فضاءات

عراقيات في مطحنة "الضيم" / محمد علي محيي الدين

عانت المرأة عبر عقود من السنين من الإهمال والنسيان ورزحت تحت الظلم عبر تاريخها لأن أكثر المجتمعات العربية ذكورية والمجتمع العراقي لا يختلف في هذا الجانب عن غيره من الشعوب، لذلك فتاريخ المرأة العراقية حافل بالكثير من المآسي والمشاكل منذ عصور سحيقة في القدم، والدارس للمجتمع العراقي يلمس الحيف الكبير الذي لحق بالمرأة جراء تهميشها مما دفعها للتعبير عن ذلك بمختلف الوسائل وفي مقدمتها الشعر، فالمرأة العاملة سابقا في المطاحن والمجارش عبرت عن هذه المعاناة بشكل سافر وتذمرت منها وانحت باللائمة على "الحظ والقسمة والنص?ب" كتعبير عن رفضها للواقع وما قصيدة المجرشة المنسوبة للكرخي إلا تعبير صارخ عن هذه المعاناة فهي لسان حال المرأة العاملة في كل زمان ومكان، والدارمي عبر بشكل صارخ عن هذه المعاناة، فتقول امرأة تعمل في الطحن بواسطة الرحى:
ما تنسمع رحاي بس أيـــــدي أديـــر
أطحن بگايا الروح موش اطحن اشعير
فهي هنا تصف معاناة المرأة العراقية أينما وجدت، وتكاد تكون الصورة واحدة للتهميش والإقصاء الذي عانته المرأة العراقية لحقب طويلة من الزمان.
ولا يفوتنا في هذا المجال الإشارة إلى النواتات الأولى للنشاطات النسوية الساعية للتخلص من الظلم والمعاناة فقد برزت في العراق في الثلث الأول من القرن المنصرم حركات نسوية فاعلة ناضلت لتحرير المرأة وانتشالها من واقعها المهين ونجحت هذه الحركات الى حد ما في تمرير القوانين الساعية لتحرير المرأة ورفع الغبن عنها ولا سيما بعد ثورة الشعب في الرابع عشر من تموز 1958، فقد صدر قانون الأحوال الشخصية العراقي وفيه طفرات نوعية كبيرة في هذا المجال أعطت للمرأة مكانها الحقيقي في المجتمع وأوقفت الكثير من القوانين والممارسات الاجتماعية الضارة، ولكن بعد الحكم الصدامي وتوجهاته المعروفة في حملته الإيمانية الزائفة طفت على السطح أوهام الماضي وعادت الى الواجهة ممارسات كثيرة عفى عليها الزمن ومجتها الحياة مما أعاد المرأة من جديد الى عصور التخلف والانحطاط وبدأت المعاناة الجديدة التي تجسدت فيما أهمل من قوانين وما ساد من أعراف بالية بعيدة عن أماني المرأة وطموحاتها في العدالة والمساواة وخلق الوضع الجديد جيلا من النساء البائسات، واستلبت كافة الحقوق التي حصلت عليها المرأة مما جعلها أكثر فئات المجتمع تعرضا للظلم والإهمال.
وتلعب الأمية دورها الكبير في هذا العدد من العاملات، فأكثر العاملات في مثل هذه المهن أميات والإحصائيات تشير الى تفشي الأمية بين النساء بما يزيد على ال50 بالمئة، ناهيك عن أن عمالة المرأة دائما تكون أرخص من الرجل.
النساء مارسن أعمالا كثيرة منها، رعي الماشية والزراعة وجني المحاصيل وحصاد الحنطة والشعير وجمع التمور والعمل في معامل الطابوق أو المعامل الأهلية بمختلف أشكالها، وفي البقالة والخياطة والتطريز وصناعة الخبز وغير ذلك من المهن المضنية يدفعها لذلك الظلم المجتمعي وأكثر العاملات هن من الأرامل والمطلقات أو اللواتي هجرهن الأبناء أو أهملهن الأزواج، أو من ابتلين بزوج مريض أو معوق، وهاتيك النسوة المجاهدات تمكن بفضل كدحهن وممارستهن لمختلف الأعمال إعالة الأسرة والحفاظ على تماسكها ومنهن من تمكنت من إيصال أبنائها إلى مراقي ا?مجد والتقدم، وعرفنا أسماء كبيرة لشخصيات لها وزنها في المجتمع نتجت عن جهد المرأة وعرقها وهناك أسماء لامعة لأبناء الخبازات والخياطات والعاملات وبعضهم يفخر بهذا الانحدار الطبقي ويباهي به.
وللمرأة حقوقها والعاملات منهن لهن من الحقوق ما يتطلب إيجاد الحلول لمعاناتهن، السيدة سوسن البراك، معاون مدير في وزارة حقوق الإنسان تقول:
"عمالة النساء ليست جديدة على المجتمع العراقي فقد بدأت في التسعينات بشكل واضح خلال الحصار الاقتصادي على العراق، ولكنها تحولت إلى ظاهرة خطيرة بعد 2003 حيث بدأت النساء تعمل في مهن لا تتناسب مع بيولوجية جسم المرأة مثل مساطر عمالة النساء في بعض المدن العراقية إضافة إلى مهن صعبة ومجهدة نفسيا وصحيا مثل عمل النساء في معامل الطابوق والعمل في جمع الملح وجمع النفايات بل هناك من تعمل في القصابة".
وترجع البراك أسباب ظاهرة عمل النساء إلى ارتفاع معدلات الفقر في العراق من 23 بالمئة - 27 بالمئة، إضافة الى فقدان المعيل الذي دفع المرأة للعمل لإعالة أسرتها.
بيت ومزرعة
الفلاحـــة: والمرأة الريفية لها معاناتها التي تختلف عن المرأة في المدينة فهي إضافة لأعمال البيت تعمل في المزرعة وتتحمل القسط الأكبر من العمل الزراعي في الوقت الذي يتفرغ الفلاح فيها لقضاياه الخاصة، فهو لا يعمل شيئا سوى تسويق الحاصل واستلام المال والتصرف به كيف يشاء، ويرتدي زيه الريفي المعروف ليتفرغ للقضايا الاجتماعية والعشائرية، وإضافة للعمل الزراعي فهي المسؤولة عن رعاية الحيوانات وتوفير العلف لها ورعيها، والذي يزور الريف العراقي يرى مئات النساء يرتدين النقاب ويضعن على أرجلهن "اللفافات" التي تقيهن وخز الأشواك عند عملهن في المزرعة، وهناك نساء يعملن في الزراعة بملابسهن الاعتيادية دون الحاجة لنقاب أو لفافات، وفي القرى التي لا تتوفر فيها مياه الإسالة، هناك عبء آخر على المرأة في جلب الماء للبيت لأغراض الطبخ والغسل، بل هناك قرى لا تتوفر فيها مياه الأنهار فتضطر لحفر الآبار وهو ما يشكل عبئا اضافيا على المرأة، وتعرضت بعض النساء للغرق والموت عند استخراج الماء من الآبار، والحقيقة هناك صعوبات جمة في اللقاء بالفلاحات أو نساء المزارعين حسب العرف الريفي إلا أننا تمكنا من لقاء بعضهن بحكم العلاقة الاجتماعية أو للمعرفة المسبقة?بأسرهن لذلك نتحاشى الإشارة لأسمائهن أو كنيتهن الحقيقية ونكتفي بالرمز لهن بأم فلان أو علان.
حرمة!
تقول "أم محمد": معاناة المرأة الريفية كثيرة فهي المسؤولة عن كل شيء في البيت أو المزرعة أو رعي الماشية، إضافة للواجبات الاجتماعية والعلاقات العامة، وأكثر رجال الريف لا هم لهم إلا الظهور بمظهر اجتماعي يزيد كثيرا على وضعه الحقيقي، ورغم كل ما تقدمه المرأة إلا أنها لا تزال في نظر الرجل "حرمة" ليس لها رأي أو قول في أكثر الأمور فالرجل هو سيد الموقف والمرأة جارية وجدت لخدمته وتوفير مستلزمات راحته، وما عليها إلا القبول والطاعة والإذعان لكل ما يريد وإلا فالعصا لمن عصى.
وتقول "أم حسين" التي فقدت زوجها في الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن المنصرم: بعد فقدان زوجي في الجبهة ترك لي ثلاثة أطفال وقطعة أرض صغيرة، وبعد معاناة البحث والمراجعات صرف له راتب المفقودين وكان وقتها يفي بمتطلبات الحياة، وكنت أعمل في الأرض لأوفر لأبنائي ما يقيهم مرارة العوز بانتظار عودة الغائب، وبعد الحصار أصبح الراتب لا يكفي إلا لأيام فانصرفت للعمل المضني في الزراعة وتربية الحيوانات لتوفير لقمة العيش، وتمكنت من توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة، الى أن كبر الأبناء، وبعد سقوط النظام تطوعوا في الجيش والشرطة، والآن هم في وضع جيد.
المرأة الراعية
هناك نساء يعملن في رعي الأغنام في المدن الكبيرة وهؤلاء لهن معاناة خاصة وكثيرا ما لاحظنا في أغلب المدن العراقية أن هناك نساء يقدن مجاميع كبيرة من الغنم في أحياء المدن، يجئن من أطراف المدينة لتوفير الغذاء للأغنام مما يجدن في نفايات الدور أو بعض المناطق الخضراء وهاتيك النسوة يتعرضن لمضايقات الشباب العابث ومطاردة الشرطة بعض الأحيان لمنعهن من التوغل في الأحياء وإتلاف الحدائق الخارجية للبيوت والمتنزهات، وما تخلفه الحيوانات من آثار تشوه المدينة، ويتميزن بالنقاب الذي لا تظهر منه إلا حدق الأعين ويضعن اللفافات على رجلهن ولا ترى منهن إلا هيكل امرأة يخفي خلفه الكثير، وفي لقاء مع بعضهن بيّن عمق معاناتهن، تقول "أم جاسم" من سكنة أحد أحياء الحلة، تقود قطيعا كبيرا من الأغنام والماعز: نخرج يوميا في الصباح الباكر مع أغنامنا لتوفير العلف لهن في نفايات الدور والأماكن التي يتوفر فيها الزرع، ونعود بعد الظهر لتناول الطعام ونخرج عصرا وهكذا كل يوم، وأكثر ما نعانيه هو مطاردة الشرطة وشكوى الأهالي بحجة إتلاف حدائقهم، وهذه دعوى باطلة فنحن نحاول منع الحيوانات الاقتراب من حدائق الدور ونترك الأغنام في الأراضي المتروكة التي فيها القمامة وبعض النباتات الطبيعة التي تنمو بسبب وجود الماء، وهذه هي مصدر عيشنا، لأننا لا نمتلك أرضا زراعية، والأعلاف غالية الثمن وهذه الأغنام مصدر عيشنا، وكان على الحكومة أن توفر لنا الأرض بدلا من تركها دون زراعة، وهناك الكثير من الأراضي المتروكة التي لو منحت لنا لزرعناها واستفدنا منها في تربية أغنامنا، وسألتها: وأبنائك من يتولى تربيتهم؟ قالت إنها تتركهم بعهدة جدتهم إما إذا كان لديها طفل رضيع فهي تحمله أثناء عملها، وسألتها أين زوجك ولماذا لا يقوم بهذا العمل بدلا منك؟ قالت إن زوجي رجل وهو يأبى العمل راعيا للغنم لأنه يحط ?ن منزلته الاجتماعية، وهو المسؤول عن بيع الأغنام والتصرف بها وأنا واجبي رعايتها فقط.
أما أم جبار فلها معاناتها التي تختلف عن زميلتها فهي أرملة ومسؤولة عن إعالة أطفالها وبعد وفاة زوجها انصرفت لتربية الماشية لتؤمن لهم معيشتهم، وحاولت الحصول على ما تمنحه الدولة للأرامل ولكنها فشلت لأنها ليس لديها واسطة يمكن أن ينجز معاملتها، ولو كانت تمتلك قطعة أرض زراعية لاختلف الحال وتوسع عملها لأنها تريد أن تعمل وتحقق أملها في إيصال أبنائها لمستوى يختلف عن مستواها الحالي، لذلك اهتمت بإدخالهم الى المدرسة وهي مصرة على إكمال تعليمهم ليكونوا نافعين في المستقبل، وتأمل من الحكومة العراقية أن تهتم بهذه الشريحة العاملة التي تقدم للمجتمع أكثر مما يقدم أصحاب الأراضي المتعاقدين مع الدولة الذين تركوا الزراعة وانصرفوا للعمل في الدوائر الحكومية ولا علاقة لهم بالزراعة أو تربية الحيوانات التي هي الأساس الذي منحوا من اجله الأرض.
عالم الطواشات
الطواشات يعملن في مواسم معلومة هي مواسم جني التمور، والطواشة تقوم بجمع التمور المتساقطة بعد قصها من قبل العامل المختص وجمع العذوق وفصل التمور عنها وأجورهن أما أن تكون نقدية أو عينية أو الجمع بين الاثنين فتأخذ لقاء عملها كمية من التمر تقوم ببيعها على التجار.
ومساطر الطواشات تتجسد فيها مأساة المرأة حيث تشاهد عشرات النساء ينتظرن أصحاب البساتين، لاختيار النشيطات منهن أو المعروفات لديهم، وكثيرا ما يتعرض بعضهن لإساءات أصحاب العمل، ناهيك عن المعاملة غير اللائقة وقد التقت طريق الشعب ببعض العاملات في هذه المهنة المضنية .
تقول أم أحمد، وهي امرأة جاوزت الخمسين من العمر: عملت في هذه المهنة منذ تسعينيات القرن المنصرم وكانت البساتين عامرة والفلاح يهتم ببستانه فالتمور كانت مصدرا مربحا لهم ويجنون منها الملايين، وكان عملنا في تلك الأيام كثيرا بعكس الوقت الحاضر حيث أهملت البساتين لعدم وجود مردود مادي من جني التمور أو الاهتمام بالنخيل فتكاليف التلقيح والتكريب والقص وجمع التمور أكثر من مردودها المادي لذلك ترك الفلاح نخيل الزهدي واهتم بأصناف التمر الأخرى كالخستاوي والبرحي والمكتوم والخضراوي وغيرها من التمور العراقية.
فيما قالت "..." إن معاناة الطواشات تختلف كثيرا عن معاناة العاملات في المهن الأخرى فنحن نخرج مع مطلع الشمس ولا نعود إلا بعد مغيبها، ونقوم بجمع التمور وتنقية العذوق من التمر لنضعه في أكياس النايلون بعد إخراج التمر الأصفر والشيص أو التالف، ثم نقوم بجمع المخلفات من عذوق وليف في مكان آخر، ونتناول غداءنا بعد الظهر لنعود للعمل من جديد وحصيلة أتعابنا لا تزيد عن 15 ألف دينار مع كمية من التمر.
خبزتنا على النفايات!
كثيرا ما شاهدنا أطفالا ورجالا ونساء يقومون بالبحث في النفايات عن قناني البيبسي أو النايلون أو أي شيء آخر يمكن الاستفادة منه، وفي أماكن طمر النفايات نشاهد عوائل بأكملها تبحث في هذا الكم الهائل من النفايات عما يمكن الاستفادة منه أو بيعه، وترى النساء والأطفال ينقبون في أكوام القمامة وينبشون فيها، متحملين ما ينبعث منها من روائح تزكم الأنوف، وتلوح على قسمات وجوههم إمارات المرض وسوء التغذية.
تقول أم هادي 45 سنة التي تعمل مع أبنائها في جمع النفايات: نحن لسنا أحياء، نعيش في المزابل بحثا عن لقمة العيش، ونخرج في الصباح الباكر أنا وأبنائي للعمل في هذا المكان القذر بحثا عن لقمة العيش، الحكومة تركتنا لمصيرنا، وفي أيام الانتخابات يسألون عنا ونغدو أعزاء لديهم فترى سياراتهم تجوب أحياءنا القذرة فيما يتبخرون بعد انتهاء الانتخابات ولم يزرنا أي مسؤول منهم أو يبحث عن طريقة لحل مشكلتنا مع الفقر.
هناك فتيات بعمر الورود يعملن في هذه المهنة القذرة، فقد وجدنا في مكب نفايات خارج المدينة شقيقتين تبحثان في النفايات عن علب المشروبات الغازية وتجمعانها في أكياس لا تزيد أعمارهن عن الخمسة عشر عاما تقول الكبيرة: أنا وشقيقتي نعمل من الصباح حتى الظهر في جمع الخبز اليابس أو بقايا الأطعمة للاستفادة منها في علف الحيوانات التي نعيش من منتجاتها، كذلك نقوم بجمع علب المشروبات الفارغة لنقوم ببيعها على أصحاب السكلات لقاء مبالغ مالية بسيطة تعيش عائلتي عليها فقد أصيب والدي بمرض خطير أقعده عن العمل فاضطررنا أنا وشقيقتي للعمل لإعالة الأسرة فيما تبقى والدتي في البيت لإعداد الطعام والعناية بوالدي، وقد قدمت والدتي طلبا للرعاية الاجتماعية إلا أن المعاملة لا زالت تنتظر الفرج.
إن عملي في هذا المكان القذر جعلني أشعر بالحقد على الناس الذين يعيشون حياة مترفة فيما كتب علينا أنا وعائلتي الشقاء ولم تجد دعوات والدتي في تسهيل أمورنا ولا ادري لمن نلجأ لنعيش كما يعيش الآخرون.
كدح وألم
هناك نساء يعملن في المعامل الأهلية، وهاتيك النسوة يتعرضن لمضايقات كثيرة وخصوصا من كن في أعمار متدنية، ويقمن بأعمال تتسم بالصعوبة كما لاحظنا ذلك في معامل طحن البهارات حيث تواجههن مشكلة الغبار المتطاير عند الطحن والروائح المنبعثة منها مما يجعلهن يرتدين نقابا كثيفا يمنع تسرب الغبار لرئاتهن وكثير منهن يصبن بأمراض صدرية مختلفة مما يجعل عملهن في تلك المهن أقصر من عملهن في المهن الأخرى،ووجدنا كثيرا من الفتيات بأعمار دون الثامنة عشرة يقمن بهذا العمل المهلك، وقد أضفت الألوان المختلفة للبهارات على ملابسهن ألوانا أخر
وجدنا في أحد المعامل ثلاثة من أسرة واحدة يعملن في الطحن والتنقية هن ام وابنتاها اللواتي دون الثامنة عشرة، تقول الأم: الفقر والحاجة وراء عملنا الجماعي فالحياة المعيشية تتطلب الكثير وعائلتنا تتكون من أحد عشر فردا أكثرهم أطفال منهم أولاد ابني الذي أعيق بسبب تفجير إرهابي مما دفعنا للعمل وتامين لقمة العيش فيما تقوم زوجة ابني بالعمل المنزلي وتهيئة الطعام لنا وعملنا اليومي يستمر من الصباح حتى الخامسة وربما بعدها، فالحياة صعبة ومواجهتها تحتاج لتضحية، وبدلا من مد الأيدي لطلب العون من الآخرين نعمل نحن لإعالة أسرتنا
و... البقالة
يخرجن عند ساعات الفجر الأولى لشراء الفواكه والخضر من علوة المخضرات، ويستمر عملهن عصرا في بعض الأحيان لتصريف بضاعتهن، وأكثرهن يفترشن الأرض ولا يملكن محلات كما هو حال البقالين، تقول أم ستار: منذ وفاة معيلنا (زوجي) وأنا أعمل في هذه المهنة، لإعالة أبنائي الذين تركهم صغارا دون معيل ولم أجد عونا من إخوته وأقاربه الذين كانوا معارضين لزواجنا، وقد عملت بجد وتفان وإخلاص لكسب رزقي، وتمكنت من إدخال أولادي المدارس، وابني الأكبر دخل الكلية ويساعدني أيام العطل وأنا لا استحي من عملي الشريف، وأجد نفسي قادرة على أداء رسالتي في تربية أولادي، وسأتقاعد عن العمل بعد أن يتعين أبنائي ليتحملوا عني المسؤولية.
استقبلتنا أم مهدي التي تعمل بقالة في سوق الحطابات بالتذمر والشكوى من إهمالها من قبل الحكومة التي عليها التفكير بالفقراء ومد يد العون لهم تقول: عملت في هذه المهنة بعد أن تخلى عني أبنائي بعد وفاة والدهم واضطررت للعمل لأعيش بدلا من استجداء العون من الآخرين، وقدمت إلى وزارة العمل عندما قيل أن هناك رواتب للأرامل إلا أني لم أحصل على الراتب لأن الرواتب تمنح لمن لديهم الواسطة أو يدفعون الرشوة.
وعن سير العمل وهل يوفر لها عملها الحد الأدنى من العيش قالت: الحمد لله ما أحصل عليه كاف وزيادة وأوفر منه لأيام المرض لأني أعمل لإعاشة نفسي فقط وليس لدي أولاد أصرف عليهم فقد هجرني أبنائي وأنا نبذتهم لخلو قلبهم من الرحمة، وأعمل يوميا من الصباح حتى الظهر فاصرف بضاعتي لأني أبيعها بسعر مناسب، وأذهب إلى داري بعد الظهر لأعمل في اليوم التالي ولو منحت راتب الرعاية لتركت العمل.
العيش في دبدابة!
الذي يزور معامل الطابوق يرى عوائل بأكملها تعمل في صناعة الطابوق، وتتحمل حرارة الصيف اللاهب لكسب لقمة العيش، والعمل في هذه المعامل تحتسب أجوره على أساس الكمية وليس ساعات العمل، لذلك تشترك الأسرة اجمعها في عمل الطين وقص اللبن وترتيبه على أشكال هندسية معروفة ليجف ثم تقوم برصفه على شكل غرفة ليلبخ بالطين لحمايته من المطر ويخزن لأيام الشتاء التي لا يمكن فيها عمل اللبن بسبب الخشية من الأمطار وعدم جفافه بسرعة كما هو الحال في أيام الصيف.
تقول "..." التي تركت القرية لعدم توفر المياه الكافية لزراعة قطعة الأرض التي كانوا يعملون بها سابقا وعملت في هذا العمل الشاق: بحكم الحاجة، وعدم وجود عمل اضطررت أنا وأبنائي للعمل في معامل الطابوق حيث تركنا قريتنا وتوجهنا الى العمل في معامل الطابوق أنا وزوجي وأبنائي وأخذنا بعض الأثاث الضرورية وعملنا يمتد لثلاثة أو أربعة أشهر وقد تزيد ثم نعود لقريتنا لنعيش بما كسبنا حتى بداية الموسم الجديد، ونعمل منذ شروق الشمس حتى غيابها في عمل الطين وتقطيع اللبن وتوزيعه على الأرض ليجف وبعدها نقوم بترتيبه على شكل مربع، وتكون اجورنا على أساس كمية اللبن الجاهز لا على أيام العمل أو الساعات ورغم إن الأجور لا تتناسب مع الجهد المبذول إلا إننا نستطيع بالتقتير على أنفسنا توفير مبلغ من المال لنعيش به أيام البطالة وانتهاء العمل.
فيما أكدت أم محمد إنهم قاموا ببناء "دبدابه" غرفة ليعيشوا فيها ثم بعد أن تهيأ لهم عمل متواصل قرروا السكن قرب المعمل، فشيدوا مستلزمات دار من غرفتين ومرافق، وقاموا ببنائها بكسر الطابوق والطين وتسقيفها بالبواري والجذوع لأنهم يعملون في عمل اللبن وزوجها يعمل في إشعال الكورة، وتشارك الأسرة جميعها في الأعمال المختلفة للمعمل من اجل توفير لقمة العيش، واشد معاناتهم تنبع من الدخان المتصاعد من المعمل الذي أثر على صحتهم بشكل كبير وجعلهم يصابون بأمراض الجهاز التنفسي وخصوصا الأطفال الذين لا يتحملون هذه الأجواء لذلك سيتركون عملهم الشاق إذا توفر لهم مبلغ من المال يساعدهم على العمل في أي مشروع تجاري والانتقال الى المدينة لأن أوضاعهم المزرية لا تطاق.
داخل بيوت الأثرياء
الخدمة في المنازل تحتاج لمتطلبات كثيرة في مقدمتها إجادة المرأة للطبخ، لأن هذا العمل خاص بالأسر الغنية التي يدفعها ثراؤها الفاحش للاستعانة بالخادمات، والأسر الغنية تشترط في الخادمة أمورا كثيرة في مقدمتها النظافة والهندام الجيد وإجادة الطبخ ومعرفة التعامل مع الأجهزة الحديثة، وهذا ما لا يتيسر لدى الكثيرات لذلك تكون الخادمة بمستوى أعلى قليلا من مستوى الأخريات، وهناك من يعملن في تنظيف الدار فقط وهن الكثرة الكاثرة من العاملات في هذا الميدان، ولهاتيك النسوة معاناتهن التي تتمثل فيما يتعرضن له من إذلال من بعض الأسرالتي تفتقد العطف والرحمة، تقول أم علي، تعمل في خدمة عائلة متوسطة العدد: قتل زوجي في أحداث العنف في عام 2006 وترك لي أربع بنات وولدا وكلهم طلاب والراتب التقاعدي لزوجي لا يكفي فكان لابد من العمل فعملت خادمة في البيوت بأجر يومي لأعاني مشقة العمل، وتصرفات الأسرة التي يبدو أنها حديثة النعمة، وطلباتها كثيرة لا تطاق، إضافة لممارسات أخرى مهينة ولكن الحاجة تجعلني أتحمل وكما يقول المثل "من الباب للكوسر فرج".
فيما تذكر أم عباس إنها تعمل في عدد من البيوت وعملها يتلخص في تنظيف الدار وتوظيب الأغراض، ولديها جدول عمل أسبوعي لعدد من الأسر حيث تزورهم في أوقات محددة لتقوم بعملها وهي قانعة به وتحصل من خلاله على مورد لا باس به يساعدها في إعالة أسرتها ولا تعدم مساعدة من تعمل معهم وبعض الأسر تمنحها الطعام الفائض والملابس القديمة، بل ان بعضهم يعطيها إكراميات والأغراض المنزلية الفائضة وكسبت احترام الجميع لأمانتها لأن تلك الأسر جربتها فوجدت فيها الأمانة والإخلاص والعمل الجيد، وهي اختارت هذه الأسر من بين أسر كثيرة عملت معها بل أن هذه الأسر كثيرا ما تجد لها عملا لدى أسر أخرى، وكما تقول: النجاة في الصدق وصدقها كان الطريق لنجاحها.