فضاءات

حقوق المرأة العراقية في قلب أزمة الثقافة العراقية / عبد العزيز لازم

للثقافة ثلاثة فروع هي الثقافة الانثروبولوجية،والثقافة الإبداعية، والثقافة التعليمية . ونعتقد أن هناك ارتباطا وثيقا بين تلك الفروع المعرفية رغم الفواصل الظاهرية الطبيعية .فالثقافة الانثروبولوجية،هي مجموعة العادات والتقاليد والطقوس الاجتماعية المتراكمة التي يتصرف ضمن شغلها أبناء المجتمع . وهذه تلهم المبدعين في بناء أعمالهم الإبداعية في مختلف أجناسها . أما الثقافة التعليمية فتساهم في تنوير أبناء المجتمع حول حقائق و ضرورات التطور الاجتماعي عبر صقل وتهذيب المفاهيم والطقوس السائدة التي استنفذت وظائفها عبر المراحل التاريخية المختلفة. فيما تكوّن الثقافة الابداعية قمة التكوين الروحي للناس ويمثلهم في ذلك نخبة من الموهوبين واصحاب الرأي المبني على التأمل والتفكير العميق وشغل المخيلة ايضا، وهم الأدباء والشعراء وصناع الملاحم والحكايات . وهي تعتمد على تشغيل وسائل المبدعين في البحث عن الحقيقة .

على صعيد الثقافة الانثروبولوجية دخلت المرأة العراقية منذ الأزمنة الأولى بنشاط في الحياة الروحية والمادية للبلاد، من ذلك ان النساء كن يقدمن تماثيلهن بالمظهر الشخصي وفي وضع التعبد الى المعبد، اعتقادا منهن ان صلواتهن ستكون متواصلة من خلال وضع الرمز الشخصي هناك ، بينما هن يواصلن القيام بأعمالهن اليومية دون توقف . في هذا السياق تعلمت المرأة اعمالا اخرى، فقد تعلمت طحن الحبوب، وغزل النسيج،وحياكة الملابس، وصنع المشروبات . ان تلك النشاطات ذات الطابع الانتاجي أو الخدمي التي بدأت ضمن حدود المنزل قد قادت المرأة الى ان تنتقل الى خارج تلك الحدود لممارسة مهن مستمدة من النشاطات المنزلية نفسها . وهكذا اتجهت الى السوق لبيع ما تنتجه ، بل انها مارست في هذا السياق ادارة الفنادق او الخانات او ادارة الحانات في ذلك الزمان . كما ان القدرة على الانجاب التي ميزت المرأة العراقية، وكذلك فن العناية بالاطفال قد الهمتها ان تعمل كقابلة كفوءة، بل علمتها ايضا كيفية صنع الادوية الخاصة بأمور الولادة والانجاب مثل ادوية منع الحمل، او ادوية تعين على الاجهاض الاختياري . اي ان العناية بالاطفال أدت بالمرأة الى الانطلاق نحو آفاق خلاقة أخرى ولم تؤد الى حبسها في المنزل وتلقي طغيان العقلية الذكورية .
إن خروج المرأة في العراق القديم الى ساحة عمل اكبر من ساحة البيت اضافة الى قيامها بالواجبات المنزلية المعتادة ايضا قد ساعد على تغيير نظرة العديد من الرجال تجاه المرأة . وقد رصد الحكيم السومري ذلك فأصدر الحكمة التالية بحقها على لسان الرجل وهي :" المرأة مستقبل الرجل " . فالرجل هنا يعبر عن شديد تعلقة بالمرأة باعتبارها انسانة تلخص كل مستقبله على ضوء ما ذكرنا عن دورها في حياته . لكن هذا لايعني ان المرأة العراقية القديمة لم تدخل في صراع ضد النظرات والمفاهيم التي استهدفت تهميشها والحط من مكانتها . غير انها دائما كانت قادرة على اثبات قدراتها في المجالات كافة .
وفي فترة الحكم الاسلامي ايضا، ظهرت قدرات نسوية فاقت قدرات الرجال وظهرت معها نظرات متقدمة من قبل رجال الدولة واصحاب الرأي تجاه المراة واحترام دورها، فبعد صلح الحديبية مثلا، طلب النبي محمد ( ص) من المقاتلين أن يحلقوا شعورهم ويستحموا بعد ان انتهى القـتال مع قريش حسبما تفرضه تقاليد ذلك الزمان، فرفض هؤلاء اوامر النبي رغبة منهم فيما يبدو في استمرار القتال، فدخل على السيدة ام سلمة وهو قلق ومهموم بسبب ذلك . أشارت عليه تلك السيدة برأي سديد بان طلبت منه ان يبدأ تنفيذ أوامره بنفسه فيحلق شعره ويستحم امامهم، ففعل النبي ذلك وتبعه المقاتلون المسلمون في ذلك وتم حل الازمة بفضل نصيحة اطلقتها سيدة حكيمة . والامثلة التي تثبت قدرات المرأة كثيرة وكذا حالات إظهار الاحترام لها من قبل القادة المسلمين في التاريخ . بل ان القرآن الكريم قد اطلق الآيات التي تنتصر للمساواة بين الرجل والمرأة : "للرجال نصيب مما يكسبون وللنساء نصيب مما يكسبن ." والواضح ان هذه الآية تحقق المساواة بين الرجل والمرأة في الاجور والكسب المادي و سينتج عن ذلك بطبيعة الحال تحقيق المساواة في المكانة الاجتماعية، رغم ان هذه الآية وغيرها قد تعرضت لتفسيرات مختلفة تخدم اصحاب اتجاهات مقصودة لغير صالح مبدا المساواة بين الجنسين . وقد ذكرنا وجود العلاقة بين العمل وهذا المبدأ في المجتعات العراقية التي عاشت قبل الاسلام وقبل ميلاد السيد المسيح . إن وجود تلك المفاهيم التي يجري طمسها ومنع اشعاعها اليوم، تدعو الى تاسيس منظومة قانونية وتشريعية لتحويل فكرة المساواة في الحقوق الى واقع مادي ملموس .
لكن ما يجري في بلادنا هو الرفض المتشدد لكل المعاني العالية التي تحملها المنجزات الثقافية والعلمية التي يبثها النشاط الروحي للانسان العراقي وكذلك الموروث الثقافي الانساني، فيجري تكريس وسائل الاستهانة بقدرات المرأة وتقليل الاعتبار لدورها الاجتماعي والاقتصادي رغم انها تثبت كل يوم انها تمتلك مقومات في عكس ذلك . ورغم تزايد دعوات حجز المرأة في المنازل وقصر دورها على الانجاب وتربية الاولاد، تغص مواقع الانتاج العام والخاص والجامعات والمدارس ووسائل الاعلام باعدادهن . وليس صدفة ان يتجاوز عدد المتفوقات في امتحانات المدارس والجامعات عدد زملائهن الطلبة، وكأن المرأة في إظهار تفوقها العلمي تريد إظهار تحديها للعقليات التي تكرس تهميشها وسلبها حقوقها القانونية والاجتماعية وآخر ما ظهر في هذا الخصوص مشروع قانون الاحوال الشخصية الجعفري الذي يكرس الطائفية في مجتمعنا ويبيح تزويج الفتيات القاصرات،. وهذا يعني ضمن ما يعني إشغال هؤلاء الفتيات بعملية الانجاب وحرمانهن من إكمال دراستهن . اي ان القائمين على هذا المشروع يريدون الالتفاف على وقائع الحياة التي تثبت استحقاقات مشروعة لصالح الاعتراف بحقوق المرأة ودورها في صنع القرار ولربما جاءت هذه المحاولة لقمع تيار متصاعد في المجتمع حاليا لاقرار هذه الاستحقاقات .
ان الرجل باعتباره يمثل جنسا ليس مغـتصبا لحقوق المرأة طالما ان حقوقه مغتصبة هو الآخر. والامر في هذة المسألة يتعلق بظروف التطور العام في المجتمع في ظل مفاهيم متخلفة جعلت الرجل يبدو هو المهيمن على كل شيء، بما في ذلك على مصائر المرأة ودورها في البناء الاجتماعي والاقتصادي .ان السيطرة الظاهرية للرجل هي في حقيقة الامر من مفاعيل العقلية التي تراكمت بسبب تراكم الظلم السياسي والطائفي والاقتصادي ليس على المرأة فقط،بل وعلى الرجل على حد سواء، فكلاهما بسبب تلك الظروف بات يسيء فهم الاخر ويخضعه للشكوك والمحاكمات. لذا فالسيطرة هنا ليست سيطرة جنسية، بل هي سيطرة ثقافية انثروبولوجية .
ان الثقافة العراقية لم تحصل على فرصتها الطبيعية في الانفتاح على الثقافات الاخرى القوية وغير القوية في التاريخ الحديث بسبب طغيان الانظمة السياسية والاجتماعية السائدة التي تخشى على مصالحها من هذا الانفتاح . في التاريخ الحديث لم تجرب الثقافة العراقية حظها في هذا الانفتاح غير ثلاث مرات عليلة، المرة الاولى كانت في فترة حكم الوالي المملوكي الجيورجي الاصل الذي حاول مواصلة خطوات سلفه سليمان باشا مستفيدا من تجربة مصر بقيادة محمد علي باشا عام 1805، الذي شهد دخول الثقافة والعلوم الغربية الى مصر بعد ان حقق الاستقلال السياسي عن الباب العالي العثماني . لكن داود باشا لم ينجح في مسعاه بسبب الطاعون والفيضان . المرة الثانية هي فترة حكم مدحت باشا في اواخر القرن التاسع عشر الذي استطاع ادخال عناصر الثقافة والعلوم الحديثة الى العراق في وقت قياسي هو فترة حكمة الذي امتد لثلاث سنوات فقط، ثم شاءت مؤامرات الباب العالي تغييره ومن ثم اغتياله في مكان آخر، بعد ان ترك بعض البصمات الحضارية في جسم الثقافة العراقية، فكانت فرصة عرجاء لم يتح لها ان تمضي الى مداها الكامل . اما الفرصة الثالثة، فهي فترة الرابع عشر من تموز 1958 التي فتحت الابواب أمام الافكار التقدمية كي تتلاقح مع الثقافة العراقية التي استوعبتها، وتعايشت معها بسهولة، الا انها اجهضت بعد فترة قصيرة من عمرها للاسباب المعروفة. وليس صدفة ان تحقق المرأة العراقية بعد ثورة تموز الكثير من المكتسبات لصالح المرأة بفضل المعارك التي خاضتها بقيادة منظمتها المجربة رابطة الدفاع عن حقوق المراة والتي سميت فيما بعد برابطة المرأة العراقية التي لازالت تواصل تقاليد النضال العنيد من اجل انصاف جماهير النساء وربط جهودهن في تيار النضال الوطني التقدمي . ونشير الى ان اول وزيرة في الشرق الاوسط كانت إمرأة عراقية عام 1959 هي الراحلة نزيهة الدليمي .
من هنا نرى ان الثقافة العراقية تعرضت للخنق والتسوير لحرمانها من مصادر تطورها الطبيعية، ومن هذه المصادرالمنجزات الخيرة في الثقافة العراقية القديمة إضافة الى المصادر العالمية التقدمية .لذلك عاشت البلاد وضعا استبداديا فريدا فالسجون التي شيدتها الطبقات المتخلفة حفاظا على مصالحها لم تكتف باعتقال الانسان بل شمل ذلك القيم الروحية الخلاقة ايضا . لذلك توفر للافكار والمفاهيم التي تهين المرأة وتحط من قدرها وامكانياتها أن تهيمن على المشهد السياسي والاجتماعي العراقي .
ـــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1- القرآن الكريم
2- كتاب " ادب الحكمة والنصيحة في العراق القديم، ترجمة حياة " تأليف الكاتب
3- ANCIENT MESOPOTAMIA : THE ROLE OF WOMEN .(THE ORIENTAL INSTITUTE OF THE UNEVRSITY OF CHICAGO ), YAHOO.COM
4- رواية " ارض السواد " عبد الرحمن منيف