فضاءات

في ذكرى ثورة 1920 .. من أطلق الرصاصة الأولى.. ؟ / غريب دوحي

ان البحث في مسألة الثورات والانتفاضات الوطنية ليس بالأمر الهيّن , فهي تتطلب جهداً كبيراً من أجل معرفة أسبابها المباشرة وغير المباشرة والملابسات التي أحاطت بها وظروفها الذاتية والموضوعية المؤثرة فيها وعدم خضوع الباحث فيها للأهواء السياسية والمذهبية والطائفية الي تفسد البحث الذي ينبغي ان يكون ذا نهج علمي موضوعي حيادي بعيد عن الأهواء.
والنظر الى الأحداث بعين واحدة تجعلنا نجهل كثيراً من الحقائق التاريخية التي وقعت في غمار الأحداث .
لقد وقعت انتفاضة 1920 العراقية في مثل هذه الإشكاليات ولم تدرس لحد الآن دراسة علمية موضوعية سواء من باحثين عراقيين او عرب او أجانب وأصبح زمان قيامها ومكانه بل وحتى اطلاق الرصاصة الأولى فيها موضع جدل الى يومنا هذا .
ان انتفاضة 1920 في العراق لم تكن وليدة الصدفة او وليدة اليوم الذي حدثت فيه , دائماً كانت وليدة سلسلة من الأحداث المتتالية وقعت في ذلك العام في تلعفر وبغداد والحلة والنجف , فضلاً عن الغليان الشعبي الذي كان يعم العالم العربي آنذاك ولقد كان لثورة أكتوبر العظمى 1917 اثر كبير على نحو متبلور في حركات التحرر العربي بالإضافة الى الانتصارات التي حققها الجيش السوفيتي على جبهات القتال اثناء الحرب الأولى والتي حفزت الكفاح المسلح في مصر وفلسطين والعراق وسوريا والمغرب من أجل التحرر من الهيمنة الاستعمارية الأجنبية , ولقد عبر الحاكم العسكري البريطاني في السليمانية عن قلقه من انتشار الأفكار البلشفية في العراق عندما قال : " ان اسم البلشفية ومبادءها أصبحت معروفة جداً هنا , مع الأسف .. " مجلة الثقافة الجديدة العدد (62) 1974
الانتفاضة: إشكالية الزمان والمكان
انقسمت آراء المؤرخين أزاء هذه النقطة الى قسمين، الأول : يرى ان الانتفاضة هي انتفاضة ( المدن ) حيث بدأت بواكيرها من بغداد، ففي الوقت الذي كان فيه شيوخ العشائر ورجال الدين ينسقون مع الضباط العرب في تلعفر والموصل بهدف التخطيط للانتفاضة ضد الأنكليز " كان الوطنيون في بغداد يقومون بأعمال مقاومة سلبية منظمة وقد بدأت هذه الأعمال بالدعوة لحضور احتفالات المولد النبوي في جامع الحيدرخانة وكان المجتمعون يســــــتمعون الى قصائد وخطب سياسية مما حمل سلطة الاحتلال في 25/5/ 1920 الى اعتقال أحد الشعراء ونفيه الى البصرة وكان هذا الأجراء سبباً مباشراً في إضراب عام وتظاهرة كبرى اشترك فيها البغداديون والكاظميون تجمعت بعد أن طافت الشوارع في جامع الحيدرخانة وهناك القيت الخطب الحماسية .. وقبل أن ينفضّ الأجتماع حاصرت السلطات المحتلة جامع الحيدرخانة واطلق رجالها النار في الفضاء إرهابا،ً ما سبب دهس شاب اسمه حسن النجار فاعتبره المواطنون أول شهيد للحرية وشيعوا جثمانه بتظاهرة سياسية كبيرة " ) تاريخ الحركة الديمقراطية في العراق . عبدالغني الملاح ص 13-14) .
إن السياسة التي اتبعتها سلطات الاحتلال في العراق متمثلة بالحاكم المدني العام ( ارنولد ولسن ) وفرض الانتداب حفّزت العراقيين على الثورة " فلم يجد العراقيون سبيلاً لمقاومة الاحتلال غير الثورة المسلحة التي اندلعت شرارتها الأولى في 4/حزيران 1920 في تلعفر و30 /حزيران /1920 في الرميثة ثم عمت معظم اراضي العراق ( عبدالغني الملاح ص13) .. وهكذا يرى الملاح ان الثورة بدأت من تلعفر قبل أن تبدأ من الرميثة .
ويؤيد هذا الرأي مؤرخ عربي حيث يقول : " في الثالث من حزيران 1920 احتل جميل المدفعي وهو ضابط عراقي ومجموعة من رجاله قوامها (300) من قبيلة شمر جربا ( تلعفر ) وقتل ضابط بريطاني هو الرائد ( بارلو ) ثم قتل الملازم ( ستيوارت ) وهدد بالتحرك والهجوم على الموصل الا ان الانكليز بعثوا قوة في 5/حزيران / 1920 وتمكنوا من طرد جميع سكان تلعفر ابرياء ومذنبين الى الصحراء ولم تستطع هذه القوة معاقبة قتلة الضباط البريطانيين وكان هذا الحادث في تلعفر بمثابة صب الزيت على النار .. " دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث . عبدالله فهد النفيسي ص 132 - 133 .
وقد لعبت المدارس الأهلية في بغداد دوراً هاماً في ايقاظ الشعور الوطني والدعوة الى الثورة من خلال القاء الخطب والقصائد الحماسية كالمدرسة الجعفرية التي تأسست عام 1908 ومدرسة التفيّض الأهلية التي تأسست عام 1919
ومن هنا نرى ان تحديد الإطار الزماني والمكاني للأنتفاضة يدخل ضمن المواضيع التي تستحق النقاش العلمي الرصين والبحث الموضوعي الجاد .
أما القسم الثاني من آراء المؤرخين فهم يرون ان الثورة هي انتفاضة العشائر المسلحة في منطقة الفرات الأوسط فهي اذاً انتفاضة ( فراتية ) وليست انتفاضة المدن وما الأحداث الدامية التي وقعت في النجف 1918 وبغداد والحلة وتلعفر ان هي إلاّ أحداث عابرة لا ترقى الى مستوى الأحداث الممهدة لقيام ثورة كبرى كثورة 1920 .
من اطلق الرصاصة الأولى .... ؟
اجمع المؤرخون الذين كتبوا عن ثورة العشرين على ان يوم 30 حزيران 1920 كان بداية للثورة لأن في اليوم السابق له أي 29/ حزيران اعتقلت سلطات الأحتلال في الرميثة رئيس عشيرة الظوالم الشيخ شعلان من قبل الملازم ( هيات ) نائب الحاكم السياسي في الرميثة بزعم وجود دين للحكومة بذمته فكانت الشرارة الأولى التي الهبت الثورة " وهاجم عشرة من الظوالم السجن واطلقوا سراح شيخهم ثم عمد افراد القبيلة المذكورة الى رفع بعض قضبان سكة الحديد فانقطع الطريق بين بغداد والبصرة ولما سمع الرائد (ديلي ) حاكم الديوانية السياسي بما جرى اعدّ مفرزة من جنده لتخليص حامية الرميثة " (عبدالرزاق الحسني) احداث عاصرتها ص 29- 30
وهذه رواية اخرى تقول: " أمر الملازم ( ديلي ) حاكم الرميثة الملازم ( هايت ) أن يرسل له رؤساء الرميثة بمن فيهم شعلان وغثيث الحرجان فذهب شعلان ولم يذهب ( غثيث ) كي ينجد شعلان اذا ماحدث له حادث عند الحاكم , ولما وصل شعلان أمر الحاكم بسجنه وحينئذ ارسل الى غثيث خبرا مفاده بأن شعلان بحاجة الى عشر ليرات عثمانية ويعني عشرة رجال بأسلحتهم وقد وصلت النجدة واطلقته من السجن بعد ان تقابلت مع الحرس وهذه اول خرطوشة اطلقت في العــــــــــــــــــــــــــراق ضد الأنكلـــــــــيز .( الوقائع الخفية للثورة العراقية . علي البازركان ص 212)
أما الرجال العشرة الذين تمكنوا من تحرير الشيخ شعلان فهم : حميد الحاج كاطع - جنحيت الحاج كاطع - حمود الراضي - عبد العبارة - خضير العبود - نجم العبدالله - ابو عيون الحرجان ( شقيق ) غثيث الحرجان - عجيل الراضي - كصّاد المخرب - دخيل العبود . وقد نفذ هؤلاء مهمتهم في 30 حزيران 1920 وبعد تخليصه من السجن صدرت الأوامر من النجف بقيام الثورة ضد الأنكليز . ( دور الشيعة في تطور الحكم في العراق السياسي الحديث . عبدالله فهد النفيسي ص 137 )
وجواباً على السؤال من أطلق الرصاصة الأولى ؟ يقول علي البازركان : ان الرصاصة الأولى للثورة أطلقها ( غثيث الحرجان ) في سبيل اطلاق سراح الشيخ شعلان الا انه يتساءل هل كان إطلاق الرصاصة في سبيل مآرب وطنية ام انها اطلقت في سبيل اطلاق الشيخ شعلان الذي سجن من اجل قضايا شخصية تتعلق بواردات الحكومة, تلك الواردات التي تسبب مشاكل عديدة والتي تبقيها الحكومة بذمة الشيوخ لتضمن بقاءهم بحوزتها .... " ( الوقائع الخفية ص153 )
الا اني أميل الى الرأي الثاني الذي يقول ان الثورة هي ثورة العشائر في الفرات الأوسط وليست ثورة المدن ذلك ان هذه المنطقة ذات طابع زراعي تشتهر بزراعة محصول استراتيجي وهو ( الرز ) الذي تعتمد عليه سلطات الاحتلال اعتمادا أساسيا في تمويل قواتها يضاف الى هذا الضرائب الباهظة التي فرضتها سلطات الأحتلال على طبقة الفلاحين فاصبحت عبئا ثقيلا عليهم مما ادى الى تذمر هذه الطبقة المهمة من السياسة التي اتبعتها سلطات الأحتلال فضلاً عن ان الطابع القبلي ( العشائري ) للمنطقة التي اعتبرت اعتقال شيخ الظوالم من قبل السلطات وكأنه اهانة لكل افراد القبيلة لذلك فان عزيمتهم على تحريره يعد الشرارة الأولى للانتفاضة , ويتضح لنا من التركيب الطبقي للثوار ان أغلبهم كانوا من الفلاحين بالإضافة الى العمال والبدو المدربين على السلاح .
ومن خلال قراءة مذكرات السير ( آرنولد ولسن ) الحاكم المدني العام في العراق إبان الانتفاضة نراه يتخبط في تقييمه للانتفاضة حيث نفى وجود مشاكل زراعية في العراق قائلا : " ان الثوار كانوا بلشفيي النزعة "أي أنهم كانوا يعادون كل أشكال الحكومات وقد نسي ( ولسن ) ان البلاشفة شكلوا حكومة ثورية بعد انتصارهم على القياصرة كما اتهم( ولسن ) في مذكراته نجل الشيرازي ( محمد رضا ) بأنه يعمل لصالح البلاشفة في روسيا .
ولابدّ لنا من الإشارة الى أهم ما أنجزته انتفاضة العشرين رغم فشلها عسكريا فقد رسمت خارطة للعراق الحديث وأسست دولته واجهزت على مشروع بعض الساسة الأنكليز الذي كان يهدف الى فصل البصرة وإلحاقها بحكومة الهند البريطانية ادارياً واقتصادياً , لقد أجبرت الانتفاضة بريطانيا على تغيير سياستها في العراق ووضعت العراق على أعتاب مرحلة جديدة وكانت فاتحة عهد لثورات تحررية أخرى توجت بثورة 14 تموز المجيدة 1958 .