فضاءات

لوحة للعبور / داود أمين

(1)
فوق نقطة ما من الخارطة، كانت المفرزة الشيوعية تعيد (تجديد) نفسها، البنطلونات والقمصان تتكوم جانباً بإهمال، الأجساد تحتضن ملابس غريبة على الجميع، ورغم ذلك فهي اليفة ومريحة، البدلات الكردية ((سراويل وقمصان)) توحد الأجساد حتى تكاد أن تضيع ملامح البعض، عندما تعتمر الرؤوس الطاقيات وتلتف ( بالجمداني).
أحزمة الرصاص حول الخصور، قنابل يدوية ومسدسات تتدلى من الأحزمة، بنادق ورشاشات وقاذفات صواريخ على الأكتاف، وعلى الظهور حقائب عسكرية تضم حاجيات شخصية .
عملية التجديد تلك، لم تستغرق سوى دقائق معدودة، بعدها تشابكت الأكف وتعانقت الأجساد وتوالت القبلات، مع تمنيات هامسة بالصحة والسلامة، بعدها تحركت المفرزة الشيوعية في طريق عبورها نحو الوطن .
(2)
في زورق بدائي إحتشدت الأجساد، وأحس البعض ببرودة منعشة عندما إخترق الماء البارد ملابسهم . كان بلوغ الضفة ألأخرى قاسياً ومتعباً، لأولئك الرفاق الذين كانوا يجذفون، أو يسحبون الزورق الثقيل، ضد تيار شديد وسريع الجريان .
عند الضفة الأخرى، إحترفنا مهنة الصمت، وتعودت الأرجل أن تنتقل بحذر، إزداد تحديق العيون وإحتبست الأنفاس، بضعة أمتار فقط تفصلنا عن مخفر العدو! كان أدلاؤنا يسيرون بحذر، ويتوقفون بعد كل بضع خطوات، محدقين عبر المنظار في كل الجهات. الليلة الأولى كانت قاسية على الجميع، والأرض المحروثة التي إجتزناها راكضين، إستنفدت كل ما لدينا من طاقة، إنهارت أجسادنا بعد ساعات المشي الطويلة تلك، وإمتدت بلا مبالاة فوق الأحجار والأعشاب الشوكية، إننا نغرق ألآن في نوم عميق ولذيذ .
(3)
قبل منتصف النهار استيقظنا جميعاً، وكانت مائدة الغذاء مناسبة لصداقات جديدة نمت دون حرج، وبدأت الأفواه تنفرج عن ابتسامات ودودة، قبل أن تنفتح لتناول الأكل، وسرعان ما تبدد التعب.
في السادسة مساءاً تحركنا من جديد، وسرنا حتى الرابعة فجراً. جبال شاهقة ووديان سحيقة ... مسالك ضيقة ولزجة ... عطش حارق في الأعماق، شربنا ماءاً آسناً، كان لذيذاً رغم عفونته! العرق ينز من الأجساد لتتشبع به الملابس، واللهاث يفلت من قائمة
الممنوعات، كنا نتنفس بصوت مسموع، وتتلاحق الأنفاس مع كل تسلق جبلي جديد .
في الإستراحات القصيرة ترتخي الأجساد المتعبة، فوق النتوءات الصخرية، وتدور (المَّطارات) ببقايا الماء لترطب الشفاه اليابسة، وفي الوادي الذي أصبح محطة تلك الليلة الشاقة، كان النوم سلطان الساعات الأولى، ولم تقاوم جبروته سوى عيون الحارس المناوب .
الغداء كان فاخراً و(البزن) الذي نحرناه كان كافياً ليشبع الجميع، أؤلئك الذين ظلوا ينتظرون شاياً عراقياً أسود، ومع ذلك السائل العزيز الذي إفتقدناه منذ يومين، يعتدل الرأس ويفر التعب لاوياً أذياله !!
(4)
في المساء نودع وجوهاً اليفة لنستقبل وجوهاً اليفة أخرى، ونبدأ مسيرة ليلة جديدة، يتخلص أكثرنا من حقائب الظهر، ونحس لأول مرة (لم نكن نعرف ذلك من قبل) بأهمية (الملتحق) الجديد، ف (أبو صابر)الذي سيرافقنا الرحلة منذ الليلة، صديق لا غنى عنه في مثل هذه (الرحلات)، فهو رشيق وخفيف الحركة، يصعد ويهبط الجبال، ونحن نزداد إعجاباً بمهارته، لذلك نتعلق به مع الأيام، ويتحول ظهره جسراً لعبور بعضنا .
يزداد إرتفاع الجبال وتشتد وعورتها، ويتضاعف الألم وينزف الدم من أصابع القدمين، الأعين تزداد خبرة في إمتحان الظلام، والمشي لا يخص الرجلين فقط، فالرأس يضع نفسه في حالة إنذار قصوى .. يشتد التركيز مع كل خطوة، وتساهم الأيدي في تجاوز الإرتفاعات والمنحدرات الحادة، ولم يعد غريباً أن نجد بعضنا يزحف على مؤخرته في الأماكن الشديدة الإنحدار .. ومع كل ذلك فالمفرزة تتقدم والوطن يقترب، ويفكر كل منا بشؤونه، ومساحة التفكير تتسع، لكن الوطن هم الجميع .. الكل متوحدون بإتجاه نقطة الوصول، رغم التعب والإرهاق!
(5)
عند قمة جبل، وتحت ظل أشجار متناثرة، تحط المفرزة رحالها، في محطة جديدة لقضاء نهار جديد، يبتعد الماء هذه المرة عن مكان الإستراحة، وأقرب عين تقع أسفل الوادي حيث يتردد الرعاة، وليس من المفيد أن يعرفوا شيئاً عن مفرزتنا، لذلك كان الأدلاء يجمعون(الزمزميات) الفارغة، ويذهبون ليملأوها، وقد حدث ذلك عدة مرات في ذلك النهار .
تحركنا في الساعة التاسعة مساءاً، وكان ل (أبو صابر) هذه المرة إثنان من الأخوة الجدد، إلتحقا بالمفرزة منذ ساعات ! ليصبح في قوامنا ثلاثة من الاشقاء النشيطين . لقد حملت البغال الثلاثة كل حقائبنا، وكان منظر إحدى الرفيقات التي إعتلت ظهر البغل مغرياً لإشاعة تعليقات مضحكة، ما خفف عنا بعض التعب .
إخترقنا عدة قرى، عبر ممرات غير مطروقة، كلاب تنبح بضراوة لكنها لم تكتشفنا في تلك العتمة، التي زادها وجود شجر كثيف، الشلالات ومساقط المياه عمقت في نفوسنا حب وإحترام هذا الجمال الطبيعي الذي يحتوينا، كانت رائحة الزعتر البري تزكم أنوفنا بعطر غريب نفاذ، يخدر الألم المتصاعد من أصابع القدمين .
الطريق العام، الذي إجتزناه شبه راكضين، على مدى ساعتين، كان قاسياً ولا يخلو من خطر، فالصباح يقترب، وإحتمال حركة السيارات العسكرية وارد، لم نفكر بالتعب، كان التفكير محصوراً بتجاوز هذا الشارع، لذلك كانت الإنعطافة المفاجئة، التي سلكتها المفرزة نحو ممر فرعي، يقع بين سلسلتين جبليتين، إيذاناً بتجاوز الخطر، وبداية لطريق حلزوني لا يكف عن الصعود، عندها كشر التعب عن أنيابه محاولاً إفتراس الجميع، لكن دليل المفرزة فوت الفرصة على المتعبين، قبل أن يُعلنوا إستسلامهم , عندما أعلن فجأة إنتهاء مسيرة هذه الليلة !
(6)
بعد ساعات النوم التي إستغرقت الثلث الأول من النهار، إستيقظنا لتناول وجبة طعام، تتكون من البرغل واللبن، كانت قد أعدت من قبل أدلائنا، وحين كانت النار مشغولة بتذليل جبروت لحم الخروف، الذي نحرناه للوجبة الثانية، كنا نحتفل بثلاث مناسبات أعلن عنها فجأة، فاليوم هو الذكرى الثالثة والعشرون لميلاد إحدى الرفيقات المشاركات في المفرزة، والذكرى السادسة لزواج أمر المفرزة، والذكرى الثالثة لزواج رفيق أخر في المفرزة . ووسط دهشة الأدلاء كان اعضاء المفرزة يقفون في نسق منتظم، بعد أن جمع كل واحد منهم ثلاث باقات من الزهور البرية الملونة، وبدأ النسق يمر على الرفاق المحتفى بهم، تتصافح الأيدي وتتوالى القبل، مع تمنيات صادقة بإحتفالات قادمة أكثر بهجة بين الأهل والأحبة. وحين غادر آخر رفيق مكانه من النسق، تبادل الرفاق المحتفلون الأزهار والقبل فيما بينهم .
تطوعت إحدى الرفيقات لتكون ممرضة المفرزة، مستخدمة إبرة الخياطة لمعالجة التورم والإنتفاخات المليئة بالسوائل في القدمين، وكان لهيب (السبيرتو) المستخدم للتعقيم يصعد حتى الرأس وينطفيء عند الإبتسامات المكابرة، المرتسمة على شفاه المصابين .
(7)
في السادسة مساءاً تحركت المفرزة، وعبرت ودياناً للموت واخرى للرعب، لكن مفرزتنا لم يُرعبها ليل الجلادين، صحيح أن الطريق وعرة وصعبة، ولكنها متى لم تكن هكذا في يوم من الأيام؟
ليالي المشي الخمس أمدتنا بالخبرة، وجعلتنا نستهين بالتعب، وكذلك إرادتنا الشيوعية التي تدفع شراعنا الى الأمام .
أعلن أدلاؤنا التوقف عند سفح داكن الخضرة . نُظمت الحراسات، وقبل أن نستغرق في الأحلام، كان صوت اليف يطلب النهوض والإسراع لمواصلة السير، كان صاحب الصوت الأليف يحيي بعضنا بالأسماء، وهو قادر بتلك العينين الخبيرتين، على تمييز وجوهنا، رغم العتمة الشديدة، التي تسبق الصباحات المشرقة .
واصلنا السير، رغم بقية النعاس الذي ما زال يغازل العيون. بعد أقل من ساعة كان أعضاء مفرزتنا يتعانقون بود، مع أعضاء مفرزة شيوعية أخرى، كانت قد سبقتنا بيوم واحد، في طريق عبورها نحو الوطن .
أما اللقاء بالمفرزة المتحركة والمكلفة بإستلامنا وإيصالنا للقاعدة، فتلك علامة من علامات الوطن، بعد أن قطعنا من (درب الآلام) شوطه الأكبر، لذلك إستهلكنا النهار بالأحاديث والنكات، وتقليد بعضنا للبعض حد الكاركتير، ثم تبارى اعضاء المفرزتين في رواية المواقف واللقطات الساخرة، إضافة للحديث عن الصعوبات والمخاطر التي واجهت المفرزتين، فيما واصل الرفيق الطبيب معالجة التقرحات والجروح التي شملت اقدام الجميع .
(8)
في المساء، أشعلنا ناراً، بعد أن جمعنا جذوع اشجار كبيرة ويابسة، وبدأ عدد من الرفاق الكرد يدورون حولها، في رقصة كردية جميلة، كما شارك الرفاق العرب بأغان شجية، على إيقاع جميل، قدمه فنان محترف، على آلته الإيقاعية الساحرة ! لقد أحيينا حفلة متواضعة، ولكن كان يشوبها بعض الحذرّ!
نمنا تلك الليلة _ ولأول مرة منذ بداية الرحلة في نفس المكان، وعندما إستيقظنا صباحاً، كانت الراحة قد شملتنا جميعاً بهدوءها الساحر المعهود، ثم حوَّلنا نهارنا هذا الى مناسبة للتخلص من روائح العرق والغبار، فعين الماء القريبة سخية وكريمة، وملابسنا التي إبيضت بفعل الأملاح، إنتشرت تحت الشمس فوق الأغصان والصخور .
وجبة الغداء كانت جيدة، أما الشاي العراقي الأسود، فلم يزل يحتفظ بمنزلته المعهودة _ خمراً للثوار _ كان إستعدادنا النفسي جيداً عندما أعلن عن بدء المسير عصراً .
ستة بغال محملة بالحقائب والمؤونة، كانت تسير بيننا، الجبال لم تغير من طبعها، فهي لم تزل شاقة ومؤلمة، أدلاؤنا قالوا أن هناك طرقاً أسهل لكنها خطرة، لذلك تحملنا التعب (الأسطوري)، وإضطررنا لإجتياز جبال إضافية، إستغرق صعودها ساعات، كي نتجنب الإصطدام بالعدو في معركة لم نتهيأ لها !
إثنتا عشرة ساعة من المشي، حتى إسترحنا عند (كلي) تظلله أشجار كثيفة، باشر الرفاق الذين كُلفوا بإعداد الخبز والغذاء عملهم، نُظمت الحراسات، بينما راح جامعو الحطب يواصلون نشاطهم، الرفيق الطبيب ينتقل بين الرفاق، حاملاً كيس أدويته، معالجاً التقرحات والجروح، التي تركز معظمها في القدمين .
(9)
رحلة الليلة الجديدة تأخرت حتى الساعة الحادية عشرة مساءاً، بسبب هروب أحد البغال الى قرية مجاورة، وبعد العثور عليه، سقط بغل أخر، أثناء عبور قنطرة من جذوع الأشجار، في نهر سريع الجريان، وقد بُذلت جهود كبيرة لإنقاذه وحمولته، وقد إستغرق ذلك وقتاً ليس بالقليل .
واصلت المفرزة سيرها، وهنا بدأت ظاهرة (القمم الكاذبة !)، فما أن تصل الى قمة تعتقدها أنها الأخيرة، حتى تُفاجأ بقمة جديدة أخرى! وتتوالى القمم، ليصل عددها الى ثمان! وخلال هذا الصعود الشاق، إستعان بعض الرفاق بغصون قوية ومناسبة، يتوكؤون عليها، وقد أثار منظر إحدى الرفيقات، وهي تتوكأ على عصا، وتمسك بيدها الأخرى، يد رفيق يسير أمامها ببطء. أثار هذا المنظر، تعليقات لا يملك أحدنا إزاءها إلا الضحك! رغم التعب والعطش، اللذين كانا لا يطاقان .
بعد ساعات المشي الطويلة، التي إستغرقت الليل كله، كانت إستراحتنا صباحاً، وإنتهى النهار كسابقه، ليحل مساء جديد، والبدء بمسيرة جديدة .
(10)
مسيرة هذه الليلة أطلقنا عليها (رقصة الباليه)! والتي إشترك فيها معظم أفراد المفرزة، كان على المفرزة أن تهبط الى واد عميق ذي وإنحدار شديد، ظل يشكل مع أجسادنا زوايا تنفرج بأستمرار، لذلك إضطر بعضنا للإستعانة بالبعض الآخر، وتمايل الجميع في رقصة باليه إضطرارية، تثير الأسى والإبتسام معاً، زلقت أقدام الكثيرين، وزحف البعض على مؤخراتهم، لذلك جاء الإعلان عن الإستراحة، بمثابة إنتصار حقيقي لأولئك الرفاق القلة، الذين تجاوزوا صعوبات تلك الليلة.
(11)
بدأت الشمس رحلتها نحو النصف الثاني من كرتنا الأرضية، وأثناء رحيلها تستعد المفرزة من جديد. الليلة لها طعم خاص، فالعراق سيحتضن قريباً نخبة من خيرة أبنائه، بعد ساعات قليلة إسترحنا فترة قصيرة، ليعلن أدلاؤنا أننا الآن فوق أرض عراقية! إنحنى بعضنا مقبلاً الأرض، وإرتسمت إبتسامات ذاهلة على وجوه الكثيرين، إنهم الآن في العراق الذي غادروه مكرهين، في العراق ولكن على أكتافهم بنادق وقاذفات صواريخ، وحول خصورهم أحزمة رصاص وقنابل يدوية !
سأل احد الرفاق : أين هو ذلك الخط الأحمر الذي يسمونه حدوداً ؟ أنظر الى هذه الشجرة، التي تمد جذورها وأغصانها في أراضي الدولتين ! إنني لا أحس سوى إنني أجلس فوق أرض كردستان، وأحس بمرارة شعبها الكردي الموزع بين عدة بلدان .
(12)
تحركت المفرزة من جديد، وبعد فترة قليلة إستقبلتنا الحرائق! عشرات الكتل الملتهبة كانت تلوح أمامنا .. وكلما إقتربت المفرزة كانت الكتل الملتهبة تكبر .. كانت هناك أثار قرية مهجرة خربتها القذائف، إنها قرية(سناط) الآشورية، التي هُجر سكانها.
النيران تلتهم الأشجار المثمرة والحقول والأعشاب، وتحيلها الى رماد، إستنتجنا أن طائرات النظام ومدفعيته، هي التي قصفت المنطقة أثناء النهار ! هكذا إستقبلنا الوطن بالحرائق!
تجاوزت المفرزة تلك الأرض المحترقة، ودخلت أرضاً مكشوفة، تتوسطها شجرتان متجاورتان إسترحنا عندها، ومضى النهار حزيناً بفعل تلك الجريمة .
تابعنا سيرنا في المساء لنصل بعد أكثر من (15) ساعة الى القاعدة، عندها حل زمن الفرح الحقيقي وتوطنت البهجة في كل القلوب ... الإبتسامات تتسع بلا حدود على شفاه الجميع، صداقات قديمة تتجدد، وتنمو الى جوارها صداقات فتية زاهرة.
يحفر كل نصير جديد تأريخ هذا اليوم وشماً في الذاكرة ... ففي جيش الشيوعيين المتنامي تمتليء بالغبطة، عندما يلمع إسمك نجمة بين ألوف النجوم المُشعة، في سماء الشيوعية الظافرة .