فضاءات

اذاعة "صوت الكلدان" في ديترويت: 33 عاما في خدمة الجالية / كمال يلدو

 

لم تكن تلك الأنطلاقة قبل 33 عاما الا "مغامرة" لم يعي اي منهم حجمها الا بعد ان اينعت وتفرعت اغصانها وثبتت جذورها عميقا في وجدان الجالية العراقية بديترويت، وفي مدارها الأعلامي. تلك بأختصار هي قصة مجموعة من الشباب الكلدان العراقيين الذين جمعتهم الغربة وظروف العراق اوائل الثمانينات لتنطلق في مشروع "الأذاعة الكلدانية" في ديترويت. كان يحذوهم املا بتقديم افضل النتاجات والحقائق للناس، مدفوعين بأهداف انسانية وقومية مشروعة ، وقد تكون مقولة (ميردث مونك)* خير توصيف لأنطلاقتهم الأذاعية آنذاك ولليوم: "ذاك الصوت الداخلي المنبعث، والممتلئ بالرقة والدماثة والوضوح، وحتى تحافظ على اصالته، عليك الذهاب بعيدا في البحث عن الحقائق، حتى تصل لعمقها، للعظم، من اجل الحقيقة وحتمية الأشياء".

"صوت الكلدان" عبر الأثير
يقول السيد "فوزي دلّي" عن تلك البداية كونه احد مؤسسيها مع زملائه ( شوقي قونجا وضياء ببي ) الذين لا زالوا مواكبين بالمسيرة لحد اليوم , واخرين تركوا العمل ولكنهم متواصلين .
تأسست إذاعة صوت الكـلدان سنة 1980 من قِـبل نخـبة شبابـية كـلدانية واعِـدة كانت تنشط في (نادي الشبـيـبة الكلداني الأميركي) اكثر الأندية نشاطا بتقديم الفعاليات والنشاطات المختلفة ومنها المطبوع الجميل، مجلة بأسم ( شمس الكلدان ) والتي توقف اصدارها بعد التوجه والتفرغ للبث الأذاعي، حـيث بَـدأتْ الأذاعة حـينذاك بمعـدّل ساعة واحـدة في الأسبوع وكانت بأسم ( أذاعة صوت الشبية الكلدانية ) وتبث مباشرة كل يوم سبت الساعة الواحدة ظهرا، بعد اذاعة الكنيسة الكلدانية. في سنة 1982 وبعد توقف اذاعة الكنيسة وبطلب من سيادة المطران ابراهيم ابراهيم الجزيل الأحترام، اخذنا على عاتقنا ساعة الكنيسة، ليصبح بث اذاعتنا ساعتان، بعدها وبفترة قصيرة تطورت توجهات اذاعتنا، من اذاعة للشبيبة الكلدانية الى الأتجاه العام والأوسع الذي يهتم بكل الجالية والوطن وشعبنا وقوميتنا الكلدانية، ورافقها تبديل الأسم من "اذاعة صوت الشيبية الكلدانية" الى "اذاعة صوت الكلدان

كلفة باهضة
وبالتوقف امام كلفة البث، ناهيك عن مصاريف الأجهزة والمراسلين، فمن اين للأذاعة كل هذه الأموال، يجيب السيد فوزي دلي:
الإذاعة مؤازَرة ومدعـومة من قِـبل الجالية بكل مؤسساتها الدينية والأجتماعية والقومية، ونخـص بالذكـر الدعـم المتـواصل واللامحـدود من مطرانية الكـلدان وعـلى رأسها سيادة المطران إبراهيم إبراهيم راعي أبرشية مار توما الرسول الكـلدانية في أميركا، ، اما كلفة الساعة، فقد كانت في بداية عهدنا بالبث بحدود 50 الى 60 دولار، واليوم تكلف بحدود 300 دولار، اي ان البرنامج الواحد يكلف 1500 دولار. اما تكلفة الأذاعة للبث وامور الصيانة وتحديث الأجهزة فتصل لحوالي 80 الف دولار سنويا.

ماهو مشروعكم للجالية
ولكون مشروع الأذاعة مشروعا كبيرا، وعندما نقول انه مضى عليه 33 عاما، فهناك الكثير من الحكومات لم تدم لهذه السنين، كيف عملتم وماهي برامجكم، يجيب السيد فوزي دلي:
اذاعتنا ليست اذاعة تجارية وهدفها ليس الربح المادي بقدر ما هو تقديم البرنامج المتكامل الهادف والموجهة الى كل الجالية ( ديني – قومي – سياسي – اجتماعي – فكري – لقاءات – اغاني – ثقافة) لذلك نفخر ان نقول بأن اذاعتنا هي اذاعة الجالية الكلدانية العراقية الأمريكية كما يسميها ابناء الجالية، ومستمعينا هم الداعمين الرئيسيين للأذاعة بالأضافة الى المعلنين
هل المحطة مستقلة
برامجكم ونشاطاتكم تدفع المتتبع للسؤال ان كانت المحطة مستقلةام لا، وأن كانت هناك جهات قد حاولت شرائكم او التأثير عليكم، فيجيب السيد فوزي دلي:
الأذاعة مستقلة ويعمل كادر الأذاعة ومعدّي البرامج بأستقلالية تامة بعيدا عن اي تأثيرات من اي كان، وهذا هو واحد من اسباب استمرار الأذاعة واعتزاز متابعيها بهذا المنجز الذي يعتبره الجميع ملكا له. نحن دائمي القول، بأن اذاعة صوت الكلدان هي اذاعة الجالية بكنيستها وجمعياتها ومنظماتها وكل فرد يستمع اليها، ومنهم نستمد قوتنا ويزداد عطاؤنا
اما بشأن التأثير علينا من قبل البعض فأقولها صراحة، نعم كانت هناك محاولات عديدة ايام النظام السابق، من خلال بعض المأجورين، وذلك بتقديم العروض والسفرات المجانية، لكن محاولاتهم فشلت امام وحدة العمل والفكر بين اعضاء كادر الأذاعة، والمؤازرة القوية من مستمعينا الذين منحونا مشكورين اكثر مما نطلب، ونشكر الله على هذه العلاقة الحميمة المبنية على الثقة والمحبة المتبادلة .

واستكمالا لموضوع الأستقلالية سألت السيد فوزي دلي عن آلية التوفيق بين الأستقلالية والموقف من الأنظمة المتعاقبة فقال:
الأستقلالية لا تعني ابدا عدم الأنتقاد او كشف الظالم، ومؤازرة المظلوم، وفضح القاتل والمرتشي والسارق والمغتصب. ولا تعني الأستقلالية، السكوت عن الذي يقتل شعبنا ويحرق كنائسنا ويهجّرشعبنا. ان اذاعتنا تتفاعل مع هموم الوطن، وشعبنا المسيحي وهموم ابناء الجالية وقوميتنا الكلدانية، لأن الكلدان هم اصل العراق وتأريخه وحاضره وجزء لا يتجزأ منه. ان سياستنا لم تتبدل منذ ايام النظام السابق، فقد كنّا ننتقد ونفضح، وهكذا نحن اليوم، سنبقى ننتقدهم ونفضح كل من يشارك في الجريمة ضد ابناء شعبنا العراقي عموما، وشعبنا المسيحي بالخصوص، حتى يقوم نظام يكفل الحقوق للجميع ويحميهم بدون تفرقة .

مرة اخرى عن البداية
بالعودة للبدايات، سألت الأخ فوزي دلي عن كادر الأذاعة ومحطاته وأيام البث الأولى والصعوبات التي واجهوها، والطاقم الموجود الآن، فأجاب:
البدايات كانت صعبة جدا، اذا ما علمنا بأن الجميع لم يكونوا اعلاميين بالمعني الحرفي والمهني، بل كانوا هواة، هدفهم هو خدمة الجالية من خلال ايصال الكلمة والخبر الجميل. اما قضايا التدريب على التقديم والأخراج وصياغة الخبر وجمع المعلومات وكل الأمور الأخرى، فقد أثمرت ونمت من خلال جهودنا الذاتية. ومما زاد من صعوبات عملنا آنذاك، عدم وجود الأجهزة المتقدمة ، ناهيك عن ان الملومة كانت تصلنا بصعوبة (بكطع النفس) نتيجة لعدم وجود شبكة الأنترنيت، وشحة المواد او الصعوبة في الحصول عليها او ترجمتها.
كان – بيت - اذاعتنا (في الأيام الأولى) بالطابق الاسفل من قاعة كنيسة ام الله الكلدانية في ساوثفيلد، اذ كانت القاعة العليا مسـخّرة لعمل أكثر اندية الجالية نشاطا آنذاك ( نادي الشبية الكلداني الأمريكي) ، ومن الطريف ان اذكر بأن سعة غرفة التسجيل كانت ضيقة جدا لدرجة انها تتسع لشخصين او ثلاث اشخاص فقط ( المخرج والمذيع وشخص اخر ) اما اذا زاد العدد فتكون النتيجة وقوفا.

كم عدد العاملين اليوم
نظرا لكون برنامج الأذاعة منوع ( ديني – سياسي – اجتماعي – ثقافي – اخبار – لقاءات) فأنه يحتاج الى كادر كبير، خاصة اذا علمنا بأن كل العاملين هم متطوعين لخدمة الجالية، لكن يمكنني حصر عدد العاملين الآن بما لا يقل عن 15 شخص، يعملون بين مذيع ومخرج ومعد ومقدم برامج وعقد اللقاءات وتهيئة الموسيقى والأغاني ومتابعة الأخبار وامور فنية وتقنية اخرى متعلقة بالبرنامج. ان هذه التهيئة تستغرق ساعات عديدة، ناهيك عن وقت التسجيل الذي يمتد احيانا حتى ثمانية ساعات أو اكثر لكل برنامج .

اضافة للأذاعة ، ماذا قدمتم للجالية
صحيح ان العمل الأعلامي ممتع، لكنه صعب وفيه مسؤليات كثيرة ، فبالأضافة للأذاعة، سألت السيد فوزي دلّي عمـّا قدمته مؤسستكم للجالية:
مع الخدمة التي يقدمها البرنامج الأذاعي، يقوم اعضاء وكادر الأذاعة بالعمل مع الكثير من منظمات الجالية، ويتابعون بأهتمام القضايا التراثية والقومية والفنية والأدبية، حيث قدمّنا العديد من الكفاءات، ومن ذوي الأختصاص، في محاضرات مفتوحة مع الجالية، ناهيك عن رعاية وتنظيم أو المشاركة في المهرجانات القومية المحلية، التي تعرض كل ما هو جديد في حقل الاغنية والموسيقى والقصيدة شعرية، من اجل ابراز الفن والتراث القومي الكلداني والأرتقاء به، وهكذا العمل والتعاون مع الفنانين والمطربين وتشجيعهم للغناء والأداء بلغتنا الكلدانية الجميلة، ولأذاعتنا مساهمات عديدة في حقل العمل الأنساني، اذ قمنا بحملات لمساعدة المحتاجين، وخاصة في العراق ايام الحصار، أو في الفترة ما قبل سقوط النظام وما تلت سقوطه، عن طريق جمع المساعدات المالية من ابناء جاليتنا ، من خلال برامج خاصة تبنتها الأذاعة، ثم جرى ايصالها لأهلنا في العراق عن طريق القنوات الكنسية .

وطنيون ام عنصريون
هل تسميتكم للأذاعة ب (الكلدانية) خلقت لكم صعوبات، او اتهمكم البعض بأنكم عنصريون ومتعصبون، ام ماذا، يجيب السيد فوزي دلي:
نحن الكلدان شعب لنا تأريخنا ولغتنا وحضارتنا وقوميتنا التي تمتد جذورها الى اكثر من سبعمائة عام نفتخر بها كما يفتخر الأخرين بهويتهم، ودفاعنا عن المسيحين وعن كلدانيتنا ليس بالمخجل، لأن ذلك حق من حقوقنا، فنحن لسنا عنصريين او طائفيين، لا بل اننا نرفض هذه الكلمات، لكن من حقنا كما للأخرين، الدفاع والأرتقاء بخصوصيتنا القومية والثقافية والتأريخية . ندافع عن الأنسان العراقي، والأنسان في كل المعمورة، حين يتعرض للظلم والأضطهاد، ولأننا نحترم الخصوصية القومية والدينية للآخرين، فأننا نتوقع من الآخر المقابل، احترام خصوصيتنا القومية والدينية، و أود ان اؤكد لك وللقراء الكرام، بأننا نحن العراقيون، ورغم حجمنا العددي (صغير)، فنحن قومية اصيلة في بلاد النهرين وتأريخنا وحضارتنا هناك. اما عن الأسماء التي تطلق على الفضائيات في العراق وخارجه ( منها الطائفية والمذهبية والقومية ) فليس لنا موقف ضدها، لكن اسم "الكلدان" و "صوت الكلدان" هو الأجمل، ليس لنا نحن الكلدان فقط، بل لكل العراقيين، خاصة اذا علمنا بان بعض الأخوة المسلمين، وخاصة من محافظات جنوب العراق، يؤكدون بأن تأريخهم وحضارتهم وقوميتهم هي الكلدانية، وهي الحقيقة.

طرائف
لا يخلو عملا كبيرا مثل العمل الأذاعي من المواقف المحرجة او الطريفة، خاصة حينما يكون البث بشكل مباشر، ويذكر لنا ضيفنا السيد فوزي دلّي هاتان الحادثتان ويقول:
في زيارتنا الى العراق عام 2003 بعد سقوط النظام، وفي وقت المساء، كنا نقوم بالبث المباشر، عن طريق التلفون (شبكة الثريا ) من على سطح الفندق الذي كنا فيه، واثناء البث، جرى رمي كثيف بالأسلحة النارية حول الفندق وبأتجاهه، تسبب في انقطاعنا عن البث بعدما تمددنا على الأرض، حفاظا على ارواحنا من طلقة طائشة!! لكن هذا القطع الأذاعي ولـّد خوفا كبيرا لدى عوائلنا وأبناء الجالية، لحين اتصالنا بهم مجددا، وتبليغهم بسلامتنا. اما الحادثة الطريفة الثانية، فقد جرت عندما كنا نبث مباشرة الى الأذاعة في ديترويت، من حاضرة الفاتيكان بروما، لمناسبة الأحتفال بتنصيب غبطة الباطريرك عمانوئيل الثالث دلي ( كاردينالا )، وكنا قبل ذاك، قد اذعنا الخبر، واعلمنا مستمعينا قبل البدء بنقل الأحتفال عدة مرات، بأننا سنكون على البث المباشر من الفاتيكان، وكان النقل آنذاك يجري عبر التلفون، وحدث بعد دقائق، ونحن في غمرة نقلنا لوقائع الحفل، واذا باحد الأخوة المعلنين من بائعي اللحوم، يطلب ان نذيع له تنزيلات ملحمته عن لحوم البقر والغنم والباجة والمعلاك ، فيما الأخ شوقي قونجا (الذي يقوم بنقل وقائع الحفل) يقول له نحن في الفاتيكان، وهو يرد عليه قائلا: ( شكو بيهة ) !!.

خاتمة اللقاء والسيد فوزي دلّي
قد يكون قليل جدا، عدد اولئك الناس الذين لم يتعرفوا على السيد فوزي دلي عن قرب او بعد. فصوته متميز بالعمق والحنان، وشخصيته تشي بمحبة غامرة لكل من يمر بها. دمث بأخلاقه، لطيف بمعشره، مؤدب وملتزم، وهذه الصفات الحميدة يشترك بها مع الأحبة العاملين في "اذاعة صوت الكلدان". وللأمانة اقول، ان ادبه وثقافته جعلت مهمتى في هذا اللقاء يسيرة، وحينها رفض ان يكون اللقاء شخصي وأصر ان يكون اللقاء باسم كل العاملين في الأذاعة. بين افكاره وأفكاري تم اللقاء. ومع اني التقيته هو، فهذا لا يمنع ابدا ان اتقدم بتقديري ومحبتي للعزيزات جنان سناوي، وسن وارتان والفنانة سوسن كيزي، وللأعزاء شوقي قونجا وضياء ببي، ساهر يلدو والأخ ماهر كانونا، لدورهم الأعلامي الريادي وسط جاليتنا الغالية، والذين اثبتوا بأخلاقهم الرفيعة وعملهم المهني الصافي، انهم مدرسة اعلامية بكل معاني الكلمة، ينهل الكثيرين منها (ومنهم انا) للرصانة، والمهنية العالية، شكرا لهم كلهم.

*ميردث مونك:ممثلة امريكية، مغنية ومخرجة وفنانة ومنتجة افلام.