فضاءات

محلة فضوة قرّه شعبان..تاريخ سياسي كبير/ حسين البياتي

كما هي الأحياء والمحلات البغدادية.. تغفو على أذرع الدنيا.. تحمل شوقها وألقها وموسيقى حبيبات عمرها وتتذكر همهمات الأيام، ولا تقول للزمان والأحداث ابعد عنا، وإنما تردد دوما نحن هنا ايها البغداديون.. إنكم في متسع القلب، نتذكركم وتتذكرون سماحة الخلق الجميل الطيب.
نحن ننحني أمام قاماتكم، التي يتخللها نفح الورد وطيب الرمان واديم المائدة وكرمها.
محلاتك يا بغداد تتهادى وسنا وتعلو مقاما وتغني لكل صباحك ومسائك ولم تتناس ابداً شبق (دجلة الخير) وسمير نسائمها. لقد بقينا نسجل كل سطر ونغمة وابتسامة لسفرك الخالد. يبدأ بحنين لأب وأم واشقاء واناس حلوين من الاولاد والشباب في أزقتك المثلى. نعم احب ان اكتب عنك ايتها الفضوة الحبيبة (قره شعبان) فضوة قره شعبان تعني المرتفع لمحلة شعبان الأسود. لان (قره) معناها الاسود وهي كلمة تركية الاصل.
نقع هذه المحلة المعروفة بشعبيتها وسمعتها الوطنية الجليلة.
حيث يحدها جنوبا أبو شبل وساحة السباع المشهورة على الصعيد الوطني العراقي.
ومن غربها شارع الكفاح وقمبر علي. ومن شرقها شارع الشيخ عمر ومحلة بيوت الأمة. أما من شمالها فتحدها المناطق الشعبية التالية: الفضل، الجوبة، عزات طوالات. لقد سكن في هذه المحلة اعرق العوائل البغدادية المعروفة بسلوكها الاجتماعي الرفيع وكرمها الفطري، منهم بيت اسطه مهدي شيخو واولاده.. وبيت ملا سلمان وكشكول القيسي. وبيت حسين افندي.. ومصطاف ابو الحميس، وعباس الدور.
وبعد ثورة 14 تموز 1958 وما صاحبها من تغيير سياسي مؤثر برزت في هذه المحلة وجوه وطنية مناهضة للحكم الملكي المندثر، والمؤيدة لثورة تموز، حيث كان يسكن في محلة المهدية التي نوهنا عنها. الخالدون وطيبوا الذكر، الزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم والشهيد فاضل عباس المهداوي وهاشم عبدالجبار وهم من العسكريين المناضلين وعشرات من المدنيين الشهداء والراحلين امثال عبدالستار سعيد القيسي واشقاؤه وعبدالرزاق وعبدالقادر وعبدالوهاب القيسي. كذلك الشهيدان عدنان وثامر الهزاع.
ولابد ان نؤكد ان فضوة قره شعبان أنجبت كوكبة من الشيوعيين المناضلين، استشهدوا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، امثال الاعاظم محمد صالح العبلي ونعمان محمد صالح ويحيى البارح.
الذين مهدوا لظهور تنظيم شيوعي بين الشباب كان مؤثرا وشعبياً في زخمه الجماهيري المساند للحركة الثورية والتقدمية في بغداد.
والاحداث تجري ولابد ان اذكر حيث كنت طفلا صغيرا، عندما شيعت بغداد الشهيدين العظيمين نعمان محمد صالح ويحيى البارح اللذين استشهد احدهما في سجن الكوت والآخر في سجن بغداد سنة 1954 احتجاجاً على ممارسة التعذيب داخل السجون آنذاك.
وكان التشييع من المنطقة (قرّه شعبان) الى مقبرة الشيخ عمر مخترقة شارع غازي (الكفاح حاليا) مرورا بالمناطق الشعبية ومنطقة الفضل. وقد شارك في التشييع الاف المواطنين والسياسيين والعوائل الشعبية المتعاطفة مع الحزب الشيوعي والشهيدين الكبيرين.
وكان على رأس المشيعين الشاعران محمد مهدي الجواهري شاعر العرب الاكبر ومحمد صالح بحر العلوم شاعر الشعب.. حيثما القيا قصيدتيهما في المقبرة عند دفن الشهيدين. وخرجت في التظاهرة الجماهيرية الكبرى الغاضبة معظم العوائل البغدادية رجالا ونساء وشيوخا وشبابا وحتى الاطفال آنذاك (ومنهم انا) وقد تصدت الشرطة والامن للتظاهرة بعنف ووحشية لغرض تفريقها وعدم توسعها، واعتقلت كثيرا من المتظاهرين باسلوب بوليسي فاشي قاس ورغم كل هذه الممارسات اللا انسانية قد أدت التظاهرة مهمتها الوطنية والثورية بنجاح كبير.
وسجل هذا التشييع مأثرة نضالية عظيمة ضد السلطة الملكية الرجعية ونظامها البوليسي السعيدي المقبور.
واصبحت سفرا في الحراك الشعبي المناصر للحركة الوطنية المتصاعدة.
وبالتالي فان اكبر الاهداف الانسانية لمثل هذه الممارسات الثورية المشروعة ساهمي في بروز بعض الشخصيات الوطنية المساندة للعمل الوطني لاجل الخلاص من الحكم الملكي الاستعماري الرجعي.
فمن خلال هذا الصراع والتناقض برز بعض الشخصيات والضباط الذين اتسموا بطابع الروح الوطنية المؤيدة لمثل هذه النشاطات فظهر جبل من الضباط الوطنيين المؤازرين للمفهوم الوطني امثال، محسن الدوري وطارق علي الصالح وانور السامرائي.
وبمقابل الموقف الوطني للشعب في مناصرة ثورة الرابع عشر عام 1958.
ظل البعثيون وانصارهم من الفاشيين والقتلة المجرمين وتجرأوا في الاعتداء على الوطنيين المؤيدين لثورة تموز الخالدة. ووفقاً لتوجهات البعثيين قاموا بالاعتداء على: عامر البارح وخالد بن كركوش. وحاولت مجموعة من هؤلاء اطلاق النار على الوطني الغيور المرحوم فيصل (الاكرع).
لكن فيصل كان شجاعا فبادرهم بالمثل، مما افشل محاولات هؤلاء الاوباش للحد من نمو واتساع نشاط القوى الوطنية المخلصة.
ومن هذه الحملة برز كتاب سياسيون ورياضيون وادباء وشعراء منهم الكاتب السياسي الراحل حكمت محمد وكاتب هذه السطور والرياضي الملاكم الشهيد نافع منعم وزهير القيسي.
هذه المحلة بدأت تنقرض وتتعرض للهدم والتغيير الديمغرافي في معالم بيوتها الأثرية لاهمال السلطات لها وتركها للتخريب خوفا من تنامي سمعتها الوطنية والثورية. وغزتها المحلات ذات الطابع الصناعي (الحدادة والنجارة) ما اثر سلبا على بيوتها وريادتها التاريخية والحضارية.
وللحفاظ على معالمها البغدادية الاصيلة نناشد المسؤولين في محافظة بغداد وامانتها العامة للعمل على الحفاظ عليها من الاندثار والتشويه ليبقى طابعها الانساني والحضاري باقيا ورفيع المعالم في بغداد.