فضاءات

شيوعيو الكاظمية يضربون مثالاً في الصمود دفاعاًعن ثورة 14 تموز / منعم جابر

كلما يقترب ذلك اليوم الحزين تقفز الذكريات المؤلمة عما حصل من تدمير وعذابات ومآس وهي تؤكد ان يوم الثامن من شباط 1963 سيظل تاريخاً اسود، على الرغم من اني كنت يومها فتاً في السادس الابتدائي الا ان الاحداث الجسام تركت في ذاكرتي صوراً واحداثاً لا تنسى، لا سيما واني اخذت الكثير من الحكايات والاحداث ممن عاصروا تلك الاحدلث المريرة.
وقد ايقنت ان الردة الشباطية يومها هي التي ذبحت الحلم العراقي وقادت الى ولادة النظام الدكتاتوري الصدامي المعادي للجماهير. ان هذا المولود (المسخ) هو الابن الشرعي لذلك اليوم الاسود. وقد دفعني فضولي الصحفي ورغبتي في الكتابة عن هذه المناسبة الحزينة، فتوجهت الى الكاظمية تلك القامة الوطنية للشيوعيين واصدقائهم وانصارهم لالتقاط بعض الذكريات عن مقاومتهم الملحمية للانقلابيين. وكان اختياري للعائلة المناضلة وبيت الشيوعي والشهيد الرياضي البطل سعيد متروك للحديث مع بعض من زامله وعاش تلك الساعات العصيبة ولحظات استشهاده الخ?لدة على يد جلاوزة الانقلاب، فكانت جلسة استذكار جميلة اعادتنا لاكثر من نصف قرن من الزمان، وقد قدمت الكاظمية دروسا نضالية بالصمود والمقاومة والتصدي للانقلابيين على مدى سبعة ايام من التضحية والفداء.
الكاظمية نموذج البطولة الاستثنائي
ابتداء اقول اني لست مؤرخاً ولكني كاتب لبعض الصفحات الرائعة التي سطرها ابناء وطني في جميع المجالات ومنها السياسة، بالرغم من اني مختص في الجانب الرياضي. جلسنا انا ونخبة من نجوم الرياضة وخبرائها من ابناء الكاظمية مع عائلتي متروك ودباش وهما ابناء عمومة وعرفوا بتعاطفهم وعملهم مع الشيوعيين والقوى الديمقراطية، وكان المتحدث الاول كرم دباش وعامر متروك زوج شقيقة الشهيد سعيد متروك ومعهم ابو جمال وهؤلاء جميعا من ابناء ذات الجيل، اضافة الى بعض جلسائنا من الجيل الجديد.
قال كرم دباش: ان سعيد كان من النشطاء الشيوعيين في مدينة الكاظمية، وما زلت اتذكر وانا ابن الثانية عشرة عاما يوم حدوث ثورة مصدق في ايران وكان الشيوعيين متحمسين لها ومؤيدين اجراءاتها وكانوا يتواجدون في مقهى علوش الغيرباوي وفي احدى زواياها كان توجد رونيو تستخدم لطباعة مناشير الحزب وكان رجال الامن (نصف السريين) بريغش ويوسف وحكمت وكان احدهم يعمل شحاذاً تمويها لمراقبة الشيوعيين المتواجدين في المقهى، وفعلا جرت مداهمة المقهى والقي القبض على عامله وكان سعيد متروك وشاكر وجابر قد شعروا بالخطر ونقلوا الرونيو قبل يوم الى بيت سعيد متروك.
علاليك الخوص لنقل البريد الحزبي
يضيف العم جمال متروك قائلاً: كنا ننقل منشورات الحزب والبريد الحزبي بواسطة علاليگ (خوص النخيل) ونغطيها بالحشائش او الجت، وعندما نشعر بخطر رجال الامن نستعين بنسائنا للقيام بالمهمات الحزبية. وهنا لا بد ان نتذكر اسماء بعض المناضلين من الاحياء والاموات منهم: عبيدة ورضا وجودة صروف ورزاق الغيرباوي واموري الاقجم ومحمد دباش. وكانت اشهر مناطق اليسار هي ام النومي والگطانة، وهنا لا بد لنا من تذكر الشخصية الوطنية ناصر جودي صمد الذي تميز بالشجاعة والمبدئية العالية والمواقف النضالية والمناضل جواد احمد سلطان ومواقفه النضالية وعبد الوهاب المنذري القائد الشيوعي وشجاعته الاستثنائية.
صباح انقلاب 8 شباط الاسود
بدأ الراديو يذيع المارشات العسكرية ونشيد " الله اكبر " سمع الشهيد سعيد بذلك وقال: "يا جماعة انقلاب"! خرجنا للميدان وهنا هتف الشيوعي نجم عبود برناوة بحياة الزعيم عبد الكريم قاسم ووجهه القائد الشيوعي حمدي ايوب بالتحشيد والدفاع المستميت عن الثورة ومقاومة الانقلابيين.
تحرك الشهيد سعيد متروك حاملاً رشاش كلاشينكوف وجلس امام مركز الشرطة "ركبة ونص" مع تجمع اكثر من 1000 مواطن وهجموا على مركز الشرطة واحتلوه، وبعد اخذ السلاح توجهت الجماهير بقيادة الشهيد متروك الى بناية شرطة النجدة التي صمدت لعدة ساعات حتى تمكن احد رفاقنا من قتل القناص الواقف اعلى البناية وبالتالي نجح الهجوم، وتمت السيطرة على البناية واستطاع ابطال الكاظمية ان يسطروا ملحمة بطولية قل نظيرها. وقد استمرت المقاومة بأشكال متنوعة، لان الانقلابيين غدروا بالشعب وقواه الوطنية وتحايلوا، حيث تقدمت بعض ناقلات الانقلابيين ودباباتهم الى الكاظمية وهي تحمل صور الزعيم عبد الكريم قاسم للظهور بمظهر المساند للزعيم حتى يسمح لها بالعبور لكنها ما ان تقدمت حتى فتحت نيران اسلحتها على ابناء الكاظمية وقتلت العشرات منهم.
سعيد متروك يختفي والانقلابيون يبحثون
بعد هجوم الدبابات الانقلابية، وجّه الحزب بانسحاب مقاتليه وذهب الشهيد سعيد متروك الى منطقة ام النومي وأمر بنشر جذوع النخيل في الشوارع المحيطة بمنطقة ام النومي لمنع تقدم الارتال والناقلات العسكرية، وبعد خمسة ايام تقدمت القوات العسكرية وقوات "الحرس القومي" التابعة للانقلابيين لاحتلال المنطقة والبحث عن المقاومين.. هنا طلب القائد العسكري من كل بيوتات المنطقة ان تفتح ابوابها وان تكون مستعدة للتفتيش. اختبأ سعيد في احد البيوت لايام ووجه بإلقاء السلاح في بئر ماء موجود في بيته. يقول كرم دباش: انه قام بالقاء الرشاشات والعتاد الذي غنمناه من الهجوم على مركز الشرطة في البئر، وهدمنا التنور فوق البئر لغرض التمويه، وهنا كان "الحرس القومي" يراقب ويرصد وشعر الشهيد بالخطر وودع اهله والتقى باطفاله ثائر ويوسف ونضال وقال لابنته الصغيرة نضال: انا اتأسف لانك ستعيشين بلا أب، ولكن الوطن هو ابونا جميعاً. غادر سعيد منزله من السطح وعبر الى بيت عمه واثناء العبور شاهده احد افراد القوات العسكرية فسدد عليه رشقة اطلاقات اصيب على إثرها اصابة بليغة في ساقه. وصل الى بيت عمه ومع المتابعة وآثار الدم تم الوصول الى مكان الشهيد وبالتالي القبض عليه.
الشهيد متروك نموذج للشيوعي الملتزم
لقد كان سعيد متروك نموذجاً للشيوعي الملتزم والرياضي الجنتلمان، حيث ولد في الكاظمية عام 1933 ومارس الالعاب الرياضية حيث كان سباحاً ماهراً ومصارعاً فذاً ولاعب كمال اجسام متميزاً. اضافة الى تميزه واناقته العالية حيث كان يرتدي البدلة وربطة العنق ويتعاون مع الفقراء ويساهم بحل المشاكل في المنطقة. ويؤكد ابناء جيله على ان الشهيد كان نموذجاً للشيوعي المبدئي وذا سمعة عالية. اكد ابن خاله كرم دوباش ان الساعات الاخيرة للشهيد كانت ساعات بطولية، حيث سأله الضابط الذي اعتقله انت سعيد متروك؟ قال: نعم. ثم سأله من كان معك؟ اجابه: كل الشعب معي! سأله الضابط لكنك ستعدم وتموت؟ اجابه متروك: سأظل خالداً.. اما انتم فستموتون.
وفعلا اقتيد متروك الى جدار اعدادية الشعب ورفض ان تعصب عيناه ووقف امامه ارسالات للرمي وسددت القوة العسكرية زخات رصاص كثيفة تنفيذاً للبيان رقم 13 المشؤوم والقاضي بقتل الشيوعيين اينما وجدوا.
وغادر الشهيد سعيد متروك الحياة لكنه ظل خالداً بين ابناء شعبه ووطنه، بينما الفاشيست- القتلة ذهبوا الى مزبلة التاريخ وتحقق ما توقعه شهيدنا الكبير حيث ظل سعيد حيا في ضمائر شعبه، وبالرغم من مضي اكثر من نصف قرن على استشهاده، الا ان الجيل الجديد والاجيال السابقة تذكر ذلك بفخر واعتزاز حكايات الصمود والبطولة التي سطرها ابناء مدينة الكاظمية الشجعان.