فضاءات

شذرات من حياة الرفيق الخالد فهد في أوراق الراحل خليل جموعة / كمال يلدو

في الوقت الذي يغيب فيه وجود آرشيف وطني حقيقي (غير منحاز)، رسـمياً كان أو حزبياً أو حتى شعبيا، يحفظ ســير القادة بصورة مهنية بعيداً عن المواقف المسبقة من الأشخاص او الأنظمة، فقد حطمت الحياة السياسية المضطربة منذ عقود الوثائق التي كان يمكن أن تحفظ ذاكرة هذه البلاد وشعبها. الا إن هناك من العراقيين من تحدى كل هذه الظروف الصعبة لينقل للأجيال القادمة، شيئاً من حقائق عصرنا المنهك بالإرهاب والطائفية والتمزق والحروب. في بعض الوريقات التي تركها السيد (خليل جموعة) قبل فترة وجيزة من رحيله، والتي تكرمت ابنته الغالية (طليعة جموعة) فأطلعتني عليها، وجدت الكثير مما ينعش ذاكرة العراقيين، عن تاريخ حزبهم الشيوعي وعن حياة مؤسسه الرفيق الخالد فهد! في أوراقه المهمة، يكتب السيد خليل جموعة عن أول لقاء جمعه مع الرفيق يوسف سلمان (فهد):
"كان ذلك في أواسط الثلاثينات في بغداد، حيث كنت عاملاً اتدرب في كراج لتصليح السيارات، فتعارفنا، وبقي في ذاكرتي جراء ما تركته شخصيته في نفسي من دهشة. لم ألتقه بعدها، وعرفت بأنه إلتحق بمدرسة الكومنترن في الأتحاد السوفيتي ثم عاد الى البصرة. في بداية الأربعينات، صار محلنا مركز جذب للشخصيات الوطنية، خاصة تلك القريبة من جريدة "الأهالي"، كالأستاذ حسين جميل، والأستاذ كامل الجادرجي وبعض المقربين اليهم من ذوي الآتجاه اليساري أمثال عبد الفتاح إبراهيم وعبدلله اسماعيل الذين صاروا لاحقا الخميرة والبذرة الأولى لتشكيل الحزب الوطني الديمقراطي. وبكملة مختصرة فأن محلنا صار مشهوراً بميوله اليسارية والديمقراطية، لهذا سارعت مديرية التحقيقات الجنائية لمراقبته، لكن ما ساعدنا في تجاوز المشكلة، تنوع زبائننا، من تجار الشورجة الى الباعة الجوالين، الى زوار من المحافظات، مما ساهم في تخفيف حدة المراقبة لاحقا".
"في هذه الفترة، إلتقيت مع يوسف سلمان يوسف عندما قدم لبغداد، وكانت حينذاك (حسب علمي) خالية من نشاط الحزب الشيوعي، ربما بعد الضربة التي تعرض لها أثر اعتقال وتشريد اهم قادته، وأعتزال بعضهم العمل الحزبي، لكن كانت هناك بعض التكتلات التي ظهرت أواخر الثلاثينات، وكانت نشطة في تثقيف أفرادها ضمن حلقات، او أن تلتقي لتتبادل الآراء او حتى لجمع بعض المعونات للمساعدة فيما بينهم، وللحق أقول بأني كنت نشطا في إحداها، وأقوم بأدارتها، وكانت تضم اعضاء لهم وزنهم الثقافي والمبدئي، وكانت رغبتهم تنصب على دراسة الفكر الماركسي ودعم حركته، وكان من بين اعضائها، عبدلله اسماعيل البستاني، عبدالملك عبد اللطيف، نوري وفريد ضياء محمود، فاضل حسين وغريب القروي، حيث كانت نشطة في جمع الكتب والمجلات والنشرات الماركسية، وكنا نقوم بترجمة بعضها، فيما كان غريب القروي يقوم بطباعتها لتسهيل نشرها فيما بين الأعضاء".
" لقد كانت نقاشات الصالونات الثقافية، والحفلات، سائدة بين أفراد تلك الفئة المثقفة، هذا إضافة الى بعض الأشخاص المتحمسين لتشكيل تكتل أو حزب شيوعي، وربما يكون اسم السيد نوري روفائيل اكثر الشخصيات نشاطا في المبادرة لذلك حينها، وعلمت بأنه كان على اتصال مباشر بالسيد يوسف اسماعيل، المتبحر بالعلوم الماركسية اللينينية، والمرتبط بالحزب الشيوعي الفرنسي".
" أعتقد، إن ظهور (فهد) في بغداد كان رغبة منه للوقوف على ما يجري فيها من تحركات، وصار مهما له أن يقترب من هذه الحلقات الثقافية ودون أن يترك مجالا للشك أو الريبة. في تلك الفترة ظهرت أنشطة أخرى تزعمها السيد عبدلله مسعود القرني، ولقد كانت له قدرة عظيمة على النشاط والكلام، كانت تمكنه من السيطرة على مشاعر المستمعين، جراء ثقافته وحسن تعامله مع الناس. أرتبطا سوية (هو وفهد) وتمكنا من تشكيل الحزب رسميا، وأصدروا بعدئذ جريدة (الشرارة)".
" اقتربنا كثيراً أنا و(فهد)، وقد تأثرت جداً بأسلوبه في النقاش والمحاججة لدرجة إني صرت أقلده دون أن أدري، هذا التقارب ساعدني لمعرفته اكثر، فقد فسّر لي الكثير من المصاعب والمطبات السياسية التي مرت عليه وعالجها، وشرح لي كيف إنه وفي بداية حياته السياسية كان متأثرا بالزعيم الوطني جعفر ابو التمن ويقيم إحتراما كبيراً لحزبه، فقد كان فهد مشبعا بالروح الوطنية".
" إن مجيء (فهد) اليومي الى محل "جموعة اخوان" تحول بمرور الوقت الى عمل، فقد أسدى لنا خدمة كبيرة، اذ كان حضوره يمتد من الصباح وحتى المساء، وكان يعمل بجد. أذكر إنه ساعدنا بشكل كبير آنذاك في عمل أصباغ الطائرات، الذي طلبته منا السلطات لطلاء طائراتها اثناء الحرب العظمى، فقد إتقن هذه العملية الكيمائية (البدائية) الصعبة وبرع فيها. كان يقدم كل ذلك دون أن يتقبل أية إجور تذكر". كنا نذهب سـوية الى دارنا في منطقة "صبابيغ الآل" بعد انتهاء عملنا. لقد كان ليوسف سلمان منزلة خاصة عند المرحومة أمي (لطيفة ميـّو)، والتي لم تكن تعرف ماهية الشيوعية، ولا تحب السياسيين أصلا، لكنه كان يتقن إرضاء كبار السن، والتودد اليهم، لدرجة إنها كانت تسأل عنه اذا لم يأت يوما ويزورها بعد العمل. لقد كانت ترتاح كثيرا لحضوره، وتعد له افخر أنواع الشاي، فقد كان يشربه بإستمرار، ليلا نهارا، وكان نادرا ما يأكل معنا، على ان غذاءه كان الشاي فقط!".
"ليوسف سلمان شـخصية بسيطة وغير معقدة، اما ملامح وجهه فهي صلبة ولا تتغير بسرعة. لا تشعر عند التحدث معه بأنه راض ام ممتعض، او غير موافق على الكلام، بسبب من تركيبة تقاطيع ومسامات وجهه، فيكون من الصعب حقا معرفة ردود أفعاله الحقيقية. وأرتبط ذلك بعيونه التي كانت غائرة، وبأهداب عيونه غير الواضحة، لذلك لم يكن سهلا للمتكلم معه أن يلم في معرفة علائم وجهه الا اذا هو أراد ذلك. فأذا اراد ان يشعرك بسروره، فأن ابتسامته كانت منشرحة ومفرحة بشكل يسـّر المقابل كثيرا، اما اذا اراد ان يتجهم فلا يمكنك معرفة ذلك، لأن ملامح وجهه لا تتبدل. لم تك ن ملامحه تتبدل كثيرا في نقاش أكثر المواضيع إختلافا او سخونة، ولم يكن عصبي المزاج في النقاش، بل كان هادئا، الا ان صوته احيانا كان يتحول الى صوت جهوري وبرفـّة قوية. اما حججه في النقاش فقد كانت مقنعة ومرضية نتيجة لما كان يملكه من معرفة وثقافة وقصص كانت تعينه كثيرا في تقبل نقاشه وأفكاره من قبل الآخرين. لقد كان جاداً في مجمل تفاصيل حياته، اما جلّ اهتمامه فكان منصبا على الشأن العام، وكان إذا فتح النقاش فأنه يعمل كل جهده لتوجيهه نحو المصلحة العامة، حتى نكاته وأحاديثنا حول مائدة الطعام كانت تنصب على الشأن العام".
وفي ذات الأوراق يكتب السيد جموعة " فرقتنا الأيام، وذهب كل منا الى حاله والى مفردات وتفصيلات حياته. إنقطعت أخباره بالمرة. وحينما كنت أدرس في الصف الثاني بكلية التجارة، سمعت بأن (فهد) قد أعدم، تألمت لهذا الخبر المحزن، فقد كان انسانا وطنيا طيباً وعظيماً".
بقي أن أشير الى أن السيد خليل منصور جموعة قد ولد في العام 1917 في منطقة (صبابيغ الآل) الواقعة قرب منطقة (سوق الغزل)، بمحاذاة شارع الجمهورية حاليا. نشأ وترعرع في تلك الأحياء، وأكثر ما اشتهر فيه (هو وأخوته الأربعة) كان معمل العطور والروائح، الذي ذاع بسببه صيتهم منذ الأربعينات وخاصة محلهم (جموعة اخوان)، والمعمل الذي يقع في عكد النصارى بالقرب من الكنيسة الكبيرة (كنيسة ام الأحزان). العام 1995، وبعد تقاعده من العمل، إضطر جموعة لمغادرة الوطن الى الولايات المتحدة مع زوجته (شـيرين كوتاني). هناك، وفي أحضان عائلته، قضى جموعة أخر سنوات عمره، التي خصص وقتاً مهماً منها لكتابة مذكراته، بناءً على مقترح من حفيدته (مونا)، الا إن الأجل وافاه قبل أن يكملها فرحل عام 2009!