مجتمع مدني

انحنت لها الكوارث والمناحات والدموع .. المرأة العراقية.. عنقاء تولد من سواد الفواجع

عبدالكريم العبيدي
بدا صوت المذيعة محايداً، ينسـاب بنبرة هادئة من احدى إذاعات الـ "FM" رغم دموية الأخبار العاجلة التي أطلقتها:
- العاصمة بغداد تشهد عدداً من العمليات الانتحارية في صبيحة هذا اليوم!
- وقوع عدة انفجارات بسيارات مفخخة وعبوات وأحزمة ناسفة، وسقوط عشرات القتلى والجرحى.
- الشرطة العراقية تعثر على خمس جثث مجهولة الهوية عليها آثار تعذيب.
- انتحاريان يفجران نفسيهما وسط تجمع للمتطوعين.
- يومٌ دمويٌ جديد تشهده العاصمة بغداد
وماذا بعد؟
صباحات بغداد لها "فيروزيات عاجلة"، أنابت عن الزقزقة والمعزوفات، وغدت وتراً طروبا يدوزن أمزجة الذاهبين الى دوائرهم ويمنحهم جرعات "مألوفة" من الـلا أمان!
داخل "الكيا" لا شيء يجعل الراكب صامتا. في سيارات الأجرة قد تلمس كل شيء عدا الصمت. لا بد من قراءة صباحية حرة لمشهدهم "المألوف". حتى لو كفَّت ألسنتهم عن نبش الخراب، فستفضحهم نظرات عيونهم، وستفصح عن آلام تتناسل بالدقائق. لن تهدأ أجساد الراكبين ولا رؤوسهم ولا إشارات أكفهم. كل جزء منهم يهتز ويزيح امتعاضه وسخطه، فتبدو حواراتهم سائحة متسلسلة سريعة كحوارات "الچات"، ترافقها دائما مكالمات هاتفية بالجملة.
لكنَّ امرأة أربعينية نحيفة ظلَّت تهز رأسها بأسف شديد. تتأفف وتتململ في جلستها، متحاشية النظر إلى وجوه الراكبين. بدت شاردة، منكسرة، تتلفت يميناً وشمالا، كأنها سمعت صوتا ما لفت انتباهها، فسرحت في بُعدِ دهشتها المطاط، وباتت ملامح صدمة الصباح التي صهرت وجهها النحيف تشير إلى أداتي استفهام لا غير: كيف؟ ولماذا؟
لم تصمد المرأة طويلاً، غطَّت وجهها بكفيها، ثم شرعت تنهنه وتردد باندهاش: الأربعاء!؟ الأربعاء الدامي! نعم هو، هو ذلك الأربعاء، كيف لي أن أنساه!؟ وفيه فقدت كل شيء.. تركني وحدي. قال سأشارك في تظاهرة في ساحة التحرير، لن أتأخر كثيرا. لكنه لم يعد، تركني أدور، ويدور معي هذا الأربعاء الدامي. تعبت، وتعب ذلك اليوم معي، كلانا تعب من....
في خطوة مباغتة، رفعت المرأة سبابتيها الى الأعلى وصنعت في الفراغ أقواسا متعرجة، ثم شرعت فجأة تنوح بأسى:
"يمَّه أرد أعاتبكم يالطياب
من جور گلبي وعُظم المصاب
ذاب الگلب، من الهضم ذاب
والراس، من امصابكم شاب...
تبعت النعش واركض وراكم
واچلّب بثياب الخذاكم...
ثاري الابن عازته عازه
اريدن شوفته وگلبي توازه...
أويلاه عل مارجع داره
يا بويه تِفَشَّگْ راس گلبي".
استعرضت المرأة مهاراتها في اختيار الأشعار الحزينة النافذة إلى القلوب، رددتها بأداء متقن، وبإحساس عالٍ يلائم ترددات خامة صوتها المؤلفة من حزمة أصوات وآهات مؤثِرة، تخرج من أعماق قلبها لتبث الشجن الدافئ في قلوب الراكبين الذين دُهِشوا وكفُّوا عن تداول مشهدهم، بينما انهارت بعض النسوة اللائي فقدن أبنائهن في انفجارات قريبة على ما يبدو، فلطمن على وجوههن وصدورهن، في حين انبرت امرأة ثانية كانت تجلس في الصفوف الخلفية في ترديد أشعار وأبوذيات، صدح بها صوتها الرنّان، بنكهة ريفية محببة، أسرت الألباب، وحرثت العواطف المتأججة، وأشعلت نيران الفجيعة في قلوب نسوةٍ باحثاتٍ عن تفريغ أحزانهن ومواجعهن المتلاحقة، غير آبهات ببقية الراكبين.
ناحت المرأة المواسية بصوت شجي:
اشلونك يبعد أمك اشلونك
بعدك حلو لو خرب لونك؟
حار الرمل بدَّل ارسومك...
تجيني.. لا كون تسمعني وتجيني..
انا من جور دهري ابد ما ون
اون للسار ضعنه بليل ماون
وين اهلچ غدوا يا دار ماون
نادي ولا جواب يرد عليه".
انتهت المناحة ولم تنته، فالأمر لا يحتاج الى فطنة. لأن السؤال في غاية البساطة.. أين يجتمع الحرمان والألم والنياحة والبؤس؟ يجتمع في وجه "الباكية النائحة". في وجه امرأة عراقية، تراها في الشوارع والأسواق منكسرة وقلقة، وتجدها بكل علامات البؤس في استعلامات وزارة الهجرة والمهجرين وأمام دائرة التقاعد والضمان الاجتماعي وفي طوابير النفط والغاز والبنزين وفي محكمة الأحوال الشخصية، وكثيرا ما شاهدها الملايين من على شاشات الفضائيات وهي تلطم وتهيل التراب على رأسها وتنوح بحرقة في مواقع الانفجارات اليومية.
"الباكية النائحة" في كل العصور. أم "الدللول يلولد يبني دللول" الغارقة في موجات الترهيب والترويع والاعتقالات والإعدامات تعاظم دورها في دفاتر الحروب وازداد هلعها على زوجها وأبنائها وبناتها. فالزوج والأبناء قذف بهم في أهوال الحرب. وبات عليها أن تغرق في بحور من القهر والكبت والحرمان، وأن تواجه شتى أنواع المصاعب والاحباطات. وفي نهارات الحصار، وجدت المرأة نفسها مضطرة إلى بيع مصوغاتها الذهبية وكل حاجات بيتها الواحدة تلو الأخرى. كما أرغمت الظروف الصعبة عددا منهن على البيع على الأرصفة والشوارع لضمان لقمة العيش ودعم أفراد أسرهن في مواصلة التعليم، فكانت بحق المضحية والمتفانية والصبورة والمجاهدة التي منحها النظام السابق آخر عطاياه، في مشهد نبش القبور الجماعية، فراحت النائحة الباكية تقلِّبُ العظام والجماجم، وتبحث عن رائحة زوجها وأبنائها وبناتها، وتحاول أن تعثر على خيطٍ واهن يثبت لها أن كومة العظام هذه، أو تلك الجمجمة هي آخر ما تبقى من حلم اللقاء المأمول، ليس في بيتها ووسط زغاريد الأهل والأحبة، وإنما هناك، في عواصف الحفرة العميقة، وفي روائحها النتنة، وصدى الصراخ والعويل والنياحة.
عودة الى القبلات
للعراقيين تاريخ طويل مع القبلات. وما يروى عن السومريين قبل آلاف السنين أنهم كانوا يقبلون زوجاتهم في الشوارع، ويعتبرون الاختلاء بهن في البيوت نوعا من الخطيئة!
اليوم، تُعد الأمهات العراقيات من أشهر رموز موجة القبلات التي طغت على المشهد العراقي بسبب الضغوط النفسية الشديدة التي تعرضن اليها من لحظة خروج أبنائهن وبناتهن وحتى عودتهم. تقول "أم حمادة"، أم لخمسة أطفال إنها تحضن أطفالها التلاميذ وتقبلهم كثيرا قبل ذهابهم إلى المدرسة لأنها لا تعرف إن كانوا سيعودون إليها سالمين أم سترى جثثهم من على شاشات الفضائيات في أحد الانفجارات. وأضافت "أعانق أطفالي واقبلهم وكأنني أودعهم لآخر مرة. فمن يدري هل سأتمكن من رؤيتهم مرة أخرى أم لا"؟
"أم سلام"، تشارك جارتها "أم حمادة" في الحديث عن إفراط الأمهات العراقيات في تقبيل الأولاد، تقول "تبحث الأم التي فقدت أحد أبنائها لعدة أعوام، فقط لتقبِّل جثته وتبني له قبرا لتزوره وتقبل شاهدته".
الصحافية "عواطف هاشم" تعزو هذه الظاهرة إلى الإحباط الذي أصيبت به الأمهات جراء تدهور الوضع الأمني وتفشي مظاهر العنف. تقول: "كأم لثلاث بنات، لا بد أن أقبل بناتي قبل أن نفترق في كل صباح. وأبقى طيلة فترة عملي أترقب احتمال حصول انفجار في أي لحظة".
إزاء هذا المشهد، شديد التطرف للقبلة وتعاملها المتناقض مع الذات المتمثلة بالجسد، يرى الشاعر "أحمد عبد الحسين": أن "تقديس الذات ما عادت تنفعه قبلة، لأنني حين أقول "أنا" فأنا لا أشير إلى جسدي. ففي الحقيقة أن كل إشارة إلى الذات باتت تتضمن نحوا من استبعاد الجسد، كأننا "أنا" وجسدي شيآن متناقضان، أو أن هذا الجسد الذي يحملني ربما أنا من يحمله، لأنه فائض عن حاجة الذات لتتكون".
ويبرر "أحمد" هذا الفصل المروع إلى ظواهر المنع والقسر والإكراه التي مورست على الجسد العراقي في الشارع والبيت والخندق. ويضيف "لطالما عمل الإشهار الفضائي الذي كرس تنميطا للجسد العراقي فأظهره بصورة جثث ممددة وحولها أجساد منكسرة تحني عليه "وتقبله"، أو جسد امرأة مغطى بسواد الفجائع، وفي فترة قريبة، كان رمز الجسد العراقي هو جسد الطفل المريض مرفوعا كعلامة إدانة للحصار."
ويرى "أحمد سعداوي"، كاتب عراقي، "أن تقديس الذات ـ الجسد والتعبير عن سلامته، يتجلى في أوضح صورة في إقدام الأمهات على تقبيل أبنائهن بهذا الشكل المفرط، وبيَّن أن "الجسد العراقي انتقل عبر بوابة التاسع من نيسان عام 2003 من حظيرة الراعي إلى الغابة. ومن انفتاح ناقص غير أصيل في التعامل الثقافي مع الجسد، إلى انغلاق أكثر أصالة. ومن الجسد كهدف لاستعمالات السلطة، إلى الجسد كهدف لنيران السلطات. وأضاف "أن تقديس جسدي وحمايته الأولية في ظل هذه الصور المرعبة هي أن يكون جسدا عموميا غير شخصي، يشبه أجساد الآخرين، لا ميزة له ولا فارق!"
ويذهب "حميد المختار"، قاص عراقي، الى أن جذور ظاهرة انتشار القبلات أثناء أداء التحية في الحياة البغدادية تعود إلى أكثر من نصف قرن، وتحديدا مع توافد القبائل الجنوبية إلى العاصمة، إبان عهد الإقطاع. حيث جلبت معها هذا التقليد، وبدأ ينتشر بين الرجال والنساء.
وأضاف المختار قائلا: "بعد اضطراب الوضع الأمني وتأجيج الصراع الطائفي بين شرائح الشعب العراقي، عمد العراقيون إلى الإفراط في تقبيل بعضهم البعض، ليس بسبب الرعب المتفشي في كل مرافق الحياة وحسب، وإنما للتأكيد على الحب المتبادل بين الأفراد. ولإثبات صورته الجميلة للعالم اجمع.
وأعاد "المختار" إلى الأذهان صورة مشابهة لإصرار العراقيين على الإفراط في التقبيل حصلت في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي، في بداية القرن الماضي، قال" كان المواطن الجزائري يصر على مناداة أي مواطن آخر لا يعرف اسمه بكلمة واحدة "يا محمد" في محاولة منهم للحفاظ على هويتهم العربية والإسلامية".
حميد بين أيضا "أن العراقيين بدأوا يؤسسون لهويتهم الوطنية العراقية من خلال الإفراط في القبل فيما بينهم، لإظهار تكاتف شرائحهم المختلفة، رغم ما يعتريها من تشوية وتقتيل.
ويرى الدكتور راسل كاظم، أستاذ جامعي "أن مؤثرات واشتراطات "القبلة العراقية" قد تضاعفت في الآونة الأخيرة، وبات العناق والتقبيل سمة شائعة من سمات الشارع العراقي. وكثيرا ما أشعر وأنا أرى مئات العراقيين وهم يقبلون بعضهم بعضا، أننا نعود إلى طفولتنا، كوننا نلوذ بعضنا بالبعض الآخر مع اشتداد المصائب والمخاطر من حولنا، تماما مثلما يهرع الأطفال إلى أحضان أمهاتهم حال شعورهم بالخطر."
ضابط سابق في الجيش العراقي المنحل أشار إلى أن مصافحة وتقبيل الرئيس العراقي الأسبق "صدام حسين"، التي كانت تشاهد من على شاشات التلفزيون خضعت إلى ضوابط وتعليمات خاصة، يقول: "كلنا يتذكر أن كوادر اتحاد نساء العراق السابق، كن يمتنعن عن وضع أحمر الشفاه ليتمكن من تقبيل "الريس". كما أن الوزراء السابقين وقادة الفيالق والفرق والألوية والشخصيات السياسية والأدبية ورؤساء العشائر والأهالي كانوا يتبعون تعليمات خاصة في أداء التحية والمصافحة والعناق.".. ويضيف الضابط " كانت فئة محدودة جدا تقبل الرئيس الأسبق، وهناك فئة أخرى يسمح لها بتقبيل كتفه الأيسر لمرة واحدة فقط. أما الفئة الثالثة فيسمح لها بتقبيل صدره، وهناك فئة تقبله في أسفل صدره، وهنا العديد من الرجال والنساء والأطفال من كان يقبل يده."
صورتان "كوبي بيست"
عادت الى بيت أهلها خائبة. حبست نفسها داخل غرفة صغيرة تكرمت أختها الصغيرة بقبولها ضيفة ثقيلة فيها. فضلت أن تبقى منسية لتحاشي نظرات العيون القاسية.
ابتعدت عن مشاركة أسرتها في تناول وجبات الطعام والسهر معهم ومشاهدة البرامج على شاشات الفضائيات. وتجنبت لقاء جميع الضيوف القادمين الى بيت أهلها من أقارب وجيران وأصدقاء.
تغير سلوكها وبدت غاضبة في أغلب الأحوال وشديدة الانفعال.
في لحظات ضعفها تبكي، تندب حظها العاثر، وتكتم آهات ثقيلة في صدرها وتتجنب محاورة شقيقتها الصغرى.
باتت مهملة، غير أبهة بمظهرها وما يتطلب منها من تعامل يومي مع جميع أفراد الأسرة، واختطت لنفسها سلوكا شاذا ومغايرا داخل البيت، مفضلة النوم طيلة ساعات النهار والسهر لوحدها ليلا داخل الغرفة أو على سطح المنزل، لترقب النجوم وتنشد لنفسها أشعارا و"أبوذيات" حتى تغرق كالعادة في بكاء صامت وأنين محروق الحواف.
بدأت تعاني نحول جسدها، و صداعا نصفيا، و موجات ألم بسبب هيجان القولون. وكانت كل الفحوصات الطبية تؤكد سلامتها، لكنها لم ولن تتعرف على سر مأساتها الوحيدة كونها غدت مطلقة!
*
في حادث تفجير إرهابي أصيبت بإعاقة مستديمة تركت على إثرها الجامعة. هذا تعريف ظاهري بات يتداوله زملاؤها وأسرتها، لكنه لا يبدو منصفاً، لأنها في الواقع "ماتت" رغم أنها لا تزال حيَّة ترزق. فقد انطفأ حلمها الجامعي أولا، وتلاشت فرص زواجها ثانيا، وباتت رهينة المحبسين ثالثا.
غدت مصدر حرج وانزعاج لأسرتها وعبئا عليها. ينظر إليها على أنها أضحت بلا دور ولا نفع يرتجى منها، بل كائن استهلاكي اتكالي لا غير.
كان أول سهم قاتل أصابها هو الانسحاب "الطبيعي" و"المبرر" لخطيبها.. كيف لا وقد غدت معاقة!؟
وكان ثاني سهم انغرس في أحشائها هو أنها باتت بحاجة إلى معين داخل ظلمات البيت، ثم توالت سهام مأساتها، فهي ليست رجلا بل امرأة معاقة. لذا فهي لا تخرج من البيت، ولا تتوكأ على عصا في شارع، ولا تحتمل الجلوس على عربة تدفع في شارع أو متنزه.
لقد ماتت حقا.
نساء الغد.. الى الوراء دُر!
احتضنتها بقوة وراحت تدور معها، تشمها وتقبّلها، تضحك تارة وتبكي تارة أخرى، غير مصدقة بكلمة صغيرة ظلت تطلقها بصوت عال، ثم راحت تهمسها في أذن أمها حتى غلبت عليها عاطفتها فأجهشت بالبكاء.
كانت تلك الكلمة هي الأمل الذي قادها طوال ستة عشر عاما ليوصلها الى حرارة العناق والبكاء على صدر أمها، وهي ثمن الوفاء والعهد والاصرار لامرأة بات أملها الوحيد هو سماع حروف هذه الكلمة وما تبثه فيها من فرح غامر، كما انها ختام عمر من الكفاح والألم انتظرته الأم منذ ترملها بعد مقتل زوجها في حادث تفجير ارهابي.
قبل عام وجدت الأم نفسها أمام خيارين، اما الانهيار وضياع أسرتها وأما التضحية من أجل مستقبل أبنائها، فاختارت أن تتحول الى خبّازة، تصنع أرغفة الخبز للجيران داخل بيتها، تقف قبالة التنور المتوهج لساعات طوال كي توفر لأسرتها لقمة الخبز، وتجعلهم يتواصلون في دراستهم، ويكملون مشوارهم نحو غد حاول الارهابيون حرمانهم منه، لكن سعيهم احترق بنيران تنور الأم المكافحة، وها هو يتوج بكلمة طالما انتظرتها من فم ابنتها، التي همست في أذنها: صرتُ مهندسة!
لحظتان لفرحة التخرج اذن، تشرق الأولى في الحفل الذي تقيمه الكليَّة للطلبة الخريجين، بينما تكمن الفرحة الثانية في اللحظة التي يهرع الخريج الى بيته لتقابله أمه بالعناق ودموع الفرح ونثر "الواهليّه".
ولكن بأيّ وجه يقابل البلد أبناءه الخريجين وأحلامهم، حين يحيلهم الى الانتظار والبطالة والتسكع في الشوارع والمقاهي والكازينوهات؟ بأي وجه سيلاقي الطالبات اللائي تحولن الى ربات بيوت، بعيدا عن أحلامهن وطموحاتهن، ومعاناة حفنة أعوام غالية، تبددت من أعمارهن، وهن يتابعن شهاداتهن وقد أمست حبرا على ورق، وأن قطار أعمارهن توقف في محطة البطالة، وما عادت عربة واحدة منه تجتاز هذه المحطة الى أفق آخر؟
تقول "فرح الجنابي"، مهندسة عاطلة عن العمل، خريجة جامعة بغداد/ كلية هندسة الخوارزمي/ قسم الطب الحياتي:"كان التعيين لخريجي القسم مركزيا، وألغي بقرار وزاري، فراجع ممثلون عن قسمنا وزارة الصحة مرات عدة ، ولكن من دون جدوى، مع العلم أن المؤسسات الصحية بحاجة ماسة لاختصاصنا، "أجهزة طبية، وأطراف، ومساند صناعية..."، وكم من مرة قدمنا طلبات ولكن"!
"كوثر مهدي صاحب"، خريجة معهد اعداد المعلمات لسنة 2005- 2006 اختصاص رياضيات وعلوم تقول: "أنا فتاة، كان حلم حياتي، ومنذ الصغر، أن أكون معلمة ناجحة، تربي أجيالا صالحة، وتنضج ثمارا، تبني مستقبلا زاهرا، لكن جرت الأقدار في زمن النظام السابق، ولكوني لم انتم إلى "حزب البعث"، رفض الجميع دخولي الدراسات الصباحية، فتحديت الصعاب، ورغم صعوبة الحالة المعيشية والظروف القاسية أكملت الدراسة في المعهد- الدوام المسائي، وتخرجت سنة 2005-2006 وبمعدل 94 من المائة، وكان أملي هو الحصول على تعيين أو وظيفة كي أسعى إلى تحقيق حلمي وإعانة عائلتي بعد وفاة والدي، لكن لا حياة لمن تنادي، فبسبب المحسوبية والمنسوبية ضاعت حقوقنا وأحلامنا، وعند التقديم للتعيين لا أحد يعترف بالشهادة المسائية، يعتبرونها ملغية، بينما نرى أقراننا قد وجدوا التعيين ومن السنة الأولى من التخرج"!
معاناة "زينب حسين"، مهندسة كهرباء، سنة التخرج 2013 تلخصها كالآتي: "معاناتي هي اضطراري إلى البحث عن وظيفة، عن أية فرصة عمل يمكن أن يتقنها شخص غير متعلم، لم يهدر وقته في الدراسة، معاناتي هي عدم حصولي على ما يرضي طموحي للوصول نحو الأفضل، معاناتي هي منة أصحاب العمل علي بعد توظيفي بمعاش قليل بالكاد يسد رمقي ورمق أطفالي، مع أن ترك المن زينة المعروف، وكأن حق العمل والعيش الشريف ليس حقا مكفولا على الدولة تحقيقه للجميع، معاناتي هي رؤية من هو أسوأ مني حالا، ومن هم جياع في بلدي الغني، فأضطر إلى السكوت لوجود من هو أسوأ حالا مني، معاناتي هي رغبتي في البكاء كل يوم لشعوري بالعجز وقلة الحيلة أمام من قطعوا أوصال حلمي، وعبثوا بمقدرات بلدي، هذه معاناتي ومعاناة كل عراقي شريف".
وتقول "ياسمين عادل"، بكالوريوس علوم رياضيات تطبيقية/ الجامعة التكنلوجية، خريجة عام 2006-2007:" منذ سنة التخرج حتى الآن أبحث عن تعيين، مسجلة في شبكة العاطلين عن العمل سنة 2008، لم أحصل من هذه الشبكة سوى الدورات التدريبية، أضع اضبارة طلب تعيين في كل مكان، ولم يردني اي رد، واذا حصل يكون مليئا بالاستهزاء بشهادتي، "انتي شهادتج رياضيات شنسوي بيج؟، روحي للتربية احسنلج"، سمعت هذا الكلام وذهبت الى التربية، لكنهم اعتذروا بحجة أني خريجة الجامعة التكنلوجية، غير مطلوبة في تعيينات التربية"!
وأضافت: "قدمت طلبا للتعيين في أمانة العاصمة، تسلم الموظف اضبارتي وضحك قائلا:"شتحسبين زبالة الشارع؟.. رياضيات جاية لأمانة العاصمة"!
صورة قبل الأخيرة
فراشة مقصوصة الجناحين وبلا ألوان. فراشة كئيبة، تتسلل بين العربات، وتقف قبالة نوافذها، تدندن بمعزوفة الاشفاق، تعزفها بلا مشاعر، بلا أحاسيس، تنثها بصوت فقد بريقه، بهتت نغمة التوسِّل فيه. وجهها شاحب، تلفحه الشمس بحرارتها اللاهبة، فتحيله الى صورة مجعدة جافة.
بدت الفراشة بلا حلم، بلا خيال، فراشة بلا أزهار، تلف رأسها بخرقة، وترتدي أسمالا بالية، وتسير على أرضية الشارع الساخنة بنعل متهرئ، وسط شتى أنواع المخاطر.. والمهنة: شحّاذة!
صورة ليست أخيرة!
أمام باب صالة الولادات في مستشفى العلوية للولادة. كان جمع من المنتظرين يدعون الله. ويتلهفون لسماع البشرى التي ستزفها الممرضة لهم. ولكن الممرضة ظهرت عابسة الوجه، خجلة. وظلت للحظات مترددة وقلقة، قبل أن تردد بأسى: الحمد لله ع السلامة.. "ب...نت".. فأجابها أحد المتجمهرين غاضبا:" هيه هاي إبشاره لو مصيبة.. بنت فوق أربع بنات. لا والحظ!".
الممرضة سناء أوضحت أن الكثير من الأزواج تعبس وجوههم ويغضبون حين تنجب زوجاتهم أنثى. وبتنا نشعر بالحيرة ونتردد في إبلاغهم. والمؤسف أن زوجاتهم يبكين أيضا ويندبن حظهن حال معرفة جنس المولود. لاعتقادهن أن أزواجهن سيقترنون بزوجات أخر. طالما أنهن فشلن في إنجاب الأولاد. وربما يتعرضن إلى الطلاق أو الإهمال.. تبتسم سناء قليلا وتضيف: وطبعا "الإكرامية أكلوهه علينه"!