المنبرالحر

لماذا نريد تعليما عاليا على غرار الجامعات العالمية؟ 1- 2 / أ.د. محمد الربيعي

هذا المقال حول الجامعات الامريكية والتعليم الجامعي في امريكا والغرب كنت ازمع كتابته مباشرة بعد قراءتي لدعوة وزير التعليم العالي والبحث العلمي السيد علي الاديب لانشاء جامعة امريكية في بغداد والتي نشرت في المجلة الامريكية "وقائع التعليم العالي" "The Chronicle of Higher Education" الصادرة بتاريخ 16 كانون الاول 2013.
لكن وجودي في المغرب لقضاء عطلة نهاية السنة وانشغالاتي المهنية والعائلية خلال الفترة الاخيرة جعلني اتأخر عن كتابته، وقد يكون كل تأخير فيه خير، كما هو سائد في ثقافتنا التي لا تعير اي اعتبار لمفهوم الزمن. الدعوة اثارت اهتماما كبيرا في الاوساط الخارجية لتأكيد الاديب على ان التعليم العالي في العراق بحاجة ماسة للتحسين، ولكي يستعيد العراق عظمته التاريخية يحتاج الى جامعة من نوع جديد، وبالتحديد يحتاج الى جامعة أمريكية ودولية جديدة من شأنها أن تقود الطريق لتعليم عال متفوق في العراق في العقود المقبلة. وقيّم الاديب ألجامعات الامريكية (والغربية عموما) تقييما جيدا واصفا اياها بأنها توفر تعليما متكاملا وتخرج طلبة يتمتعون بقابليات ومهارات عديدة منها التفكير النقدي، والابتكار ويتميزون بالبراعة في التوليف والتحليل ويتعاطفون مع الآخرين، ولهم القدرة على التكيف في مجتمع متنوع الثقافات.
اعجبني تقييم الاديب للجامعات الامريكية لذا قررتُ ان اغتنم هذه الفرصة التي اتاحها مقاله لابداء الرأي ومحاولة تقديم تفصيل بسيط لافضل الجامعات الامريكية في مجالات التعليم والبحث العلمي، وبيان اسباب تقدمها وتميزها لكي تكون امثلة تساعدنا في تطوير تعليمنا العالي كمؤسسات تتوافر لديها فلسفة اجتماعية ومنهجية علمية وخطط واضحة تحدد معالم وطرائق العمل في مجالات خدمة المجتمع وتجهيز سوق العمل بما يحتاجه من خبرات وكفاءات. وقبل ان ادخل صلب الموضوع احب ان احذر من دعوة اي جامعة امريكية لمجرد انها امريكية، فالتجارب الحديثة ووجود الجامعات الامريكية في المنطقة لا تمنحنا ثقة بانها ستقدم ما هو افضل مما تقدمه الجامعات العربية، وبالتحديد لا الجامعات الامريكية في قطر والخليج، ولا في السليمانية استطاعت ان تصل الى مصاف الجامعة الامريكية في بيروت او الى تلك التي في بلدها، ولهذا اسباب عديدة قد اعود لها في المستقبل.
تعتبر الولايات المتحدة اكبر دولة للتعليم العالي ولربما افضل دولة في نوعية التعليم. توجد فيها حوالي 4000 مؤسسة تعليم عال تضم اكثر من 17 مليون طالب و41بالمئة من هذه المؤسسات تمثل كليات مجتمعية تدرس لمدة سنتين و20بالمئة تمثل نسبة الكليات الاولية، ولا تمثل المؤسسات الجامعية التي تمنح شهادة البكلوريوس الا 18بالمئة من هذا المجموع منها 15بالمئة تمنح شهادة الماجستير و6بالمئة فقط تمنح شهادة الدكتوراه ونصف هذه الجامعات (3بالمئة) يطلق عليها بالجامعات ذات القاعدة البحثية.
تتميز الجامعات الامريكية باختلاف المهمات فيما بينها، فعلى سبيل المثال تعتبر جامعة ييل (Yale) وهي من افضل الجامعات في العالم ان مهمتها اولا هي تخريج قادة للولايات المتحدة وللعالم، وثانيا تطوير ونشر والحفاظ على المعرفة والثقافة المجتمعية (Culture) . استطاعت ييل ان تخرج 530 عضو كونغرس بضمنهم الرؤساء بوش الاب وفورد وكلنتن وبوش الابن وهي بهذا تكون قد نفذت مهمتها الاولى. اما المهمة الثانية فيبدو ان نشر المعرفة ينطبق على معظم مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة الا ان المحافظة على المعرفة والثقافة وتطويرهما فلا يشاركها في هذه المهمة الا 1بالمئة من هذه المؤسسات.
المثال الثاني على الجامعات المتميزة في امريكا هو معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك) (California Institute of Technology) ومهمته هي توسيع نطاق المعرفة وافادة المجتمع من خلال اجراء البحوث المتكاملة والتعليم. كالتك ليس بجامعة وانما معهد صغير يدرّس فيه حوالي 400 مدرس وفيه 2000 طالب لكلا الدراسات الاولية والعليا، ومع ذلك فان المعهد يفتخر بحصول علمائه على 31 جائزة نوبل، ممثلا بذلك اعلى مساهمة لاغناء المعرفة من قبل اية مؤسسة بنفس الحجم . ويتميز المعهد بمواضيع محددة هي الطيران والفضاء وعلوم الحياة والفيزياء. كالت? يمكن ان يكون مثالا نحتذي به لانشاء مؤسسة جامعية تهتم بمواضيع رائدة كالمياه، وبيولوجيا النخيل، والنفط، وتضم خيرة من العلماء في هذه المجالات يهتمون بالبحوث العالمية الرائدة ويندمجون بالعلم العالمي وبمؤسساته.
اما جامعة هارفرد (Harvard) فتعتبر من اعرق وافضل جامعات العالم الا انها لاتضم الا حوالي 6500 طالب ويعتبر برنامجا الطب والتجارة من احسن البرامج المماثلة في الجامعات الامريكية. تخرج من هارفرد 8 رؤساء امريكيين بضمنهم روزفلت وكندي، وفيها عمل أو يعمل حاليا 48 عالم من الحاصلين على جائزة نوبل. قوة هارفرد الاساسية تكمن في قدراتها المادية فهي تمتلك اكبر الاوقاف المالية في العالم. اما غاية الجامعة فهي ببساطة "انتاج المعرفة وفتح اذهان الطلاب على هذه المعرفة وتمكينهم من الاستفادة القصوى من الفرص التربوية" ، ولتحقيق هذ? الغاية تقوم الجامعة بتشجيع الطلاب على احترام الرأي المغاير والافكار الجديدة وعلى التعبير الحر والتفكير النقدي والى السعي لتحقيق التفوق من خلال روحية عالية من التعاون المثمر، وتشجع طلابها على تحمل المسؤولية والمشاركة الجماعية واكتشاف قدراتهم وتطويرها، كل هذا من اجل تكوين اشخاص لهم قدرات الاكتشاف والقيادة والتحدي والتخليق.
الا يكفي هذا من مهمات لكي تترشح الجامعة بكل جدارة للتصدر؟ يتضح ان هدف جامعة هارفرد هو صناعة الانسان وليس مجرد تعليم الطلاب طب وهندسة وآداب وفنون كما تفعل معظم الجامعات. ما استذكره من زيارتي الاولى وفي مقتبل حياتي الاكاديمية لاستاذي المرحوم البروفسور فخري البزاز الذي كان يحتل كرسي التطور البيولوجي في جامعة هارفارد انه اخذني للاطلاع على قسمه واول ما فعل هو ان اراني مفتخرا بقيم واصول الجامعة مكاتب جوار مكتبه كان يعمل فيها بعض من الحاصلين على جوائز نوبل كجيمس واتسون، وتوماس ولر، وفرتز لبمان، وكونارد بلوخ. فكان?ان انتابني شعور بالاعجاب بعظمة هؤلاء الذين هم من نتاج ثقافة البحث والتحري والاكتشاف، والتراث والاخلاق العلمية للجامعة، وليس كنتيجة لقابلياتهم العقلية فقط. على سبيل المثال لم يكن فرتز لبمان الا رجلا فاشلا بلا مستقبل قبل ان تشحذ هارفرد قابلياته ليتم له أكتشاف واحد من اهم الانزيمات في صناعة البروتينات. المثال الاخير هو جامعة برنستن (Princeton) وهي الجامعة الاولى في الولايات المتحدة. في الوقت الحاضر لا يتعدى عدد طلبتها 7500 طالبا منهم حوالي 2500 يدرسون دراسات عليا. لا تمتلك الجامعة اياً من اكثر الدراسات رغبة ب?ا في الولايات المتحدة وهي الطب والقانون والتجارة، ومع ذلك فهي من افضل الجامعات في العالم، والسبب انها تتبنى نظام تعليمي من اكثر الانظمة صرامة وباستخدام موارد محدودة استطاعت من خلالها انتاج 25 من الحائزين على جائزة نوبل (17 منهم في الفيزياء) و 12 من الفائزين بجائزة فيلدز (والتي تعتبر جائزة نوبل في الرياضيات).
ومن هنا نرى ان مهمات الجامعات تختلف باختلاف تراكيبها ونشأتها واهدافها فنرى جامعة ييل تركز على مهمة انتاج قادة بينما تفضل كالتك ان يكون طلبتها من ذوي الارادات القوية والمثابرة الفائقة في حل المشاكل وتركز خاصة على أولئك الذين يتمتعون بمواهب موسيقية فذة. من هذه الامثلة وغيرها ما يتوفر لنا حول نظام التعليم الجامعي في الولايات المتحدة، نرى ان الجامعات المختلفة لها مهمات مختلفة وبالتالي لها نظم تشغيلية مختلفة تتمتع بميزات فردية. الجامعات في العراق يجب عليها ان تتميز بعضها عن البعض الاخر في مهماتها وفي مواضيعها وان يكون لها خصوصيات كالجامعات الحرة لكي تستطيع ان تسّخر امكانياتها المحدودة لتحقيق اهداف قليلة توصلها الى مصاف الجامعات العالمية المتميزة. ليس لكل الجامعات ان تكون كما يقول المصريون "بتاع كلّو"، بل عليها ان تتعرف على امكانياتها وحاجة سوق العمل المحلي، واهتمامات اساتذتها وتوفر الاختصاصات العليا لكي تبني مشاريعها وتنتقي برامجها التعليمية والبحثية. الجامعات يجب ان تكون مراكز انتاج المعرفة ومراكز تعاون ومحبة بين منتسبيها يجمعهم هدف واحد وهو الرقي بجامعتهم لا يتصارعون بينهم لتحقيق اهدافهم الشخصية وانما يتصارعون مع منتسبي الجامعات الاخرى في سبيل مصلحة جامعتهم.