مجتمع مدني

من هم أعداء ثورة الرابع عشر من تموز؟ / مسلم عوينة

أشرقت أضواء ثورة 14 تموز 1958، متوّجة نضالات شعبنا المتصاعدة ضد الإضطهاد والجور الذي كانت تمارسه سلطة النظام الملكي آنذاك، وسيطرة شركات النفط الأجنبية المتحكمة بثروات بلادنا، والقواعد الإستعمارية الجاثمة على أراضينا في الشعيبة والحبانية، فهي ثورة كللت تضحيات شعبنا، لتشكل استجابة طبيعية لتطلعاتنا الى التحرر، وبناء حياة حرة، متحررة من واقع البؤس والشقاء والفاقة، لقد عبثت سلطات الجور الملكية بحقوق وحياة العمال والفلاحين والكسبة والمهنيين، والفئات المثقفة المتنورة.
كانوا ينظرون إلى الجميع نظرة الإزدراء والإحتقار، فيُجابه من يطالب بالحقوق، بالرصاص المنهمر، والمطاردة والإعتقالات، كما حدث لعمال النفط المضربين بما عُرف حينئذ بمجزرة كاورباغي عام 1947, وقد سبقها إعدام الضباط الوطنيين عام 1941 ومن ثم ملحمة ساحة الشهداء وجسر الشهداء في وثبة كانون المجيدة عام 1948، وتبعها إعدام قادة الحزب الشيوعي الخالدين " فهد ــ حازم ــ صارم " عام 1949، وجريمتهم الشنعاء باقترافهم مجازر سجني بغداد والكوت بتوجيه الرصاص الى السجناء السياسيين عام 1953 التي غدت وصمة عار لأقطاب النظام، ولايفوتنا أن نذكر شهداء وضحايا الإنتفاضات التشرينية، وتظاهرات الإحتجاج على حلف بغداد 1954، وعلى العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة 1956، إضافة الى ما كانت الجماهير تعانيه من فاقة وفقر مدقع في المدن، حيث يبحث الشباب يوميا عن فرص العمل دون جدوى، ولم يختلف واقع حياة الريف عن حياة المدينة، حيث عانى الفلاحون الكوارث والويلات، من ممارسات الإقطاع، تلك هي ظروف الحياة ابان النظام الملكي الرجعي العميل،فكانوا ينظرون الى جموع الشعب بعين التعالي والإحتقار، معتبرينها قطعانا من الرعاع لاتستحق غير النكد والعسف وشظف العيش.
قال شاعر العرب الاكبر الراحل الجواهري :
يقولون مَنْ هُمْ أُولاءِ الرعاع
فــأفـهِمْـهُـمُ بِــدَمٍ مَـنْ هُــمُ
وأفــهـــِمـــهُمُ بِـــدَمٍ أَنـّــهـم
عَبيدُكَ إنْ تدْعُهُم يخدُمـوا
وقال شاعر العراق الكبير الراحل الرصافي :
علمٌ ودسـتورٌ ومجلـــسُ أُمةٍ
كُلٌّ عن المعنى الصحيح مُحَرفُ
يتبع
باللهِ يـــاوزراءَنـــا ما بالـكــم
إنْ نحن جادلناكُمُ لم تُنصِفـوا الشعبَ في جزَعٍ فلا تَستْبعدُوا
يوماً تثورُبه الجموعُ وتزحفُ كم من نواصٍ للعدى سنجّزُها
و لحىً بأيـدي الثائرين ستنـــتـفُ
وهكذا دأبتْ السلطة على قمع اي تململ شعبي بالحديد والنار حتى غدا نُطق بعض الكلمات مثل التحرر ـ العداله ـ حقوق الشعب ـ الوعي ـ يقود ناطقه الى اقفاص الاتهام ومن ثم الى القائه وراء الاسوار...
وكلمة"العامل"، فعلى من يحمل هذه الصفة ان يقول إنه "كاسب" بدلاً من عامل، لان هذه الكلمة كانت تخدش اسماع القائمين على ذلك النظام ! وغدا الإستماع الى إذاعة القاهرة ودمشق وصوت العرب يستدعي الردع والعقاب، اما الاستماع الى اذاعة "موسكو" فتلك جريمة لا تغتفر،وقد ابدع شاعر العرب الاكبر الجواهري في تصويره الدقيق لما آلت اليه الامورحين قال:
فالوعيُ بغيٌ والتحررُ سُبــّــةٌ والهمسُ جرمٌ والكلامُ حرامُ
ومدافعٌ عمّا يدينُ مخـــــــربٌ ومطـالبٌ بــحقوقهِ هـــــدّامُ
ومشى بأصلابِ الجموعِ يهزُّها الجهلُ والادقاعُ والاسقــامُ
فكرامة يهزى بها وكرامــــــة يرثى لها وكرامة تســـــتامُ
****
وما زالت الذاكرة تروي كيف تُزوُرّ الانتخابات حتى سمّى الشعب آخر مجلس نيابي ملكي "مجلس التزكية " لان اعضاءه فازوا جميعاً بالتزكية دون اجراء التصويت، واخذ قانون مكافحة المبادئ الهدامة يلهب الظهور فطورد حَمَلَة الفكر التقدمي والرأي الاخر والميول اليسارية، ووصلت العقوبات على هذه الامور حد الاعدام...وأُسقطت الجنسية عن عدد من المناضلين، منهم الشهداء " كامل قزانجي، توفيق منير، محمد حسين ابو العيس "وغيرهم، وحوربت الثقافة والمثقفون بموجب مخطط منظم، فلن يلتحق خريجو الدراسة الاعدادية بالكليات الا بعد حصولهم على "شهادة حسن السلوك" من التحقيقات الجنائية والهدف منها منع الشاب الناشط في الحركة السياسية الوطنية من التطور الثقافي والعلمي، ولم يكن عدد المدارس الابتدائية وما بعدها كافياً لاستيعاب ابناء البلاد كما تُضايق الصحافة ولا تُشجع حركة الترجمة والطبع والنشر. وازاء هذا الواقع المؤلم اقتنع الناس بضرورة ازاحة هذا النظام الرجعي الجائر كما ترسخت القناعة بأن ازاحته لا تتم الا عبر النضال العنيد الذي تخوضه الاحزاب والتنظيمات السياسية والوطنية اضافة الى الطموح بسند من القوات المسلحة الوطنية. وخلال مجرى النضال تبلورت القناعة بضرورة توحيد عمل الاحزاب والتنظيمات الوطنية، فبدأت وحدة العمل تتعمق وتترسخ حتى انبثقت جبهة الاتحاد الوطني اوائل 1957، وانعكست هذه الوحدة على القطاع العسكري فوُحدت تنظيمات الضباط الاحرار في منظمة واحدة واصبح هدف الجميع في القطاعين المدني والعسكري اسقاط النظام الملكي بثورة مسلحة يشعل فتيلها الجيش العراقي الباسل، وهكذا اشرقت شمس الثورة الوطنية في "14 تموز 1958" واُعلن تأسيس الجمهورية العراقة لاول مرة في تاريخ العراق وشكلِت حكومة الثورة من عدد من الضباط الاحرار اضافة الى عدد من قادة جبهة الاتحاد الوطني، وباشرت في تحقيق مطالب الشعب وحركته الوطنية، فألغت المراسيم التعسفية المطبقة بحق المناضلين وأطلقت سراح المعتقلين والسجناء السياسيين واصدرت قانون تطهير الجهاز الحكومي من المفسدين والمتلاعبين. هذا القانون الذي نحن الان بأشد الحاجة الى ما يماثله لاجتثاث الفساد الاداري والمالي المستشري، لكي لا يبقى الحديث عنه مجرد اضغاث احلام، و شُرّع قانون الاصلاح الزراعي الذي انتزع الاراضي الزراعية من حفنة الاقطاعيين وبوشر بتوزيعها على ملايين الفلاحين الذين تحرروا من السيطرة القطاعية. وتحقق هامش واسع من الحريات العامة والعمل الحزبي لكل الاحزاب الوطنية، وانطلق النشاط النقابي والطلابي والجمعيات الفلاحية، وتحررت عملة البلاد من الارتباط بمنطقة الأسترليني والاتفاقيات والمعاهدات مع بريطانيا والولايات المتحدة، وعُقدت مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية والفنية مع الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية تلك الاتفاقيات التي رسمت سبيل النهوض بالصناعة والزراعة والثقافة، واقدمت حكومة الثورة على اصدار قانون الاحوال الشخصية رقم (88) لسنة 1959 الذي كان اول قانون ينظم الأحوال المدنية للعائلة العراقية. وتم تحرير الاراضي العراقية من امتياز شركات النفط الاجنبية باصدار القانون رقم (80) لسنة 1961 وصدور الانظمة والتشريعات التي تحمي الصناعة المحلية وتشجيع رأس المال الوطني للقطاع الخاص على النشاط الاستثماري للمساهمة الفعالة في تنمية اقتصاد البلاد،واتجهت الحكومة الى التوسع في مشاريع الاسكان في سائر مدن البلاد، بحيث تراجعت ازمة السكن الى حد كبير، وقد دعم القطاع الصحي وتم التوسع في بناء المدارس، ولغرض مواجهة شحة الكادر التعليمي دُعي رجال الدين للانخراط في الدورات التربوية المكثفة التي اهّلت عدداً كبيراً منهم للالتحاق بسلك التعليم محققة الفوائد الجمة في هذا المجال... وغير ذلك الكثير من الاجراءات الوطنية التي صبّت في خدمة الشعب والوطن كل هذا دفع الجماهير للتمسك بحب ثورتها ومنجزاتها وحب أولئك القادة الذين فجروها ومجدتهم واعتبرتهم شهداءً للوطن، واستمرت تحتفل بهذه الذكرى معتبرة ذلك اليوم هو يومها الوطني، يوم سقوط النظام الملكي الذي اسسته بريطانيا وقيام النظام الجمهوري على ايدي ابنائها وستبقى تعتز به وتحتفل بذكراه ولا تثنيها كل المحا ولا ت المعاكسة فشعبنا لا يمكن ان يتنكر لتاريخه الوطني المجيد وايامه الوطنية المضيئة...
فمن هي القوى التي ناصبت ثورة الشعب العداء وتآمرت عليها واسقطتها ؟! وبقي الى اليوم يستفزها اسم 14 تموز ويثير اعصابها، وعملت وتعمل لانتزاعه من ذاكرة الشعب دون جدوى...
إنها تمثلت في بقايا النظام الملكي من كبار موظفيه ومن الذين كانوا كانوا غارقين بأفضاله، وبقايا الاقطاعيين ممن كانوا يسيطرون على اكثر من 80% من الاراضي الزراعية، والرجعيين ممن لا يروق لهم تطور البلاد والتحاقها بركب الحضارة، ولا يرضيهم تحرر العمال وحصولهم على حقوقهم، او تحرر الفلاحين من جور الاقطاع، وتَفَتُّح زهور الثقافة في المجتمع، كما تحالف مع تلك القوى جماعات تغلفت بأردية القومية والدين وبضمنها "حزب البعث العربي الاشتراكي" واخذت هذه المجاميع تلملم صفوفها وتمارس ضغوطها على الحكومة بكل ما لديها من اساليب منحطة، ومما يبعث على الاسف، تراجع قيادة الثورة امام تلك الضغوط، وبالتالي تحول النظام الى سلطة عسكرية فردية مما جعلها تبتعد بالتدريج عن القوى الوطنية والشعبية الحريصة على الإستقلال والتقدم،بل واخذت تطاردها وتضطهدها وتلقي بعناصرها الناشطة في المعتقلات، وابعدت العسكريين الوطنيين المخلصين للثورة عن المراكز الحساسة، وتقريب العناصر المعادية فتوفرت اجواء ملائمة جداً للنشاط التآمري الرجعي وبالمقابل حرمان القطاعات الشعبية من وسائلها التنظيمية للدفاع عن نفسها وحقوقها ومكتسباتها وفّر هذا الظرف الذي شكل عرساً للقوى الرجعية فرصة لتنظيم نفسها في جبهة معادية تحت عنوان "الجبهة القومية الموحدة" التي ضمت في صفوفها كل القوى والافراد الذين يهمهم اسقاط الثورة وتصفية مكاسبها، وتصاعد النشاط التآمري لهذه الجبهة ومما ساعدها على تحقيق مخططاتها، تورط الحكومة في حربها ضد الشعب الكردي مما افقدها كثيراً من قدرتها العسكرية، وزاد من اعبائها المالية إضافة الى ضغوط شركات النفط الاحتكارية بتخفيض الانتاج، وزادت في الطين بلة إثارة موضوع الكويت، وهكذا ساهم الحكم مساهمة فاعلة في توفير الظروف الملائمة لإسقاطه يوم ( 8 شباط الأسود ) وإغراق البلاد بالدماء في حملة وحشية شرسة لتصفية آلاف الشيوعيين والوطنيين الديمقراطيين والعناصر اليسارية المستقلة، والإعتداء على كوادر العلم والأدب والفن، وتصفية المكاسب التي حققتها الثورة على يد الإنقلابيين الفاشست. اولئك هم أعداء ثورة 14تموز 1958 الوطنية, لكن شعبنا بقي وسيبقى متمسكا بحبه واعتزازه بثورته وبيومها المجيد وتظل روح الثورة في عقول وضمائر العراقيين الطيبين الحريصين على مصلحة بلدهم, وكانت أهداف الثورة حافزا لهم لمواصلة النضال العنيد في سبيل بناء عراق اتحادي وطني ديمقراطي تصان فيه حقوق الجميع, عراق يسير على مراقي الحضارة دون معوقات رجعية، عراق تسطع فيه من جديد أضواء ( 14 تموز).