي المدن الأخرى حتى الحدود السورية والأردنية، وتضاربت الأنباء عن وضع الجيش والغزو الداعشي للمدن، وكيف تم كل ذلك بوقت قياسي خارج المنطق والسياقات العسكرية. ثم صدرت الأوامر لرجوع الجيش ومحاصرة مدن محافظة الانبار وضرب رجال داعش فيها. عند تلك الساعات التبس المشهد وضاعت الحقيقة في لجة أخبار مرتبكة وفبركات لا يمكن فك رموزها. فهناك أبناء عشائر يرفضون دخول الجيش إلى مدنهم، ويشكل بعضهم جيوش وقيادات عسكرية لمحاربة الجيش أن حاول الدخول، وفي الوقت نفسه يرفضون أن يكون لداعش والقاعدة وجود في مدنهم، وهناك أيضا رجال عشائر يقفون يدا بيد مع داعش ويساندونها في سيطرتها على بعض مناطق ومدن محافظة الانبار. كذلك للحكومة الاتحادية حصة في هذا الإرباك الحربي فلها رجالها داخل مدن الرمادي يمكن لهم أن يفكوا بعض العقد ويجعلوا الحكومة تتنفس الصعداء بعض الشيء.
ما الذي حدث في هذه الحومة العسكرية المتسارعة والغريبة، من الذي وضع خطتها، لصالح من تمت إدارة هذه الحومة. فالمشهد غرائبي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لماذا تقدم الجيش ثم انسحب، لماذا وبعد صبر عام تزامن فك الاعتصام مع اعتقال أحمد العلواني وبدأ عملية ثأر الشهيد محمد الكروي، ثم وهذا هو المهم والأكثر غرائبية وبات لغزا محيرا في تلك الحومة العجيبة، وهو لحظة انسحاب الجيش من صحراء الانبار بأوامر من السيد القائد العام ومن ثم صدور الأوامر بانسحاب الجيش من المدن لتدخل مجاميع داعش والقاعدة وتسيطر عليها خلال ساعات وليس أيام، ولتهرب أمامها قطعات الشرطة المحلية وتسلم أسلحتها وآلياتها ومقارها لداعش ومؤزريها.
هل هناك من مغزى في مثل هذا الحدث الكبير. أسئلة كبيرة وحائرة على السيد المالكي قبل غيره الإجابة عليها. هل هناك اتفاقيات مبرمة لوضع أبناء وعشائر الأنبار في مواجهة داعش والقاعدة، أم هناك ثمة لعبة سياسية عسكرية انطلت على القائد العام ووقع فيها بفخ أعد له بحرفية عالية وعليه في النهاية ابتلاع ما يترتب عنها من خسائر على المستوى العام والشخصي. أم تراه هو القائد الفعلي للخطة بكل تجلياتها ووقائعها.
من أين جيء بكل تلك الأعداد من رجال داعش والقاعدة ليظهروا بهذا الشكل الكبير والفجائي الذي استطاع السيطرة على المدن بنصف نهار ليس إلا. هل كان جلب واستدراج هؤلاء إلى مدن العراق عملية عسكرية من أعداد قادة الجيش من البعثيين وهي شبيه بعملية تهريب سجناء أبو غريب نصرة لنظام الرئيس السوري، حيث يبعدون عن سوح المعارك في سوريا ويتم إدخالهم وقتلهم في مدن الانبار.
صور وفديو الحياة العادية والمفرحة لمدينة الفلوجة تحت سيطرة رجال القاعدة بمساندة رجال الدين والعشائر يوحي بالكثير، وبالذات عن أمكانية التعايش مع وجود إدارة ذاتية للمدن عمادها رجال من تنظيم القاعدة أو مؤازريهم. وهي رسالة لها أيضا مغزى على المدى القريب والبعيد لمن يريد تعلم كيفية العيش في كنف وحماية الذئاب والضباع .