فضاءات

وداعاً يا بطل الشعب.. وداعاً سيد باقي / كاردو كامو

حينما التحقت بقوات الأنصار في الحزب الشيوعي العراقي صيف عام 1982، كنت قد تخرجت تواً من جامعة موسكو، ولم تكن لديّ أدنى فكرة عن صعوبات الكفاح المسلح داخل الوطن، كنت كباقي الملتحقين من بلدان الخارج رومانسياً حالماً بعالم أفضل لشعبي ووطني تحت راية وطن حر وشعب سعيد، هذا الشعار الذي جمع في الغالب طواعية الالاف من المقاتلين في سبيل الحرية والانعتاق من كل اشكال الاستعباد.
بعد مسيرة منهكة خلال الاراضي السورية ثم التركية وصولاً الى الاراضي العراقية ومن ثم الى قاعدة ناوزنك عند المثلث الحدودي القريب الى أيران، وجدت المئات من المقاتلين العراقيين من رفاق الحزب وانصاره، كانت دهشة المكان والعمل الجماعي للرفاق في بناء القواعد والحركة وتنظيم الفصائل وتطويرها، اضافة الى التنوع العظيم من فلاحين ومثقفين وعمال وطلبة وكادحين ومحترفين حزبيين من جميع القوميات واللغات في المجتمع العراقي، كان كل ذلك مع هيبة الجبال والوديان العميقة ووجود الالاف من المقاتلين الكرد في الجوار، كل ذلك منحني الاحساس بالقوة والفخر وصواب الطريق الذي أخترته من أجل حرية شعبي وسعادته، إلا ان التجربة الجديدة تحمل معها دوماً الارتباكات والمصاعب والتوق الى معرفة كل شيىء من قبل الشباب الثوري، لم أتعرف في حياتي على مثل هذا النسيج الشيوعي على أرض الواقع، كنت أعرف ذلك نظرياً وضمن أطار محدود، أما الآن فعلي ان اصافح الجميع في تجربة حياتية جديدة، في خضم هذا العالم الشيوعي الفعال والنشط. تعرفت على الراحل الاسطورة سيد باقي، الذي أول ما أدهشني فيه انه (سيد) من عائلة دينية، فقبل ذلك لم أتعرف على (سادة) و(شيوخ) و(ملالي) يحملون الفكر الشيوعي ويقاتلون من أجله، كان ذلك درساً أولياً في هضم بعض مفردات الفكر الشيوعي وتطبيقاته على ارض الواقع، فلاحون وأميون ورجال دين ومثقفون يشاطرون حقاً همومهم في خبز وشاي مشترك، أي عظمة يمكنها أن تمنحك مثل هذه التجربة التي قرأنا عنها في الكتب والروايات وشاهدناها في الافلام عن تجارب الانصار السوفييت في فترة الكفاح المسلح ضد النازية والفاشية اثناء الحرب العالمية الثانية. في اللحظة الاولى لتعرفي على الاسطورة سيد باقي شعرت اني مع إنسان اعرفه، الى القلب ويمكنني البكاء على كتفه. كان متواضعاً، ضحوكاً ثاقب النظرات، ذا لطافة ومعرفة جيدة بتقاليد وعادات القرى الجبلية، أنيقاً ومسامراً لكل من هب ودب دون تعب او ملل.
بالقرب من قاعدتنا في ناوزنك كانت هناك بضعة أسواق اشهرها سوق قاسم ره ش التي كانت سوقاً للسلاح والتبغ والدولار والكهربائيات والطعام، تسيطر عليها مجاميع مسلحة تمثل عدة احزاب ودولاً، كان على الراحل سيد باقي ان يفاوض من اجل كل شيىء، من اجل العتاد والشاي والطحين والبانزين، دون ان يغفل مصلحة الحزب لآخر فلس ممكن، كان الجميع يحبونه ويحترمونه لانه اولاً سيد ثم شيوعي ثم مفاوض مؤتمن على كلامه وماله.
كان يقوم بذلك على مدار العام دون كلل مجرجراً خطاه من مكان الى آخر من قرية الى اخرى، عابراً الى الحدود دون خوف او وجل من قطاع الطرق او العصابات المأجورة للنظام او العواصف الثلجية والليالي الكالحة التي لا نعرف فيها بعضنا البعض حتى على بضعة امتار، كان جسوراً ومؤمناً بالحزب ورفاق الحزب، لم يكن يتقول على احد، كاتماً لاسرار الحزب وامواله، مدافعاً عن نهج رفاقه ترتسم السعادة على محياه في اصعب الظروف. بعد احداث " بشت شان" عام 1983 لعب الراحل الاسطورة دوراً مهماً في توفير الارزاق اللازمة للقوات الانصارية التي انتقلت الى مقرات جديدة في ظروف صعبة وشاقة، لم يكل من البحث عن الطحين والملح لانها كانت المادة الاولى للطعام بعد فقدان القوات لكل شيىء، ثم الشاي والسكر ثم الخيم والبطانيات اذ كان النوم في العراء في سفوح الجبال من المستحيل دون اي غطاء يقيك من البرد. كان الراحل الاسطورة مثل اللبوة التي تشهد جرح ابنائها فتبحث عن كل شيىء من اجل حياتهم، تراه في منتصف الليل مع قافلة من المهربين يقوم بانزال البضائع من على ظهور البغال القوية والمتعبة من ساعات السفر المضنية بين الوديان والجبال، ثم تراه مع قافلة من فلاحي القرى محملاً بالطعام فرحاً كالطفل يبحث عنها في احلامه.
كان حقاً طفلاً في صدقه وسعادته.
كان الراحل محبوباً وسط الفلاحين واهالي القرى، يجلس معهم، يسامرهم، ثم يصلي معهم ويحدثهم عن الدين والشيوعية والدنيا، لم يكونوا يملون من حكاياته وسفره وترحاله، كان يقص عليهم ما لم يسمعوا به، كان بسيطاً في طعامه وجلسته ممسكاً بعصاه التي كانت تلازمه كغطاء الراس، يقص عليهم حكايات السجون التي اختبرها مؤكداً على صمود المناضلين وفاضحاً همجية الجلادين، يحدثهم عن طهران وموسكو وبغداد، عن الاحلام الكبيرة للشيوعيين، عن المناضلين الشيوعيين والكرد من مختلف الاحزاب الذين كانوا يختفون في بيته او يساعدهم على الاختفاء او الالتحاق بالجبل، لم تكن حكاياته مجرد حكايات بل تاريخ يسرد بلسان الفلاحين الفقراء. لم يكن فقط يبهر هؤلاء الفلاحين البسطاء، بل كان يبهر كل من كان يجلس معه. تعلمت منه محبة الحزب والدفاع عنه والتواضع والاصرار في الظروف الصعبة والمفصلية في حياة كل مناضل على المضي من اجل "وطن حر وشعب سعيد".. وداعاً يا بطل الشعب.. وداعاً يا ابن الشيوعية الحقة.