فضاءات

مناضلات في الذاكرة : ماري إسكندر منصور نموذجاً / داود أمين

في تاريخ العراق الحديث، تلمع أسماء مجموعة من النساء العراقيات التقدميات، أؤلئك اللواتي كانت لهن أدوار متميزة، في الحركة الوطنية والتقدمية النسائية العراقية، وقد دفع الكثير منهن، سنوات من عمرهن في السجون والمعتقلات، وتعرضن لأشد أنواع التعذيب، كما إستشهد من بينهن العديد. ومن بين تلك الأسماء اللامعة في سماء الحركة النسوية العراقية التقدمية، السيدة( ماري إسكندر منصور/ أم وجدان ) تلك العراقية التي ولدت في بغداد في 14/8/ 1923، وتوفيت في المنفى، قبل حوالي خمس سنوات.
لقد نهلت السيدة (ماري إسكندر) الفكر التقدمي، في بداية حياتها، من أخيها (روكسي إسكندر) الذي كان أحد رفاق الشهيد فهد الأوائل، ثم إقترنت برفيق حياتها الرفيق (غريب القروي) فكانا معاً، ولعقود من السنين، مثالاً للتضحية والكفاح. ولذلك كان طبيعياً إنتماء السيدة أم وجدان، لرابطة الدفاع عن المرأة العراقية، منذ تأسيسها في أوائل الخمسينات، وكان بيتها وبيت رفيقاتها، من طليعيات الرابطة، ميداناً لإجتماعات ولقاءات مجاميع النساء، حيث يتبادلن الموضوعات السياسية والثقافية والإجتماعية، ويبحثن في أنجع الطرق لإنقاذ المرأة مما تعانيه، من إضطهاد بيتها والمجتمع، وقد لفت نشاطها ذاك أنظار أجهزة الأمن الملكية، فجرى توقيفها مع شقيقة زوجها المناضلة (أم إحسان)، ولكن ذلك التوقيف لم يثنها عن إستمرار نشاطها السياسي والديمقراطي، والذي واصلته بثبات.
وبعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، وإنتقال عمل رابطة المرأة العراقية للعلن، كانت السيدة (ماري إسكندر) من كوادر الرابطة المتقدمة، إلى جانب الدكتورة نزيهة الدليمي، والسيدة سافرة جميل حافظ، والسيدة إبتهاج الأوقاتي، والسيدة خانم زهدي، وغيرهن من الرابطيات المعروفات، وكانت تقوم بالإشراف على عدد من لجان الرابطة، في ألوية العراق كالناصرية والكوت وغيرها، وقد أوكلت تربية أبنائها الثلاثة لوالدتها، إذ كانت تُمضي معظم يومها في العمل الحزبي والمهني، وفي بيتها، تم توزيع أول هويات رسمية، لعضوات رابطة المرأة العراقية، من قبل الرفيقة نزيهة الدليمي.
وفي يوم إنقلاب 8 شباط عام 1963، خرجت السيدة (ماري إسكندر) مع آلاف الشيوعيين وأصدقائهم، في تظاهرات حاشدة للتصدي للإنقلابيين، وعندما أيقنت بنجاح الإنقلاب، عادت الى بيتها وأخذت ملابسها وغادرت بغداد، برفقة أقارب الشهيد جمال الحيدري، إلى مدينة السليمانية، ومن هناك الى إحدى القرى الكردية، وهناك لبست الزي الكردي، ومع مرور الأيام أتقنت اللغة الكردية، وأمضت أكثر من سنة في موقعها ذاك، ولكن أحد المندسين وشى بها لرجال الأمن، الذين إعتقلوها وأرسلوها لمديرية الأمن في كركوك، ومنها إلى بغداد، حيث حوكمت، وصدر الحكم بسجنها ثلاث سنوات ونصف، مع سنة مراقبة، وقد أمضت سنوات سجنها في سجن النساء في بغداد، وبعد إطلاق سراحها واصلت عملها الحزبي والمهني، رغم ذهابها للتوقيع مرتين في اليوم، في مديرية الأمن العامة. وكان بيتها مكاناً لإختفاء الكثير من الكوادر الحزبية، طوال فترة الستينات، وعندما توفيت والدتها آواخر عام 1970، وإستشهاد الرفيق (محمد الخضري) الذي كانت تربطها به علاقة حزبية وعائلية، شعرت بألم وحزن، أبعدها عن مستوى نشاطها السابق، فتعينت موظفة في شركة الكارتون لصاحبها خدوري خدوري، في حين إستمر زوجها، بعد خروجه من أكثر من خمس سنوات في السجن، في عمله الحزبي.
وعندما إشتدت الحملة ضد الشيوعيين والديمقراطيين نهاية عام 1978، واوائل عام 1979، سافرت السيدة ماري إلى براغ، ملتحقة بزوجها وأولادها، الذين كانوا قد سبقوها إلى هناك، وفي براغ عملت (كاتبة طابعة) في مجلة (الوقت) الصادرة عن (قضايا السلم والإشتراكية)، ومع إنهيار البلدان الإشتراكية، وفقدان الأمان في البقاء في جيكوسلوفاكيا، قررت الهجرة للسويد، وهناك كانت تسهم في جميع النشاطات والحفلات والندوات، التي تقيمها الجالية العراقية، والجمعيات والنوادي الثقافية، وقد زارتها الرفيقة نزيهة الدليمي عام 2002، وأمضت عندها بضعة أيام، إستعادتا خلالها سنوات النضال الحميمة.
وفي يوم 19/5/2010 غادرت السيدة ماري إسكندر الحياة، في مدينة يوتوبوري السويدية، لتدفن بعد أيام قليلة في مقبرتها، بحضور عدد من أبنائها وأحفادها ورفاقها، وكنت واحداً منهم.