مجتمع مدني

ملاحظات أولية عن بداية نشاط الشيوعيين في الأهوار .. انتفاضة فلاحي الغموكة / جليل حسون عاصي

في عام 1962 انتقلت في مدرسة تقع بأطراف الهور في ريف الشطرة. وبعد استقراري في المنطقة استلمت مسؤولية منظمة الشطرة، ونسبت الى اللجنة المحلية في الناصرية، واصلت عملنا لحين انقلاب شباط الأسود وبعد اربعة ايام من الانتداب اي في 12/2/1963 انسحبت مع بعض الرفاق من المدينة الى الريف، لوجود منظمة واسعة لدينا فيه. واصلنا عملنا الحزبي ولكن بصعوبة بالغة. كنا نقضي النهار في المزارع، نأكل النباتات البرية، وفي الليل نلجأ الى بيوت الرفاق.
يقدمون لنا وجبة عشاء، وهي الوجبة الوحيدة في اليوم. استمر الحال هكذا عدة اسابيع تحملنا فيها اضافة للجوع وعدم الاستقرار هطول الأمطار الربيعية فوق رؤوسنا. اقترح احد الرفاق المدعو (سيد جاسم سيد نعمة الياسري) فكرة الاستقرار بالهور، لاسيما وانه ملجأ لكل المطلوبين للدولة لأسباب مختلفة، فلماذا لا نستخدمه لاغراض سياسية؟ وبعد مناقشة الفكرة تمت الموافقة عليها وانتقلنا الى الهور وقمنا ببناء قاعة ننطلق منها لمتابعة عملنا الحزبي. وفعلا تحققت عدة نشاطات (محاولة تحرير مدينة الشطرة، قطع اسلاك التلفون، اطلاق النار من بعيد على مقرات الحرس القومي، ووضع بيانات خطية ورسائل تهديد في داخلها، توزيع بيانات خطية في المدينة، ممارسات مسلحة ضد الاقطاعيين وابنائهم المتعاونين مع الحرس القومي في الريف).
وفي تلك الايام وصل المنطقة الضابط الوطني المعروف (مطيع..) وهو في طريقه الى الكويت. بعدها انطلقت اشاعات مفادها تواجد عدد من الضباط في الهور ومعهم اسلحة ومعدات كثيرة، ومما عزز هذه الاشاعات قيام احد رفاقنا المدعو (عبد حمود حسون) بملء زورقه بحزم من البردي والقصب واحكام الغطاء عليها والتجول في الهور بين الصيادين. وعند الأستفسار عن حمولته يخبرهم انها اسلحة الى رفاقنا في الجهة الثانية من الهور. وفي الجهة الثانية يقول نرسلها للرفاق في الجهة الأخرى وهكذا.
ان هذه الاشاعات والنشاطات وفوز رفاقنا الفلاحين بمراكز قيادية في انتخابات الجمعيات الفلاحية وشعورهم بوجود تنظيم من خلال الاعتقالات التي تحصل بين فترة واخرى. كل هذا اثار حفيظة الحرس القومي مما دفعهم لتجنيد عدد من العملاء للتجول في الأهوار، وفعلا تمكن احدهم المدعو (حريجة) وهو من معارف رفاقنا من الوصول الى القاعدة وتناول طعام الغداء مع رفاقنا وفي اليوم الثاني، وبالتحديد 1/9/1963 هاجمت الهور قوة كبيرة من الشرطة والحرس القومي. انسحب الرفاق من القاعدة، إلا ان زوجة الرفيق (عبد حمود) وقعت بايديهم الأخت (خشف عباس) مع طفلتها "حكمت بعد ذلك من قبل المجلس العرفي العسكري الاول 10 سنوات غيابيا" فكان لابد من تحريرها. وبعد معركة حامية شارك فيها الفلاحون الى جانب رفاقنا، اضطروا لأخلاء سبيل المرأة وطفلتها بعد ان تكبدوا (7) جرحى من افراد الحرس القومي ووقوع عدد من رشاشات (بورسعيد) في الماء. وبعد عودتهم الى الناصرية برروا هزيمتهم بكتابة تقرير مفاده ان قوة الشيوعيين التي جابهتهم تقدر بـ80 مقاتلاً اغلبهم من العسكريين، مزودين برشاشات (برن) ومدافع هاون، وفي حينها جهزتهم القيادة العامة بعدد من الزوارق المائية لاستخدامها في مطاردة الشيوعيين، وقد وضعت في مبنى محافظة الناصرية (تضم بناية المحافظة، دائرة الامن، والموقف) لهذا كان رفاقنا الموقوفون عندما يخرجونهم الى دورة المياه يعبثون بها، وبقيت مركونة في المحافظة الى ما بعد انقلاب 18 تشرين 1963.
بعد الاستقرار في هور الغموگة ومن اجل تأمين طريق الدخول والخروج اليه، والتعرف على تحركات الأجهزة الأمنية، عمد رفاقنا الى الأتصال بفلاحي الغموكة الذين يتواجدون على الضفة اليمنى لنهر الغموكة، بينما يتواجد السراكيل (الملاكين المتوسطين) على ضفته اليسرى، وفعلا تمكنوا خلال فترة قصيرة من بناء منظمة قوامها (18) رفيقاً ومما ساعد على ذلك كون المنطقة تعيش حالة صراع متواصل بين الفلاحين والملاكين يصل حد الصدام. ولدى الفلاحين جمعية فلاحية تعتبر من أنشط الجمعيات الفلاحية في المحافظة، يقودها شخصية فلاحية مرموقة وشجاعة يدعة (حسن النايف). في حين يقود السراكيل (حرّان الساجت).
في عام 1966 اعتدى (حرّان الساجت) على رئيس الجمعية، مما اثار غضب اخيه (محسن النايف) الذي يعيش في الهور لأنه مطارد/ هجم على حرّان الساجت وقتله في بيته، وبعد الحادث اشتد الصراع بين الطرفين كل يتوعد الآخر. وفي احدى الليالي المظلمة وبعد ان ضعفت يقظة الفلاحين، هاجمهم السراكيل متسللين من جهة الهور فقتلوا الرفيق (ورد شجر) واسروا عددا من الفلاحين وهرب الآخرون لأنهم عزل من السلاح، ولم يتوقف زحفهم إلا بعد ان اصطدموا بمقاومة الرفيق الشجاع (كرين صويح) الذي ظل يقاوم الى ان آمن انسحاب عائلته وجماعته، ونقل بعض حاجياته.
نزح الفلاحون من اراضيهم وتوزعوا على القرى في ريف الشطرة. احرقت بيوتهم واستولى السراكيل على الأرض، فواصل الفلاحون مراجعة الأجهزة المختصة وشكلوا العديد من الوفود لمقابلة المسؤولين. قدموا الكثير من العرائض والمذكرات، جمعوا التواقيع ولكن دون جدوى، وبعد الأجتماع الكامل للجنة المركزية في شباط 1967 والذي أقرت فيه الخطة التكتيكية لأسقاط الدكتاتورية من بين نقاطها (العمل على خلق انتفاضات فلاحية في المناطق الملتهبة) بادرت محلية الناصرية الى دراسة الموضوع، وتوصلت الى ان افضل مكان لأنجاز مثل هذه المهمة هو (الغموكة) وفعلا وضعت خطة وكلف الرفيقان (عطية لفتة وعطية مگطوف) للأتصال بفلاحي الغموكة وعقد اجتماع لهم، بشرط ان لا يطرحوا الخطة جاهزة على الفلاحين، وانما يمهدون لهم من خلال النقاش لتبنيها وفعلا وافقوا على خطة الحزب، وقرروا تنفيذها بالسرعة الممكنة لأن الموسم الزراعي على الأبواب. وكانت الخطة تقضي بأن يذهب جميع الفلاحين الى ارضهم في الغموكة ومعهم اسلحتهم ليلا، وعند وصولهم اليها ينقسمون الى مجموعتين، الأولى تقوم بأقامة ما يشبه البيوت على أمتداد محل سكناهم السابق لإشعار السراكيل بأن عوائل الفلاحين تقيم فيها، وانهم مصممون على استرجاع أرضهم. وتقوم المجموعة الثانية بتهيئة مواضع حصينة على ان يجعلوا الهور في ظهورهم لحمايتهم اثناء سير المعركة، ولتأمين الانسحاب وقت الضرورة. وفي الصباح تعمل المجموعة الاولى في الأرض، وتنسحب الى المواضع في حالة بدء السراكيل بالقتال. اما اذا كانت الأمور طبيعية، يستمرون في عملهم ويتبادلون المواقع فيما بينهم. وكلفت القرى القريبة من ميدان المعركة بتوفير وايصال الطعام للمقاتلين، بينما تبرعت المناطق الأخرى بمواد عينية ونقدية، وإعارة سلاح للفلاح الذي لا يملك سلاحاً. وكلف الرفيق السيد جاسم سيد نعمة الياسري للتواجد معهم في المعركة لأدارتها، وتأمين مراسل بينه وبين المحلية. فغذت الخطة وحصلت معركة ضارية بين الطرفين لم تستطع الشرطة المحلية السيطرة على الموقف ولا القوات التي جلبت من مناطق المحافظة الأخرى، وبعد ان عجزت الشرطة عن السيطرة على الموقف، لجأت الى أسلوب آخر. استدعى المحافظ رئيس الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية والتعاونية من بغداد الى المنطقة وبعد حضوره طلب منه اللقاء بالفلاحين والتعرف على مطالبهم. حذرهم الرفيق سيد جاسم من دخوله الى الموقع لأنها خديعة الغرض منها التعرف على عدد المقاتلين وتحصيناتهم واسلحتهم. لم يوافقوا على رأيه بل اكثر من هذا طلبوا منه مغادرة الموقع لكي لا تعطى الأنتفاضة طالباً سياسياً. ابتعد الرفيق قليلا عن الموقع، وبعد ان تجول الرئيس بينهم ولاحظ قوتهم وتصميمهم على القتال لحين تحقيق مطالبهم، اخبرهم بأن لديه قراراً من القيادة بالتعاقد معكم على الأرض حالما توقفون القتال وتنسحبون الى بيوتكم، وموعدنا معكم غداً في الشطرة لتنظيم العقود في دائرة الأصلاح الزراعي. وافق الفلاحون على ذلك. رجع اليهم الرفيق سيد جاسم واقترح عليهم البقاء في مواضعهم على ان تذهب مجموعة من الفلاحين الى الشطرة للتعاقد على الارض وعند عودتها تذهب مجموعة اخرى وهكذا للتأكد من صحة ادعائه. رفضوا المقترح ومع هذا لم تتركهم المنظمة ضحية لاحابيل السلطة، فاقترحوا عليهم ذهاب بين (3-5) من كبار السن الى الشطرة لأستجلاء الموقف فوافقوا على المقترح، وبعد وصولهم الى الشطرة اعتقلوا من قبل الشرطة، ولم يطلق سراحهم إلا بعد انقلاب 17 تموز 1968. لم تحقق الانتفاضة اهدافها رغم الدعم الواسع التي حظيت به، فقد اصدر الحزب بياناً دعا فيه الى تحقيق المطالب المشروعة للفلاحين، كما تابعت المنطقة الجنوبية سير المعارك اولا باول، ولاقت دعماً كبيرا من قبل القوى السياسية والجماهير الشعبية في المحافظة. وتركت تأثيرها الأيجابي على معنويات الجماهير، واعطتهم مثلا حياً على اهمية الركون الى توجيهات الحزب.
وقد تحقق ذلك فعلا في منطقة (سوق الشيوخ) بعد ثلاثة اشهر من الأنتفاضة. فقد عمل الرفيق (كريم الشذر) وهو عامل من ابناء الصويرة، عضو محلية الناصرية ومسؤول منظمة (سوق الشيوخ) بالتعاون مع المنظمة على حل مشكلة الأرض التي سبق وان كانت (بور) لعدم وجود مصدر اروائي لها، وبعد افتتاح مشروع الخميسية الاروائي اصبحت مهيئة للزراعة مما خلق خلافا بين العشائر المحاذية للأرض كاد أن يتحول الى نزاع مسلح. عندها بادرت المنظمة بعقد اجتماع لممثلين عن العشائر المتواجدة في المنطقة، واتفقوا على صيغة لتوزيعها فيما بينهم، وتعاهدوا على التمسك بها وعدم الرضوخ الى تهديدات الأجهزة الأمنية والأدارية التي يحركها بعض الملاكين للاستحواذ على الأرض. والفلاحون على حراثتها بشكل جماعي لأظهار قوتهم وعزمهم على عدم التفريط بها، وكانوا طيلة ايام الحراثة مسلحين ويهزجون بالهوسات، وقد ارعب هذا الموقف قوات الشرطة التي وصلت الى المنطقة لمنعهم من حراثة الارض، مما دفعه الايعاز الى رجاله بالأنسحاب من المنطقة. قائلا لهم تحركوا بسرعة وإلا سنقتل على ايد هؤلاء الخنازير.