مجتمع مدني

التعليم في العراق.. ما العمل؟ / د. شجاع العاني

بيّنا في الحلقات الماضية كيف ان المعرفة والتعليم هما عنصر مهم في الأمن القومي لأي شعب او أمة، ونضيف الان انه لا يمكن بناء بلد ما او تنميته وبناء بناه التحتية المختلفة بدون ترصين التعليم فيه وبدون خلق طبقة من العلماء اساسية ووسيطة لانجاز هذه التنمية، بل انه لا سيادة لبلد على ارضه وثرواته بدون الحصول على نظم معرفية حديثة وناجحة.
ومثلما بدأت هذه الحلقات بذكر شاهد من كتاب التحدي الامريكي الذي ترجم الى العربية عام 1968 سأختم هذه الحلقات بذكر شاهد آخر من هذا الكتاب المهم في قضايا العلم والتعليم.
ويذكر مؤلف الكتاب فرنسي الجنسية ان الامريكان يهيمنون على المؤسسات الاقتصادية في اوربا وفرنسا بفعل عاملين اساسيين، هما التعليم والادارة الخلاقة، فهم يأتون الى فرنسا ويشترون مؤسسات وشركات فاشلة ومحققة، لكنهم بما لديهم من نظم معرفية ومن ادارة خلاقة يعيدون بناء هذه المؤسسات لتصبح مؤسسات منتجة وبدرجة راقية على صعيد النوع والكم، ويتساءل الكاتب ما العمل؟ هل نؤمم هذه المؤسسات؟ ثم يجيب على هذا السؤال بقوله حتى لو اممنا من اين لدينا النظم المعرفية لادارة هذه المؤسسات؟
لقد طرح هذا السؤال عام 1967 يوم كانت العزلة العلمية للولايات المتحدة تقدر بخمسة عشر عاماً، ثم ازدادت مع حرب الخليج الثانية الى عشرين عاماً، ولا أشك انها اصبحت اليوم بحدود ربع القرن من العزلة العلمية التي تفصل بينها وبين اوربا!
لقد استعرت من هذا الكتاب سؤال المؤلف ما العمل لاطلقه عن التعليم لدينا، والامر هنا أخطر بكثير من اوربا، اذ يبدو ان ليس ثمة وعيّ باهمية العلم والمعرفة وبتخلف مناهج التعليم لدينا عن العالم بعشرات السنوات، وتتجلى الخطورة في ان قوى سياسية واجتماعية تتحدث عن اصلاح التعليم لدينا وتعني بالاصلاح الاستئثار بالتعليم والجامعات وتكريسه لخدمة ايديلوجيات جهوية وحزبية ضيقة.
والواقع انه لن يكون لدينا تعليم ومؤسسات تعليمية رصينة ما لم نقلع عن هذه الطرائق والانماط الفكرية المتخلفة ونجعل السلطة العلمية في هذه المؤسسات هي السلطة الاولى، وكل السلطات الأخرى تخضع لها. فلا نفوذ للايديولوجي او السياسي، ولا نفوذ للطالب، فلا يجوز مثلا ان نحجب مقعداً علمياً عن مستحق له بجدارة لنمنحه لابن شهيد يمكن مكفأته بطرائق واشكال أخرى، وليس من مصلحة المجتمع ان نرسل بعوثاً علمية الى الخارج ونختار المبعوثين على اساس سياسي او ايديولوجي، وخير لنا ان نرسل مشروع نهضة مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي او طه حسين خير من ان نرسل خمسة آلاف مبعوث على اساس الايديولوجيا والسياسة.
واذ كنا قد تحدثنا حتى الان عن العلوم الانسانية، فتجدر الاشارة الى ان العلوم البحتة ومناهجها لا تختلف في جامعاتنا ومعاهدنا العلمية عن العلوم الانسانية، فهي ايضا باتت قديمة متخلفة وغير عملية، ولا بد ان يجري تحديثها بما يتفق وآخر التطورات العلمية في الغرب، اذا ما اردنا النهوض بالتعليم في بلدنا.
ويبهرني وانا اتحدث عن التعليم انموذجان عرفتهما منذ عقد أو اكثر من السنين، يتجسد احدهما في خبر ربما يعود سماعه الى عقدين من الزمن، والخبر يقول ان المواطنين في الولايات المتحدة باتوا يخشون ان تتفوق كوريا الجنوبية عليهم علميا وخاصة في علم الرياضيات!
والآخر من دولة عربية هي تونس التي فيها نظام تعليمي متميز عن الدول العربية الأخرى، ويتجسد هذا الانموذج في الطالب التونسي، اذ كان ثمة خبر يقول ان جامعة في تونس اضرب طلابها لان ثمة نقصا في الاساتذة والتدريسيين في بعض التخصصات.
فهل يأتي يوم يستشعر فيه العراقيون الغيرة على العلم والمعرفة في بلدهم وجامعاته؟ وهل يأتي يوم يتظاهر فيه طلبتنا رغبة في العلم والمعرفة لا تهربا وهربا منهما؟ ربما وليس ذلك على الله ببعيد!
غالبا ما يتكرر انموذج الدجاجة والبيضة عند الحديث عن التعليم والمؤسسات التعليمية، اذ يرى فريق ان يبدأ الاصلاح من الحضانة والروضة صعودا نحو الجامعة، ويرى آخرون العكس. واعتقد ان الاخير هو الافضل، فعندما تخرج الجامعة مدرساً بمواصفات معينة، ستنعكس هذه المواصفات بالضرورة على مستويات التعليم الأخرى. لكن ليس هذا هو المهم، بل المهم ان نعي الضرورة، فندرك ان لا بد اذا ما اردنا تغيير اوضاع البلد نحو الافضل، ان نغير التعليم ومؤسساته نحو الافضل، والمهم ان نبدأ التغيير والاصلاح شريطة ألا يكون الاصلاح ترقيعياً ويحترم قوى سياسية او ايديولوجية برغم ان السياسة والايديولوجيا ضرورية في التخطيط لهذه المؤسسات.
والى جانب هذا الاصلاح فان ارسال المزيد من البحوث العلمية الى الخارج، وتنشيط الترجمة وعدم التهاون في الاشراف على الجامعات الاهلية وترصينها، سيسهم في تقدم التعليم ونهوضه لدينا، اذ لا بد لاي أمة تريد النهوض من الاقتراض من الآخر، وسبيل ذلك هو الترجمة والبحوث العلمية وكل سبل الاحتكاك الأخرى بهذا الآخر المتقدم علمياً وتقنياً على الأمة.