فضاءات

إضراب عمال الموانىء في البصرة 1953 .. فعالية سياسية جماهيرية / علي عبد الكريم حسون

في رد مذهل على عواء أحد أقطاب الحكم الملكي الرجعي: "أين هي الطبقة العاملة في العراق حتى يدّعي الحزب الشيوعي العراقي تمثيلها" ردت الحلقات الماركسية الأولى ومن ثم الحزب الشيوعي العراقي والنقابات العمالية، بسلسلة إضرابات عمالية في الثلاثينات من القرن الماضي، وقت صدور التصريح.. شملت:
1 - في 3 - 12 - 1930، إضرب أكثر من 1000 عامل في معامل السكك الحديدية ببغداد، ولثلاثة أيام، محتجين على تقليل إجورهم بنسبة 6 - 10 بالمئة، وكان إنتصارهم جزئيا بنيل بعض مطالبهم.
2 - في 5 - 7 - 1931 أضرب أكثر من 1200 عامل في السكك الحديدية أيضا وإستمر حتى 19 - 7 - 1931 حين ساندت الاضراب مظاهرات أهل بغداد والبصرة.
وتوسع الأضراب فشمل مدن كثيرة في العراق، وخاصة في الألوية الجنوبية، وشهد يوم 16 تموز سقوط قتلى وجرحى أثناء تصدي الشرطة لهم. وأبرز من قاد هذا الأضراب هو: يوسف سلمان يوسف " فهد " وحسن عياش وعبد الجبار حسون.
3 في 1933، قامت نقابات العمال والحرفيين والكسبة في بغداد، بمقاطعة شركة الكهرباء الأستعمارية، مطالبين بتخفيض سعر الوحدة الكهربائية على المستهلكين. وأضطرت الشركة إلى الأستجابة لمطالب النقابات، بتخفيض السعر من 145 فلسا إلى 50 فلسا.
وتواصلت الاضرابات والاعتصامات التي نظمتها الطبقة العاملة وحركتها النقابية وبمساهمة واسعة من الشيوعيين.
والآن لماذا إضراب عمال الموانىء في البصرة عام 1953
جاء في كتاب "من تأريخ الحركات الثورية المعاصرة " إلى أن: ((البصرة شهدت في الربع الأخير من عام 1953، موجة كبيرة من الأضرابات العمالية، إثر تسلم الرفيق سلام عادل قيادة تنظيم المنطقة الجنوبية. عندها أخذت سماته القيادية وقدرته التنظيمية، تتجسد في الحياة السياسية، فالبصرة مدينة عمالية فيها المئات من عمال الموانىء وعمال النفط والسكك. )).
وجرى التأكيد بأن الهدف الرئيسي من الأضراب ((يكمن بكونه سياسيا لفضح العلاقة بين الشركات الأحتكارية، وتعاون الطبقة الحاكمة معها في إستغلال العمال. وكذلك سعي الحزب الشيوعي العراقي لأبراز دور الطبقة العاملة الجريء والثابت في النضال الوطني ضد الشركات النفطية الاحتكارية)).
لا ريب في أن برنامج الحزب في المؤتمر الوطني الأول عام 1945 ونظامه الداخلي، يؤكدان على أن الحزب الشيوعي العراقي هو حزب الطبقة العاملة. فهو المدافع الأمين عن مصالحها وحقوقها، فلقد شهدت سنوات ماقبل التأسيس، وبالتحديد سنوات 30 و31 و32 و1933، إضرابات عمالية قادها رفاق الحلقات الماركسية الأولى وعلى رأسهم الرفيق الخالد فهد. وأستمر الحال بعد التأسيس في 1934.
بداية الأضراب:
في 15 تشرين الثاني 1953، أعلن عمال اللاسلكي في مدينة الفاو الأضراب، وكانت مطالبهم تتلخص بما يلي: المطالبة بالمخصصات الليلية وزيادة علاوة الأشتغال في العمل الأضافي بنسبة تتراوح بين 5 - 10 دنانير.
أسباب نجاح الأضراب:
نجح الأضراب منذ بدايته، عبر التأييد الذي تلقاه المضربون، من النقابات العمالية في بغداد " عمال معمل السيكاير ". كذلك تأييد ومشاركة جميع عمال اللاسلكي في الفاو والسيبة والمعقل في اليوم السادس للأضراب. ولا ننسى تأييد بعض عمال الموانيء الكويتية والأيرانية والسعودية عبر برقيات التأييد.
وفي يوم 20 - 11 - 1953، تشجع عمال الحفارات في الفاو على الأضراب، تأييدا لرفاقهم عمال اللاسلكي. ومما ساعد على نجاح الأضراب هو تصادفه مع الذكرى السنوية الأولى لأنتفاضة تشرين 1952. وتضامن طلاب ثانوية البصرة الذين تظاهروا تأييدا لعمال الموانيء المضربين، وكذلك تأييد طلاب كليات بغداد ومدارسها.
وفي يوم 1 - 12 - 1953، أي بعد مرور ما يقرب من إسبوعين على بداية الاضراب، ونتيجة الضغط العمالي والطلابي في أنحاء مختلفة من العراق نجح عمال اللاسلكي في نيل جميع مطالبهم.
دور الشهيد سلام عادل وقيادته الميدانية للأضراب:
بعد إطلاق سراحه من السجن في العام 1951، تسلم قيادة المنطقة الجنوبية في تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي ومقرها مدينة البصرة العمالية. سافر الرفيق حسين أحمد الرضي (سلام عادل) على متن قطار بغداد النازل من العاصمة بإتجاه البصرة مصطحبا معه زوجته ثمينة ناجي يوسف إبنة المربي الفاضل ناجي يوسف، مدير تربية لواء الديوانية، وتلميذته في ثانوية الديوانية، عندما كان معلما للتربية الفنية.
كانت ثمينة واعية لطبيعة حياتها الزوجية الجديدة، مع زوج ورفيق، وفي منطقة بعيدة عن بيئتها الأولى. تسرد أم إيمان حكايات ومحطات أثناء تواجدها البصري في كتابها الممتع " سلام عادل سيرة مناضل " وتعرج على إضراب عمال الموانيء عام 1953، لتذكر الشيء الكثير عن السمات القيادية للرفيق سلام عادل، وإشرافه الميداني المباشر على الأضراب.
يورد الكاتب جاسم المطير وهو الذي كان طالبا في ثانوية البصرة آنذاك ومسؤولا في لجنة الدعاية والأعلام المكلفة بمتابعة نشر مجريات الأضراب في الصحف البصرية والبغدادية، أن لشخصية سلام عادل وكفاءته التنظيمية، أثراً مباشراً في نجاح الإضراب. فكان يوجه النقاش والأختلاف في الرأي، عبر إمتلاكه الرؤية الصحيحة، فمثلا كان النقاش محتدما في قضية: البدء في نقطة إنطلاق الأضراب، هل تبدأ من " قلب الشركة " في قسم المكينة في منطقة الجبيلة، أم تبدأ من " شرايينها " الانتاجية في حقول الزبير. كان الجواب الذكي واضحا من الرضي: بتحدي? مكان الأضراب من " العصب الشرياني " النفطي في الرميلة - الزبير -.
الاستعدادات لإعلان الأضراب..
تشكيل اللجان.. تشكلت ثلاث لجان هي:
1 - لجنة قيادة الأضراب.
2 - لجنة المفاوضات من العمال وضمت هاشم طعمة وشاكر علوان القيسي وطه ياسين وحسن المظفر مع المحامي المتطوع سالم الوجيه.
3 - لجنة الدعاية والأعلام.
الأضرابات تتابع
في الرابع من كانون الأول 1953 أي بعد اربعة أسابيع على إضراب عمال اللاسلكي في الفاو، الذي نجح في إنتزاع حقوق العمال وتنفيذ مطالبهم. أعلن عمال شركة نفط البصرة إضرابهم عن العمل في حقول نفط الزبير، بعد رفض الشركة مطالبهم، التي كانت تضم 14 مطلبا تتضمن:
1 - حق تأسيس نقابة لهم
2 - زيادة أجورهم.
3 - تحسين ظروف معيشتهم.
إستجابت الشركة للمطالب الثانوية فقط، والمتعلقة بتخفيض أسعار وجبات الطعام في مطاعمها. ورفضت الشركة الأستجابة لأثني عشر مطلبا أساسيا، عندئذ توسع الأضراب ليمتد إلى حقول نفط الرميلة وميناء الفاو لتصدير النفط ، وللأدارة في الجبيلة، أي مثلما خطط الرفيق سلام عادل ليشمل شرايين الشركة وقلبها.
كان التظاهر سلميا في الجبيلة والفاو وأمام مبنى المتصرفية، حيث فرقتها الشرطة. وعلى شاكلة سلميتها، إنطلقت مسيرة سلمية لعمال حقول الزبير، فتصدت لها الشرطة بالنار، ما ادى إلى جرح 6 عمال توفي أحدهم متأثرا بجراحه.
المستر مولي يطلق النار فيقتل عاملا..
هذا المستر هو معاون مدير الحقول النفطية في الزبير، كان المبادر لاطلاق النار على العمال من بندقية صيد، فقتل العامل جاسم محمد حسن.. المفارقة تكمن في دفاع متصرف البصرة عن هذا المستر، بإعتبار القتل لم يكن متعمدا، بل بالمصادفة، فجرى توقيفه لعدة أيام ليسفّر بعدها إلى لندن.
صدى الأضراب ونتائجه
في ايران لجأت سلطات الشاه لأجراءات بوليسية في الحقول والمؤسسات النفطية، ومثلها فعلت السلطات السعودية والكويتية. كما انتقل صدى الأضراب عالميا إلى الصحافة الفرنسية والبريطانية. وكما أسلفنا كان التعاطف من قبل العاملين في حقول النفط الكويتية والسعودية والأيرانية بإرسال برقيات التأييد واضحا لكون الاضراب ليس محليا فقط، بل مشتركا مع كل العاملين في الحقول النفطية لدول الجوار.
وكان رد السلطة الملكية الرجعية يتسم بالانفعال والميل الى العنف والاجراءات البوليسية، عكس ماأوحت به زيارة الملك فيصل الثاني المتوج حديثا إلى البصرة في حزيران 1953، أي قبل إعلان الأضراب بستة أشهر، والتي أرادت السلطات الملكية الأيحاء بأن أهل البصرة يرحبون بهذا التتويج، في الوقت الذي رفض الملك اليافع وبطانته إستلام عرائض عوائل السجناء السياسيين.
أوفدت السلطات الملكية الرجعية وزير العمل والشؤون الاجتماعية حسن عبد الرحمن، ثم أتبعته بإرسال سعيد قزاز وزير الداخلية. كان عبد الرحمن يميل إلى تلبية 10 مطالب للعمال من أصل 14 مطلبا، ليتم دراسة الأربعة مطالب الباقية لاحقا بعد ذلك. إلا أن سعيد قزاز كان في الجانب المتشدد، ويصر على عدم الاستجابة لجميع مطالب العمال، وأستعمال القوة البوليسية الفورية معهم لأنهاء إضرابهم. لا بل هدد بالاستقالة، إن لم تستجب وزارة محمد فاضل الجمالي له، بإعلان الأحكام العرفية في لواء البصرة وقمع الأضراب، ومحاكمة المضربين وزجهم بالسجون، وتمّ له ذلك.
وكان من النتائج المتحققة من الأضراب أن: أضربت مدارس وأسواق ودوائر الدولة في البصرة تضامنا مع عمال النفط. كما أعلنت الأحكام العرفية والتي كانت سياسة معتمدة من الحكم الملكي الرجعي يلجأ إليها في مواجهة الحراك الشعبي. كما لجأ إلى محاكمة المضربين وإرسالهم إلى السجون وخاصة سجن نقرة السلمان. كذلك تمت أحالة جريدتي: "لواء الأستقلال" الناطقة بلسان حزب الأستقلال، وجريدة "صوت الأهالي" الناطقة بلسان الحزب الوطني الديمقراطي إلى المحكمة العرفية.