مجتمع مدني

فلاحو الديوانية من الانتفاض المسلح الى دعم الثورة / ناصر حسين

عام 1958 كانت لفلاحي الريف المجاور لمدينة الديوانية انتفاضتهم المسلحة التي كانت مسك الختام لسلسلة الانتفاضات الفلاحية المجيدة ايام النظام الملكي، كانتفاضة فلاحي آل ازيرج في العمارة ودزئي في محافظة اربيل الى فلاحي بني ازريج في الرميثة وفلاحي قضاء الشامية عام 1954.
انتفاضة فلاحي الشامية اثمرت كما هو معروف في صدور قرار حكومي بقسمة الحاصلات الزراعية بين الفلاح والملاك مناصفة، ومثلما بدأت محاولات تطبيق القرار في هذا الجزء من العراق، كانت ايضا محاولات بعض رجال الاقطاع للتمرد على تطبيقه.
عام 1958 شهد قيام الجهورية العربية المتحدة بتحقيق الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا، وبعد ذلك بأيام معدودات وفي رد مباشر على توحد الدولتين اعلن عن قيام الاتحاد الهاشمي الذي ضم كلا من العراق والاردن، وشكل ذلك بداية لصراعات سياسية ومعارك اعلامية بين الكيانين.
اجل واجه النظام الملكي الذي كان آنذاك عضوا في حلف بغداد الاستعماري قيام الجمهورية العربية المتحدة بموقف معاد وبدأ بتحريك بعض القوات المسلحة العراقية باتجاه الحدود مع سوريا في مسعى منه لاقتحام دمشق واحتلالها عسكريا وفك سوريا من الوحدة مع مصر وتنصيب الوصي على عرش العراق آنذاك، ملكا على سوريا ليقدم بدوره على ضم سوريا الى الاتحاد الهاشمي.
هذا ما قرروه وبدأوا باتخاذ الاجراءات العملية لتنفيذه، ولم يكن ذلك بخاف على قيادة منظمة الضباط الاحرار العراقيين التي كان يرأسها الزعيم عبد الكريم قاسم ويسعى لاسقاط النظام الملكي وتعمل بالتنسيق مع قيادة جبهة الاتحاد الوطني التي شكلت عام 1957 وضمت كلا من الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث يدعمها الاتفاق الثنائي بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الديمقراطي الكردستاني (حزب اليارت) والتي قامت على اساس توحيد نضال الشعب العراقي الموحد لاسقاط النظام الملكي واقامة النظام الجمهوري على انقاضه.
في ذلك الوقت كان الحزب الشيوعي العراقي بقيادة الشهيد حسين احمد الرضي - سلام عادل - يهتم اهتماما شديدا بكسب القوات المسلحة الى جانب نضال الشعب ضد النظام وفي الوقت نفسه انهاض الجماهير الشعبية في نضالات جماهيرية تمهد الاجواء السياسية في البلد لتسهيل تحرك القوات المسلحة لتوجيه الضربة القاصمة للنظام، وعلى ضوء تجربته ومعرفته التامة بالمزاج الثوري والتقاليد الثورية للجماهير الشعبية وفلاحي منطقة الفرات الاوسط ورثة ثوار ثورة العشرين البواسل تشاور "سلام عادل" مع قيادة التنظيم الحزبي في الفرات للقيام بنضالات مطلبية ج?اهيرية والتي كانت في ظل تلك الاجواء السياسية المضطربة ستتحول حتما الى نضالات سياسية من خلال تدخل الاجهزة القمعية لقمع تلك النضالات. وكانت نتيجة تلك المشاورات ان تبنت منظمة الحزب في محافظة الديوانية تحريك جماهير فلاحي الريف المجاور لمدينة الديوانية للمطالبة بتطبيق قرار الحاصلات مناصفة بين الفلاح والملاك في منطقتهم كما هو الحال في ارياف قضاء الشامية خصوصا بعد ان تبنى الملاك والمحامي الشيخ هديب الحاج حمود قسمة الحاصلات مناصفة وطبقها على نفسه قبل اي ملاك آخر.
امتاز الريف المجاور لمدينة الديوانية بوجود منظمة متينة وجماهيرية للحزب الشيوعي العراقي تنتشر خلاياها ورموزها في مختلف المناطق. كما تميزت بوجود جمعيات للملاكين الوطنيين الاحرار الى جانب الجمعيات الفلاحية السرية كان يقودها رفاق متميزون ذو وعي سياسي عال ومقدرة تنظيمية جيدة وذوي مكانة جماهيرية ممتازة وفي مقدمتهم الرفاق الشيخ هادي جلال - عشيرة العفالجة - الشيخ نجم آل عبود والشيخ عبد الامير فرحان - عشيرة آل احمد - والشيخ فيصل مشهد وكاظم غتار وفاهم فرهود وآخرين.
اول بداية للمطالبة جاءت من قبل فلاحي منطقة آل بدير في قضاء عفك كما يشير الرفيق الراحل السيد فيصل الميالي في مؤلفه عن " الانتفاضات الفلاحية في محافظة القادسية" الذي صدر عام 2011، وقد تصدت الاجهزة القمعية لذلك التحرك الامر الذي قابله الفلاحون بحمل السلاح والاصطدام معهم، ما اجبرها على الانسحاب والعودة الى مراكزها.
الموجة الثانية وكانت في الريف المجاور وقد ردت الاجهزة الحكومية على المطالبات باعتقال الرفيق الشيخ نجم آل عبود. وكانت خاتمة المطاف واوسعها الموجة الثالثة في حزيران 1958 التي ساهم فيها اكثر من (800) فلاح، حيث حمل الفلاحون السلاح تحوطا لتدخل الاجهزة القمعية التي تراجعت امام ارادتهم الصلبة، آخذة بعين الاعتبار تجربتها مع فلاحي آل بدير الذين قادهم في حينه الراحل فضيل صفر آل غضبان، ويتذكره جيدا ابناء مدينة الديوانية الذين زاروا مقرنا في مدينة الديوانية في سبعينات القرن الماضي حيث تكفل هو والرفيق جندي جبار والرفيق?هادي بنيان مسؤولية امن المقر، واستمرت جهود الفلاحين في الريف المجاور لتطبيق القانون طيلة شهر حزيران 1958 وحتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز.
يشير الرفيق صاحب السيد جليل الحكيم في مؤلفه " النجف.. الوجه الآخر" ان الحزب كلفه وكان حينها يقود منظمة الحزب في قضاء الشامية للتنسيق مع الرفيق من مدينة الديوانية والذي عرف فيما بعد انه الشاعر المعروف شاكر عبد سماوي والمكلف بالتنسيق بين اللجنة المحلية للحزب وقيادة الانتفاضة وانه التقاه وكانت هناك رغبة بان تمتد الانتفاضة الى ارياف قضائي الشامية وأبي صخير.
صباح الرابع عشر من تموز عام 1958 وفي الساعة السادسة تماما اذاعت بغداد البيان الاول الذي صدر عن قيادة الثورة الذي اعلن عن الاطاحة بالنظام الملكي وقيام الجمهورية العراقية.. وقد تغيرت الامور جذريا فكان طبيعيا ان يتغير موقف المنتفضين وان تطلب قيادة الانتفاضة منهم نقل السلاح من كتف الى كتف كما يقال ويكونوا جاهزين لتلبية ما ستطلبه منهم قيادة المنظمة الحزبية في المحافظة.
صباحا، وبعد ان تأكد قائد الفرقة الاولى للجيش ومقرها الديوانية اللواء عمر علي من قيام الثورة قرر الوقوف بوجهها واصدر الاوامر الى القوات التي بقيادته والمتوزعة في الألوية الجنوبية السبعة وخصوصا معسكرات المسيب والديوانية والبصرة للتهيؤ من اجل الزحف على بغداد والاجهاز على الثورة الوليدة.
في تلك اللحظات الحرجة كان لا بد من تحريك جماهير المحافظة لمواجهة التمرد والقضاء عليه بالتعاون بين الجماهير والضباط الوطنيين والشيوعيين المتواجدين في المعسكر وهم كثر وفي المقدمة منهم: الشهيد كاظم عبد الكريم واحسان البياتي والشقيقان طارق وخالد دوريش.
وهكذا تدفق المئات من فلاحي الريف المجاور المنتفضين المدججين بالسلاح من عشائر العفالجة وآل احمد وزبيد آل خليفة وغيرهم تقودهم قيادتهم الشيوعية وتدفقوا الى شوارع مدينة الديوانية يملأونها فرحا بانتصار الثورة وابتهاجا بالقضاء على تمرد اللواء عمر علي الذي تمت الاحاطة به واعتقاله وتسفيره مخفورا الى بغداد، ولم ينسحبوا من المدينة والعودة الى الريف الا بعد ان تأكدوا من القضاء على التمرد واعتقال قائده.
مجدا لكل من قرر القيام بالانتفاضة ومن قادها ومن ساهم فيها ومن ساندها واخص بالذكر هنا الرفاق الخالدين: الشيخ هادي جلاب، الشيخ عبد الامير فرحان، الشيخ فيصل مشهد، الشيخ نجم آل عبود، والفقيد فاهم فرهود.
والتحية للشاعر شاكر عبد سماوي والتهنئة الحارة للجميع في الذكرى السابعة والخمسين لثورة 14 تموز الخالدة.