مجتمع مدني

شذرات من تجارب العمل بين الجماهير / نعيم الزهيري

تعلمنا الماركسية انه اينما توجد الجماهير يوجد الشيوعيون، من اجل توعيتها وحشدها وتنظيمها ودفعها للنضال من أجل نيل حقوقها المشروعة.وفيما يلي بعض تجارب عمل الشيوعيين بين الجماهير:
* في عام 1960، في سجن العمارة المركزي حكى لنا رفيق قديم عاصر الرفيق الخالد فهد قائلاً:
1- كنا عمالا في شركة نفط عين زالة في الموصل وكنا نطمح ان نقنع بعض العمال بالانضمام الينا، لكن وجدنا انهم متعلقون بالشركة لانها وفرت لهم العمل ولو بأبخس الاجور. وفي احد اللقاءات مع الخالد فهد اوضحنا له الامر فسألنا عن ظروف العمل، فقلنا ان موقع العمل يبعد عن سكن اغلب العمال 3-4 ساعات مشيا على الاقدام، وكل عامل يأخذ اكله معه، ويرجع العمال في الليل الى بيوتهم ليبكروا للعمل في اليوم التالي وهكذا.. فقال الرفيق: اختاروا ابرز وجوه العمال واكسبوا ثقتهم ثم حدثوهم عن تشكيل وفد يذهب لمقابلة مدير الشركة ويوضح له ان طول مسافة الطريق تضعف انتاجية العامل، ومن اجل تلافي ذلك وحفاظاً على زيادة الانتاج وتعزيز سمعة الادارة وكذلك صحة العامل، نرى ان تساعدنا الشركة في توفير واسطة نقل للعمال من والى موقع العمل. وبالفعل تمكنا من تطبيق تلك التوجيهات ونجحنا في الحصول على النقل من والى موقع العمل... استبشر العمال بهذا المكسب الكبير، وبعد ذلك جاءت مكاسب اخرى مثل وجبة طعام مخفضة السعر وغيرها... ثم جرى تشكيل فرع سري للنقابة وبعدها تم تشكيل منظمة حزبية... وهكذا.

الحزب الشيوعي وفلاحو العمارة

عين الرفيق الخالد حسين الشبيبي (صارم) مدرسا في ثانوية مدينة العمارة، وهناك شكل تحت قيادته مع بعض وجوه المدينة المتنورين، وبغية الوصول الى الريف، جمعية بأسم (جمعية اصدقاء الفلاحين) واستأجروا خانأ في سوق العمارة لمبيت الفلاحين القادمين من الريف لاغراض متنوعة. كما تم تشكيل جمعية اخرى من المحامين الديمقراطيين المتطوعين للدفاع مجانا عن المواطنين المظلومين مجاناً وبالاخص من الفلاحين.
نشطت جمعية اصدقاء الفلاحين في مساعدة القادمين من الريف بتوكيل محامين للدفاع عن قضاياهم في المحاكم، وكتابة المذكرات لهم وارشادهم في حل بعض المشاكل الزراعية والنزاعات بين الافراد والجماعات، وحتى الزواج والطلاق وغيرها، فبرزت وجوه فلاحية هامة ومؤثرة، نذكر منهم خلف الجمالي وفعل ضمد وكاظم خليفة وعبد الواحد كرم وسالم سريح  والاخير كان عبدا مملوكا للاقطاعي شواي الفهد- ومن المدينة نعيمه بريدي وهو صاحب دكان لتصليح الراديوات، وآخرون، وعلى صعيد اخر انضم للحزب مناضلون من مختلف الطبقات: معلمون، جنود، كسبة...
وفي عام 1952 ارادت الحكومة سن قانون تسوية الاراضي الاميرية، والغرض منه احياء الاراضي المتروكة وتوزيعها، ليس على الفلاحين الكادحين طبعا، بل على اولاد واقارب الاقطاعيين وبهدف توسيع القاعدة الاقطاعية، ظهير النظام القائم انذاك... فتذمر فلاحو ال ازيرج من ذلك القانون الذي سنه النظام وقاوموه بقوة وانتشر الغضب بين صفوفهم. واضافة لمنظمة الحزب الشيوعي، لعبت دورهامنظمة انصار السلام التي بادر الحزب الى تشكيلها آنذاك وانضم اليها عدد لا بأس به من اولاد الاقطاعيين المتنورين.
تبنى حزبنا تلك النضالات وكانت العلاقة مباشرة مع قائد الانتفاضة حاتم مذكور وهو وجه فلاحي معروف وصاحب نفوذ بين الفلاحين، كما لعبت منظمة المحامين الديمقراطيين دورا هاما في مساعدة الوفود الفلاحية، فيما حشد اتحاد الطلبة التظاهرات للتضامن مع الفلاحين في مطلبهم المشروع وهو رفع يد الاقطاعيين عن الاراضي وتوزيعها على الفلاحين، مقابل ان يتعهد الفلاحون بدفع الضريبة للدولة بشكل مباشر. لقد حفزت نضالات فلاحي آل ازيرج فلاحي المناطق الاخرى في المحافظة الذين تابعوا اخبارها وتناقلوها في السر والعلن. لكن السلطة التي أرعبها هذا الوعي والمد التضامني، ارسلت قوة كبيرة من الشرطة السيارة، ضربت الفلاحين المحتشدين في منطقة (العريض) التابعة لقصبة الطويل � ناحية السلام حاليا- وقتلت خمسة فلاحين، اتذكر منهم الشاب النشط مشتت واربعة اخرين.
لقد دوّن فلاحو آل ازيرج تلك الملحمة النضالية بالدم، ولم تذهب تلك النضالات هباء، وقد سارع الفلاحون لطرد الاقطاعيين منذ الساعات الاولى لثورة الرابع عشر من تموز 1958..

نضالات فلاحي المجر الكبير

استاء فلاحو المجر الكبير من قرار حكومة قاسم في عام 1960 بارجاع الاقطاعي مجيد خليفة الى ديارهم، ذلك الاقطاعي الشرس الذي اذاقهم الامرّين. وقد حررتهم ثورة الرابع عشر من تموز لينعموا بقسط كبير من الحرية ويديروا شؤونهم بانفسهم عن طريق جمعيتهم الفلاحية المكافحة التي تأسست بمبادرة وتوجيه الحزب الشيوعي. وقد انهزم الاقطاعي مجيد بعد شهر من اندلاع الثورة، وقام الفلاحون بهدم القصر الذي بنوه له على اكتافهم في قرية الصحين.. وبنوا على ارضه مدرسة لاولادهم.
الاقطاعي مجيد الذي حصل على قرار بتحويل الارض من اميرية الى ممنوحة باللزمة يوم 13/ تموز/ 1958 اي قبل اندلاع الثورة بيوم واحد، صار يحاول الان ان يعود ثانية للتسلط على رقاب الفلاحين. فهز الغضب المشروع كل فلاحي قرى المجر (البيضان، النكارة، الصحين، العكر الجدي) وارتفعت البيارق الملونة تعانق السماء وتملؤها نشيدا ثوريا. وتصاعدات الهوسات (للموت وما اريد اقطاعي! خلاف الشيوعي انذلينا!).. الخ.. من اهازيج الغضب والاصرار على مقاومة رجوع الاقطاعي.
في تلك الفترة كنت مبعدا الى قرية الصحين، مديرا لمدرستها الوليدة، وكان معي من المعلمين رفيق اخر فتشاورت معه لكنه رفض التحرك معي. فباشرت وحدي الاتصال بوجوه الفلاحين مستغلا علاقاتي الطيبة معهم، وكنت ازورهم ليلا في مضايفهم واتفقنا على امور هامة جدا تتركز في:
* ان الفلاحين ليسوا ضد الحكومة التي حررتهم من سلطة الاقطاعي ورفعت عنهم الظلم والجور.
* ان الفلاحين مستعدون لدفع الضريبة واشاعة الاستقرار وارسال أبنائهم للخدمة العسكرية، خدمة الوطن.
* ان الفلاحين متمسكون بارضهم، ارض الاباء والاجداد.
* ان الفلاحون لا يرغبون برجوع الاقطاعي مجيد، ولا بمؤامراته في شق وحدة الفلاحين وتحريض بعضهم على بعض.
كتبت العرائض وحملتها الوفود الى المحافظة، ولا ننسى مساعدة حزبنا في هذا الشأن. وفي 18/5/1960 ارسلت الحكومة قوة مؤلفة من 200 من الجنود والشرطة بقيادة ملازم اول مشاة، لتفتيش القرى بيتا بيتا بحثا عن السلاح، لكن الفلاحين الذين علموا بالامر سارعوا لاخفاء جميع الاسلحة بتحميلها في المشاحيف والذهاب بها الى اعماق الهور. وبقي كبار السن والنساء فبقوا في البيوت واستضافوا القوة العسكرية وقدموا لهم الفطور.. وفي ليلة تحرك القوة العسكرية اراد الشباب المتحمس الاصطدام معها، فبينت لهم ان ذلك موضوع خطر ويعرض المنطقة الى ما لا تحمد عقباه. نحن لسنا ضد الحكومة، نحن ضد ارجاع الاقطاعي. واقترحت ارسال وفود الى فلاحي ال ازيرج وفلاحي السواعد للتضامن. كما هيأنا وفودا بديلة في حالة اعتقال الوفد الاول والثاني. وقد ساعدنا في الاطلاع على توجيهات القوة عريف اللاسلكي محمود فهيم وهو زميل لي عندما كنا في الصف الرابع الابتدائي.
ولم نقف عند ذلك الحد بل ارسل الفلاحون تهديدا مباشرا للاقطاعي بقتله ان هو تجرأ في الى المنطقة (المجر الكبير). وكتب قائد القوة العسكرية برقية الى حامية العمارة ينبئهم فيها ان المنطقة هادئة ولا وجود للتمرد او السلاح في القرى، وقد حصلنا وبواسطة حمود على نص البرقية. وانصرفت القوة دون ان تكمل تفتيش القرى الاخرى، ولم يخل ذلك القرار من تأثير نقاشي مع قائد القوة الذي استضفته في غرفة ادارة المدرسة:
انتصر الفلاحون في مسعاهم لكسر قرار الحكومة الخاص بعودة الاقطاعي اما انا فصدر امر القاء القبض علي، ودفعت الضريبة: السجن ثلاث سنوات وسنة واحدة تحت مراقبة الشرطة! هكذا كان قرار المجلس العسكري الثاني برئاسة المقبور شاكر مدحت سعود.

الحزب الشيوعي العراقي مدافع ثابت عن حقوق الفلاحين والشغيلة في الريف

ناضل الحزب الشيوعي العراقي بثبات منذ تأسيسه، في سبيل مصالح الفلاحين وشغيلة الريف،. فكانت برامجه الزراعية واقعية ودقيقة، مما جعل الباحثين العراقيين والاجانب يعتمدونها في دراساتهم وبحوثهم عن واقع الفلاح العراقي وعن نضاله في سبيل الارض، وعن المسألة الزراعية بشكل عام، محللين رأي حزبنا في القوانين الزراعية وشعاراته ونضالاته. ولقد اصدر "روني غابي" الاستاذ الاسترالي الكبير في الاقتصاد ، كتابا بعنوان "الشيوعيون والاصلاح الزراعي في العراق" نشرته دار كروم هيلم في لندن عام 1978، جاء فيه:
"كان الشيوعيون العراقيون ثوريين، عملوا في ظروف السرية وغالبا ما انتزعت منهم حرياتهم، وكثيرا ما انتزعت حياتهم ايضا. لكن ايمانهم برسالتهم، واستعدادهم للتضحية بانفسهم، مكنتهم الى جانب تمسكهم بنظريتهم الماركسية، من العمل ناظرين ببصيرة ناقد للواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في العراق. وكان الشيوعيون شديدي الكفاءة والفعالية في توجيه الانتباه، لان الاصلاحات الاجتماعية لا يمكن تحقيقها ما لم يتغير جهاز الدولة.."
وبالفعل فان برامج الشيوعيين تصاغ ببصيرة نافذة ومهارة متمرسة، وان نشاطهم بين الفلاحين، وكسبهم اوساطا واسعة منهم كمناضلين في الريف، دفع قطاعات فلاحية كبيرة الى تبني برامجهم، عن اقتناع ووعي. ويزيدنا فخرا نحن الشيوعيين العراقيين، ان حزبنا كان الوحيد من بين الاحزاب السياسية في العراق قبل ثورة 14 تموز 1958الذي كان له برنامج اصلاح زراعي واضح ودقيق.
ففي اول برنامج لحزبنا في عام 1944 وضع الحزب مسألة الدفاع عن مصالح الفلاحين الفقراء والملاكين الصغار، ضمن مهامه الاولى التي يتوجب على الشيوعيين النضال في سبيل تحقيقها. جاء في البرنامج:
"نناضل من اجل ايقاف نهب اراضي الفلاحين والملاكين الصغار، والمحافظة على ممتلكات الشعب، وايقاف اعطاء المقاطعات الكبيرة الى الشيوخ والمتنفذين، وتوزيع هذه الاراضي بقطع صغيرة على الفلاحين مباشرة وبدون بدل، من اجل مساعدتهم وتخليصهم من نهب السراكيل والمرابين، ومنحهم القروض الحكومية نقدا وعينا، ورفع الضرائب والرسوم والخاوات والايجارات غير العادلة واللاقانونية عنهم".
وفي أوائل الخمسينيات، صعّد الحزب المطالبة بمصادرة اراضي كبار الملاكين وتوزيعها على الفلاحين، ورفع شعاره العتيد "الارض لمن يحرثها" وشعاره الاخر "الفلاح اخ الفلاح وعدوهما الاقطاع والرجعية". كما اوجد الشكل التنظيمي المناسب لتعبئة الجماهير الفلاحية، وهو الجمعيات الفلاحية.
كان الشعاران المذكوران مهمين في توحيد جهود الفلاحين ورص صفوفهم وزجهم في النضال من اجل انتزاع حقوقهم والدفاع عن مصالحهم تحت قيادة الحزب.
وبذلك سبق حزبنا كل الاحزاب السياسية في العراق، في تشكيل منظمات جماهيرية سرية من الفلاحين الواعين والكفوئين، من الذين لديهم الاستعداد للتضحية والتفاني في سبيل ابناء طبقتهم المظلومة، طبقة الفلاحين.
وفي النصف الثاني من عقد الخمسينيات رفع حزبنا شعار المناصفة في قسمة الحاصلات بين الفلاحين والملاكين، وقد ناضل فلاحو الفرات الاوسط وفي طليعتهم فلاحو الشامية والمسيب ومعهم فلاحو الكوت، من اجل تحقيق هذا الشعار.
وبعد انتصار ثورة 14 تموز 1958، قدم حزبنا مشروعا للاصلاح الزراعي الجذري، لكن السلطة البرجوازية لم تأخذ به، و سنت قانونا للاصلاح الزراعي مستنسخا عن قانون مصر. ومع ذلك اعتبر الحزب هذا القانون (رقم 30 لسنة 1958) على علاته، خطوة تقدمية على طريق حل المسألة الزراعية. كما اعتبره جوهر الثورة البرجوازية الديمقراطية في العراق، لانه قضى على سلطة الاقطاع كطبقة اجتماعية متحكمة في رقاب الفلاحين ولقمة عيشهم.
وفي عقد الستينيات طرح الحزب مشروعا للاصلاح الزراعي الجذري وحشد الفلاحين ونظمهم وقادهم من اجل تطبيقه، رغم انه خارج السلطة، لكن السلطة البرجوازية التي ارعبها المد الجماهيري والتي استندت الى عناصر الردة من بقايا الاقطاع والملاكين الكبار وعناصر العهد المباد، حالت دون الاخذ به. وهكذا ظلت المواجهة بين العقلية المحافظة والعقلية التقدمية قائمة ومستمرة.
وفي اوائل عقد السبعينيات صدر القانون 117 لسنة 1970 وقد تضمن مواد عامة بشأن تخفيض سقف الملكية والغاء حق الاختيار والتعويض.. الخ. ووقف حزبنا الى جانب القانون وعمل على تطويره.
اما القانون رقم 90 لسنة 1975 الخاص باراضي كردستان، فمهما كان الهدف غير المرئي منه، الا انه لو طبق لكان اعمق من القوانين التي سبقته. ولا يزال حزبنا يتمسك بتطبيقه في كردستان تماشيا مع الظروف الجديدة التي تمر بها المنطقة، ويعمل على تطويره لصالح الفلاحين الفقراء والملاكين المتوسطين من ابناء الريف.