فضاءات

الشهيد عدنان البراك مناضلا وابا وزوجا/ سهيلة حسن*


حياة قصيرة بين سجون نوري السعيد وقصر النهاية
الشهيد عدنان البراك واحد من المع الصجفيين الشيوعيين. ترك بصمة لا تمحى رغم حياته القصيرة التي انهاها انقلابيو 8 شباط بدفنه حيا مع عدد من رفاقه.
تروي هنا رفيقة حياته ، سهيلة البراك، في مذكراتها جانبا من تلك الحياة القصيرة لمناضل شيوعي كرس كل وقته وعلمه وجهده من اجل الحزب وقضيته.
من يقرأ بعضا من سيرة الشهيد سيعرف الكثير عن جيل من الشيوعيين ذابت حياته الشخصية في القضية الأكبر والأهم وانتهت بشرف لا يدانيه شرف.
سلاما لروحك يا ابا مازن.
سلوى زكو
الشهيد عدنان البراك.. تواضع وكفاءة
ولد الشهيد عدنان في 29 تشرين الثاني 1929 في مدينة بغداد/ جانب الكرخ / محلة الشيخ بشار. وصادف يوم ولادته يوم انتحار عبدالمحسن السعدون رئيس الوزراء آنذاك.
بعد إنهاء مرحلة الابتدائية انتقل مع والده الموظف الى الحلة ليدخل الثانوية فيها عام 1942. وتخرج منها سنة 1947، وبمعدل يؤهله لطلبة البعثات في الخارج. وانتقل لوحده الى بغداد للالتحاق بالكلية الطبية لعام 47/ 48 الكلية التحضيرية لطلبة البعثات.
واستأجر غرفة صغيرة مشاركة مع زميل له في منطقة "حمام المالح" في جانب الرصافة. وكان عدنان يدفع الايجار من كتابة قصص قصيرة تنشرها له إحدى الصحف وباسم صاحب الصحيفة.. وليس باسم (عدنان) ويستلم مقابل ذلك درهماً واحدا عن كل قصة ليدفع منه ايجار الغرفة ويقتات بالبقية..
امنيته في الحياة ان يصبح كالكاتب الروسي (جيخوف) طبيب جراح وكاتب ناقد باسلوب ساخر، ولكن هذه الامنية لم تتحقق.. لقد رأى عدنان في جيخوف مثالا لما اتبعه من نهج في المزاوجة بين تقديم المعونة الآنية للطبقات المسحوقة في المجتمع - بقيامه بمعالجتهم بدون مقابل- اذ كان جيخوف يقدم خدماته كطبيب مجاناً للفقراء- وبين دوره ككاتب ينتقد باسلوب ادبي أخاذ، الاوضاع السلبية في مجتمع متخلف لرفع مستوى الحس الحضاري وبالتالي الوعي الاجتماعي للمجتمع كشرط لا محالة منه حسب رايه لغرض اصلاحات اجتماعية جذرية.. لكن هذا الحلم لم يتحق!!
في رسالة رفيقه ايام الدراسة الثانوية الفقيد مهدي عبدالكريم في رسالة استلمتها منه اثناء لقائي به في موسكو عام 1965، بيّن فيها نشاط عدنان في المدرسة منذ عام 1942.
"عرفت الشهيد عدنان البراك في المدرسة الثانوية في الحلة سنة 1942، لقد كنا معاً في نفس الصف منذ السنة الثانوية الاولى حتى صيف 1947، حيث انهينا المرحلة الثانوية، وكانت تربطنا علاقات صداقة وتقارب كبير في التفكير. كان عدنان واحدا من أذكى اقرانه ومن أكثرهم اجتهاداً، وكان في الامتحانات واحداً من الثلاثة الأوائل في الصف.
كانت فترة تعليمنا الثانوي فترة اشتداد الحرب العالمية الثانية وكانت الجمهرة الواسعة في بلادنا تتابع باهتمام بالغ تطورات الحوادث العالمية والاحداث الداخلية. الكل منغمر في السياسة، يستمع الى كل نشرة أخبار وينصت الى كل تعليق ويحاول ان يحلل ويستنتج. ولم نكن نحن تلاميذ الثانوية الصغار بمعزل عن هذه الحوادث. وكان هجوم القطعان الفاشية على البلاد السوفيتية في 22 حزيران 1941 ودخول الاتحاد السوفيتي الحرب قد أعطى الحرب طابعاً جديداً، وفي بلادنا ظهرت امكانيات لا باس بها لنشر الادب السياسي التقدمي وبدأت جماهير شعبنا الواسعة تتعرف على الاتحاد السوفيتي والمبادئ الاشتراكية، وبدأ الكثير في المدرسة يقرأ ويناقش تلك الأدبيات. فكان عدنان واحدا من أنشط التلاميذ سياسيا واجتماعيا، ان لم يكن انشطهم على الاطلاق، كان له شأن كبير في بث الوعي السياسي التقدمي في المدرسة، كانت خطبه في المدرسة التي كان يحاول فيها معالجة المشاكل الاجتماعية والى درجة ما السياسية، تثير اهتماماً بالغاً بين التلاميذ وتجعله محل احترام اقرانه ومدرسيه.
لم تكن معالجة عدنان للمشاكل بالخطب وحدها، بل كان يقرن القول بالعمل، وقد عملت معه سوية وهو يقود حملة لمكافحة الأمية في فترة العطلة المدرسية سنة 1944 وكانت اول حملة من نوعها في بلدتنا.
وفي التظاهرات كان عدنان يقف في المقدمة، اشتركت معه مرة في احدى التظاهرات سنة 1946 في الحلة لتأييد الشعب المصري ضد معاهدة بيغن - صدقي ومرة سنة 1948 في بغداد اثناء الانتفاضة ضد مشروع معاهدة جبر - بيغن وفي كلتا التظاهرتين كان عدنان في المقدمة ولا أشك انه كان في مركز القيادة.
وفي ربيع 1946 وكنا في الصف الرابع الثانوي، عملت معه في حلقة ماركسية لا اتجاه حزبي لها، مع بعض التلاميذ لدراسة موضوعات من الأدب الماركسي وكان عدنان لولب الحلقة.
بعد تخرجنا من الثانوية سنة 1947 عرفت عدنان دخل الكلية الطبية في بغداد، وكان آخر لقاء لنا في اثناء وثبة كانون 1948 حيث التقيت به صدفة في احدى التظاهرات في شارع الرشيد وكان عدنان يقف على رأس أحد أقسام التظاهرة. عرفت فيما بعد ان عدنان قد القي القبض عليه بعد اعترافات مالك سيف اثناء حملة الاعتقالات الواسعة ضد الشيوعيين والديمقراطيين اليساريين في خريف 1948 وشتاء 48-49.
وكما يعرف جميع رفاق عدنان في السجن فانه بقي صامداً أمام صنوف الأرهاب الجسمي والنفسي ولم يحن راسه أمام الطغاة حتى خرج مرفوع الرأس من سجنه في صيف 1958 بعد ثورة تموز.
«أنا على أي مجموعة ؟»
فقد القي القبض على عدنان اثناء انعقاد المؤتمر الطلابي الاول في ساحة السباع عام 1948 وأحيل جميع من كان في ذلك الاجتماع الى المجلس العرفي.. فحكم على عدنان بالسجن لمدة عشر سنوات شاقة ومراقبة الشرطة لمدة ثلاث سنوات "كما تشير وثيقة السجن المرفقة" بما فيها سنتان إنفرادي؛ والعقوبة الأخيرة كانت بسبب سؤال وجهه عدنان الى رئيس هيئة المحكمة عندما نطق الحكم على المتهمين قائلا: "من ابو القميص الابيض على طرف اليمين لغاية ابو القميص الرصاصي على اليسار بـ(10) سنوات، ومن القميص الازرق والى آخر واحد بـ(8) سنوات. وهنا توجه المتهم عدنان بالسؤال لأنه بقي في الوسط..! وانا على اي مجموعة؟ هل على (8) سنوات ام على (10) سنوات؟؟ فضجت القاعة بالضحك.. مما أثار امتعاض رئيس "الهيئة" فانتقم من سؤال عدنان المبطن بالسخرية والاستهزاء!! فاجابه بعصبية واضحة انت مع العشر سنوات شاقة ومراقبة الشرطة بضمنها سنتان انفرادي!
وفي تلك الفترة التي قضاها عدنان متنقلا بين السجون؛ من سجن بغداد الى سجن بعقوبة وسجن الكوت ثم اخيرا سجن نقرة السلمان الصحراوي. ولم يذكر احد من رفاقه والذين عايشوه في تلك الفترات اي احد منهم بان عدنان رغم صغر السجن قد حدثت معه محاصصة او تنافر او شجار كالتي تحصل عادة بين السجناء بحكم الحرمان والضغوط النفسية والمعيشية.. الخ.
فالجميع كانوا يذكرونه بالطيبة والتسامح والفكر الواسع حتى انهم كانوا يطلقون عليه "ابو اللحية البيضاء" مزاحاً لانه يتصرف وكأنه شيخ كبير بالسن.. فكان دائماً هو الذي يحاول ان يلطف الاجواء ويبسط الأمور ويحل العقد بموضوعية عالية.
ويذكر الرفيق طيب الذكر زكي خيري عندما كان يزوره في سجنه الانفرادي ويحاول ان يقنعه بان يتلهى ولو بنصف سيكارة "والتي كانت عزيزة جداً للرفيق زكي" ظناً منه ان السيكارة تخفف احياناً... وحرصاً من الرفيق زكي على عدنان بان لا يجلس وحيداً وهو بتلك المرحلة المبكرة من العمر "اذ كان عدنان اصغر سجين في نقرة السلمان" فبالرغم من صعوبة الحصول على السكائر اذ كانت تصلهم مرة واحدة في الشهر مع الزيارات، فان التضحية بسيكارة واحدة لهذا الشاب ليس بخسارة كبيرة "ولكن عدنان كان يأخذ السيكارة ويقسمها الى نصفين ثم يعمل من عود الثقاب اشكالا هندسية مختلفة" فينتهي الوقت وهو يحاول ان يجد حلا لتلك الاشكال الهندسية المغلوقة والمفتوحة!! فيأتي الرفيق زكي في اليوم التالي. ليجد السيكارة وقد قسمت الى نصفين واعواد الثقاب قد تحولت الى مثلثات ومربعات هندسية ناقصة!! والمطلوب من الرفيق زكي ان يكملها.. او ليستعيدها!!
- تذكر زوجة الشهيد عدنان في مذكراتها، فتقول ان حياة عدنان منذ دخوله السجن خريف عام 1948 والى خروجه بعد ثورة تموز 1958 يعرفها الكثير من رفاقه الذين كانوا معه في تلك الفترة وقد اشاروا اليها في مذكراتهم، ولا أريد اعادتها.. فجوهر الرواية هو واحد! ولكنها تختلف في اسلوب السرد والاشارة. فتشير الى ما ترويه والدة الشهيد ابراهيم الحكاك عندما كانت ترافقها في احيان كثيرة للبحث عنهما بعد انقلاب 8 شباط المشؤوم. فتشيد بعلاقتها الوثيقة وتقول: "كنت احسب ابراهيم وعدنان أخوة بكل شيء. فكانت تحسب لهما كل ما هو مسموح بايصاله من الأكل او الملابس.
وكما جاء في مذكرات الفقيد زكي خيري ما يؤكد ذلك. فقد رافق الشهيد ابراهيم الحكاك عدنان طيلة سنوات السجن في (نقرة السلمان) وكانا يعدان النشرة الاخبارية الصباحية بواسطة راديو صغير كان قد ادخل الى السجن، فكانا يذهبان في الصباح الباكر لتحضير الخبز والصمون، ويضعان الراديو تحت العجين وفي الركن المخصص للفرن، يأخذ عدنان بكتابة الاخبار وبخط ناعم جدا على ورق السكائر وكل ما يسمعانه من اخبار ويرجع التبغ الى محله في السيكارة. ويتبادل السجناء اثناء المواجهة علب السكائر التي تحمل ما يدور داخل السجن، اضافة الى النشرة الاخبارية، بأخرى جديدة وبهذه الطريقة الذكية كانت الاخبار تصل الى الخارج وتدخل الى السجن.. والطريقة الاخرى تتم بواسطة خلع كعب الحذاء وتحشيته بحزمة الاوراق الخفيفة المكتوبة واعادة الكعب الى محله، ومن ثم تتم عملية التبادل بالاحذية وبنفس الطريقة.
في ضيافة الصين الشعبية
- بعد ثورة 14 تموز وفي اول وفد طلابي يزور الصين الشعبية، كان عدنان في رئاسة ذلك الوفد، وخلال الزيارة تدعو رئاسة الحكومة في الصين الشعبية ذلك الوفد وتستقبله استقبالا حافلا. ويعلم قادة الحزب الشيوعي الصيني، بان رئيس الوفد الزائر كان من نزلاء السجن الصحراوي (نقرة السلمان) لمدة عشر سنوات، وكان اصغر سجين هناك وقضى الفترة الزمنية بكاملها. ولهذه الخصوصية المتميزة احتفل الرفاق الصينيون وعلى طريقتهم الخاصة، بان يرفعوا نخب اصغر سجين سياسي عراقي.. وهنا يحصل الموقف الحرج بالنسبة لـ عدنان اذ امتدت يده حاملة الكأس الى الوراء وكانت خلفه مزهرية للنبات الطبيعي وبحركة سريعة سكب الشراب داخل المزهرية ظنا منه ان لا احد لاحظ تلك الحركة، ولكن وبدون ان يشعر كان المصور الصحفي الموجود هناك قد التقط له صورة وهو يسكب ما في الكأس داخل الزهرية، فكانت لقطة جميلة جدا ومثيرة للاستغراب لكل من لا يعرف شخصية عدنان وهو الذي لم يجرب التدخين ولا لمرة واحدة في حياته. ومن المؤسف جدا ان الكثير من الصور والوثائق قد اتلفت اثناء غيابنا عن البيت في شباط 1963.
وعن نشاطه الطلابي بعد ثورة 14 تموز تقول رفيقة حياته: عندما كانت تحدث النزاعات الطلابية في تلك الفترة الصاخبة والمليئة بالمتناقضات كان الشخص الذي يقف وسط الجموع الطلابية وبنفس الهدوء المعتاد ليتكلم بلغة ترضي الجميع. وبتلك الرؤية المتزنة ليجد الحلول السريعة والمقبولة من جميع الاطراف من طلبة الجامعة، وكان حضوره مقتصرا على المناسبات وعلى حل المشاكل الطلابية في جامعة بغداد، اذ كان في حينها احد طلبة كلية الحقوق الصف الاول والذي كان نادرا ما يواصل الدوام من الصباح والى نهاية الدوام بسبب مسؤولياته الخارجية الكبيرة والمتعددة! ولغاية تلك الفترة لم تسنح لي الفرصة او اجد السبب لأحدث عدنان عن قرب وجها لوجه انما كنت دائما استمع الى كلماته وخطبه في تلك الاجتماعات الطلابية. فصورته لا تزال ماثلة امام عيني وهو يعتلي المسرح ودون ان يستعمل المايكرفون ليجبر الطلبة على الهدوء والانصات لكل كلمة يقولها وبصوته الواثق والمؤثر ولساعات طويلة. وينتهي الاجتماع والكل راض لكل كلمة قالها. فكانت احدى الرفيقات وهي على ما اذكر اسمها عاملة حيدر سليمان من الصفوف المنتهية تقول عندما ينتهي من كلمته وهو مرتاح من النتائج ومبتسما كالعادة: ها رفيقة رشيت عليهم ماء بارد؟ وبطريقتها المازحة وچماله على الطرفين!" فيجيبها وبنفس روحية مزاحها: يعني ماذا تريدينني ان ارشق عليهم؟
في كلية الحقوق
في تلك الفترة الصاخبة التي اعقبت احداث الموصل وحركة الشواف استوجب حضور عدنان الى كلية الحقوق وبطلب من عميد الكلية في تلك الفترة عبد الرحمن البزاز لحضور لجنة تحقيقية مكونة من بعض الاساتذة برئاسة العميد بسبب شجار حاد ادى الى تشابك بالايدي بين طالبة بعثية في الصف الثالث وهي مسؤولة تنظيم الطالبات البعثيات واخرى شيوعية في الصف المنتهي، لعدم موافقة البعثية التوقيع على عريضة الاستنكار لتلك الاحداث. فكان طلب العميد استدعاء اي طالبة للشهادة شريطة ان لا تكون بعثية لتثبت صحة شكواها من انها لم تكن البادئة بالاعتداء، ولان لهذا الاختيار الفضل الكبير في معرفتي بـ عدنان عن قرب يشبه لحد ما بالامتحان الوزاري للصفوف المنتهية. ففي هذه الحادثة المحرجة لا يمكنني الا ان اقول الصراحة عندما سئلت عن بداية الشجار؟ فكان جوابي مختصرا كان بإمكان رفيقتنا وهي الاكبر سنا ان تخجلها بكلمة واحدة: ان كسر القلم ورميه على الارض لا يليق بطالبة جامعية تحسب نفسها قيادية في حزب البعث". اي لا تستدرج الى اسلوب العنف والمهاترة. خرجت من الاجتماع وانا قلقة جدا فلربما يفسر جوابي لغير صالح رفيقتي، واثناء خروجي من الكلية في طريقي الى البيت، فوجئت بـ عدنان يصعد الى باص المصلحة الذي كنت انتظره ويستوقفني بالسؤال الجدي والمباشر: لماذا لم تقف بصف رفيقتك؟ واذكر جيدا كيف كانت ملامحه جدية وكأنما تنم عن توبيخ او عتاب.. هكذا هو عدنان عندما يتكلم احيانا لا يمكنك ان تقرأ تعابير وجهه هل هو مقتنع ام لا. فاجبته وانا مرتبكة: اعتقد ان جوابي كان يرفع من شأن رفيقتي وليس العكس. ولم اتلق في حينها جوابا من عدنان انما نظر اليّ وصمت. اذ ان وجودي في غرفة الطالبات اثناء فرصة الاستراحة او الانتظار لحين موعد المحاضرة التالية هو احد واجباتي الحزبية اذ كانت غرفة الطالبات في كلية الحقوق تضم اكثرية الطالبات من المحافظات الوسطى والجنوبية اضافة الى قسم كبير من البعثيات. ونادي الطالبة كان محطة للاجتماعات واللقاءات لجميع طلبة الجماعة من خارج الكلية، عليه كنت نادرا ما اذهب الى النادي الا اذا كانت ضرورة لوجودي هناك وبسبب هذا الظرف كنت لا ارى عدنان الا في الاجتماعات التي ذكرتها آنفاً، انما اقتصرت فقط على المكالمات الهاتفية بين حين وآخر وخاصة عندما علم بان علاقة رفيقتي بي بدأ يشوبها الفتور الواضح، فكان هذا يؤلمني ويؤثر في نفسي ولكني شعرت من حديث عدنان في الهاتف بانه احترم موقفي لا بل وشجعني عليه.
بعد فترة قصيرة انقطع عدنان عن زياراته الى الجامعة بسبب الواجبات الحزبية والتزاماته الخارجية، فمن الصباح الباكر مسؤولياته في الصحف المتعددة التي كان يساهم في الكثير من اعمدتها وافتتاحياتها، واضيف الى هذا الواجب حضوره مساء في الاذاعة لتهيئة نشرة الاخبار والتعليق السياسي اليومي الذي كانت تنتظره الجماهير التي يكتظ بها ذلك الكازينو الصيفي عند راس جسر الشهداء - جانب الكرخ. كان عدنان معلقا بارعا في الدفاع عن ثورة 14 تموز ومبادئها وقيمها. لم يكن معلقا بارعا فحسب، انما تجلت براعته في الصحافة وبشكل ملفت للنظر، فحال "دور الاعداد الاولى من جريدة " اتحاد الشعب" في 25 كانون الثاني 1959 كان الشهيد عدنان مع رفاقه من الصحفيين العاملين يكونون فريقا متجانسا جميلاً. فالشهيد عبد الرحيم شريف مع عدنان كانا ثنائيا متناغما ومنسجما الى حد بعيد. فيصفهما الفقيد عامر عبد الله قائلا: كان عبد الرحيم كاتبا موهوبا، واسع المعرفة دؤوبا ومنظما في كل شيء. لم يكن يكتب الا بعد اعداد وتفكير.. نقاط وكلمات يصوغها بعناية دون انفصال او تعجل، كان يستخدم قلم الرصاص والممحاة لعله كان حريصا ان تظل صورة افكاره امامه انيقة منسقة. وعن عدنان نصيره في هذه المهمة الشاقة قال الفقيد عامر عبد الله: " ... اذكره وهو يمارس موهبته المبكرة في المرحلة الاولى من صدور " اتحاد الشعب" فكان يشق طريقه كالسهم الى مصاف اكثر كتاب الصحافة قدرة وموهبة. تدهشك انطلاقاته في الكتابة كانه يستنسخ مادة جاهزة ونادرا ما كان يتوقف او يتمهل او يشطب!! لا بد ان افكاره كانت ناضجة ومنسقة الى اقصى حد! وفي قلمه مرونة عجيبة..!".
وعن الشهيد ابو سعيد تذكر زوجة الشهيد عدنان قائلة: ومن ضمن هذا الفريق المتجانس كان ابو سعيد يجسد لونا آخر بكتاباته الساخرة التي تحمل المغزى المبطن الذي يجبر القارىء ان يصل الى ما يريد ابو سعيد ايصاله... واذكر الى الآن ركنه الخاص في " كلمة اليوم" والتي كان عنوانها " فص الجبن " اذ كانت تلك المقالة القصيرة سببا في اصدار امر إلقاء القبض عليه. اذ فهمها الزعيم عبد الكريم قاسم بانه هو المقصود من تلك الحكاية القصيرة.
كما اذكر تعليقاته المحببة واستغرابه من عدنان عندما سمعه وهو يسأل خطيبته في الهاتف عن عنوان مسكنها ليصحبها معه الى الاجازة التي منحت له لمدة اسبوع واحد يقضيانه في فندق صلاح الدين شمال العراق. فكانت تسمع اجابة عدنان على تعليقات الذي كان يعقتد ان عدنان يمزح مع خطيبته حول سؤاله عن عنوان السكن! فسمعت عدنان يجيبه هل لك ان تقول لي متى يمكنني زيارتها؟ في الساعة الثانية عشرة ليلا عندما يصدر اول عدد من المطبعة، ام في الساعة السابعة صباحاً؟
- كان ذلك اليوم اواخر تشرين الاول 1960، في ذلك اليوم استطاعت رفيقة حياته ان تتعرف عليه عن قرب، وقرب حميم، بعيدا عن كل ما يشغل الفكر في تلك الايام الصاخبة وكأنما تراه لاول مرة اذ لم تسنح لها الفرص الكافية للتعرف اكثر من لحظات قصيرة عابرة. شخص لفه الزمن بسنينه الطويلة بكل حوادثها وهو لا يزال يملك من ذاكرة الاختزال عن تلك السنين وكأن تلك الاحداث جرت بالامس القريب وعندما كنت اوجه له بعض الاسئلة كانت اجاباته مسهبة متسلسلة وكأنما تساله عن اليوم، لا عن سنوات طويلة.. كانت له ذاكرة متوقدة ملمة بكل تفاصيل تلك المرحلة، فتشعر انك امام شخص يبدو واثقا وشجاعا وبريئاً، هكذا وكانما تراه لاول مرة، جسد ناحل، وعينان عميقتان متعبتان، وصوت هادىء ولكنه مؤثر. فكل ما تشعر به ان هذا الشاب الصامت الذي يخترقك بعينين لهما ذلك البريق الذي يجبرك على ان تثق بكل ما يقوله، وسرعان ما تدهشك منه عبارة تنم عن عالم داخلي غاية في الخصوصية والعمق والثراء. ورغم قصر الفترة التي عاشتها معه، كانت تكتشف في كل يوم شيئا جديدا ومميزا، فمن غير الممكن ان تفصل بين غزارة قلم عدنان الصحفي البارع وبين غزارة مشاعره اتجاه من يعيش معه ويشاركه حياته او عمله! فهذه الصفات تظهر لك خلفيته الثقافية العريضة.. عرض السماء التي تضللنا والارض التي نسعى فوقها.. والاهم والاجمل من كل هذه الصفات هو سلوكه اليومي.. فسلوك عدنان في حياته اليومية مع الناس والاحداث يبهرك ويجعلك تقف حائرا لا تعرف كيف تجد تفسيرا لذلك. فحبه واخلاصه للمبادىء التي حملها وهو في تلك السن المبكرة، كان لها الاثر الواضح على مجمل سلوكه العام. فكما يقال الحب معلم لا صبر له، يعلمك ان تكون انت والآخر في آن واحد، والشيء ونقيضه في تجربة واحدة.
- لم تكن الليالي القلائل كالليالي التقليدية والمتعارف عليها..! انما كانت عبارة عن جلسات تثقيفية وتوعوية لشابة قليلة الخبرة في التعامل مع الاحداث الغريبة والتي لا يمكن الا ان تترك بصمات واضحة وردود فعل مختلفة على الذين عاشوها وعانوا منها!
فالحقائق التي رواها عدنان في تلك الايام القليلة، لكي يهيىء هذه الشابة التي ستشاركه حياته على طريقته في معالجة الامور اليومية التي سيواجهانها، تركت لديها الخليط من الشعور بالانبهار والاعجاب والاستعداد التام للوقوف الى جانبه في نضاله لنشر الفكر الذي تبناه منذ نعومة اظفاره، وضحى بسنوات شبابه ومستقبله الدراسي من اجلها! وسرعان ما خضعت للامتحان الاول! اذ لم يكمل عدنان من اجازته سوى اربعة ايام فقط. اذ اتصل رفاقه من الجريدة بالفندق الذي كنا فيه ليخبروه ان يعودوا فورا لان عبد الكريم قاسم سيغلق الجريدة. وهكذا كانت الاجازة الاسبوعية 4 ايام فقط! ألم يثر استغرابك كيف يمكن ان تأتي الصدف دائما معاكسة لهذا الانسان؟ حتى في اسعد الاوقات من حياته القصيرة والقصيرة جداً!
- فالجزء الاكبر من تلك الحقائق التي رواها في تلك الليلة، جعلت منه ومنذ الطفولة شخصية مقاومة للظلم والفساد والرفض التام للخنوع والاستسلام. ويثير استغرابك اكثر عندما تغور في تفاصيل تلك الاحداث، فتسأل نفسك كيف يمكن لشاب مثل عدنان ان يكون بهذا الخلق وهذا الهدوء والكياسة.
وعن نشاطه الحزبي تقول رفيقة حياته:
كان عدنان يتسم بالكتمان الشديد لكل ما يتعلق بعمله الحزبي، لذا فان ما هو معروف عن نشاطه في هذا المجال هو محدود جداً. فاضافة الى مهامه كمسؤول عن لجنة المثقفين في بغداد التي كانت تقود في فترة تموز عمل المئات من ألمع العقول الثقافية العراقية، حيث كان الفكر الماركسي هو المهيمن على عمود الحياة الثقافية للبلد. اضافة الى ذلك انيطت بـ عدنان لطبعه الهادىء الصامت مهمات ذات طبيعة بالغة الحساسية. فبحكم الهاجس الغريب لـ قاسم من القوة الجماهيرية للحزب وما كان يراه قاسم في تخيلاته من خطر قادر في اية لحظة على ازاحته من سدة السلطة، فانه بدأ بمغازلة خصومه الفعليين والذين ذبح بالفعل على يدهم لاحقا بكل خسة مرفقا ذلك بحملة لابعاد الشيوعيين واصدقائهم عن كافة المواقع في الدولة ومؤسساتها المختلفة.
وقد شملت هواجس قاسم تلك الاوساط الفنية والاقتصادية وبعض المدراء العامين والرموز الوطنية التي لم تكن يوما في صفوف الحزب ولكنها تكن للحزب الاحترام وترى في بناء امتن العلاقات معه، شرطا معه، لتعميق المنجزات الوطنية وحمايتها فمن المدراء العامين في وزارة التجارة الفقيد حافظ التكمجي ومن الاقتصاديين الفقيد الدكتور محمد سلمان حسن ومن الفنانين الاستاذ يوسف العاني.
كان عدنان مكلفا بمهمة صلة الوصل بين هذه الفئة من الشخصيات الثقافية الرفيعة وبين الحزب. وكان عدنان يحرص على اللقاء بهم عادة في الصباح الباكر، قبل الذهاب الى دوائرهم واعمالهم لمشاركتهم فطورهم. هذا ما كان يقول عندما يتصل بهم هاتفياً قبل خروجه من البيت، ما هو فطوركم اليوم؟
- بهذه الطريقة السلسة والذكية كان ينجز واجباته الحزبية المتنوعة والكثيرة، وهو من الاشخاص النادرين اذا لم يكن الوحيد من الذين يتملكون افكارهم حتى تتملكهم فيعيشونها بكل صدق واصرار لاثبات ان ما يدعون اليه ليس مثالياً. كان التراب تحت قدميه روحا والهواء شغفا، يحدثك عن جمرة الحق التي لا تحرق! ورجائي من القارئ لهذه السطور ان لا يعتبر ان في وصفي لشخصية عدنان فيه نوع من المبالغة والانبهار لانه صادر من زوجة لا تزال رغم مرور اكثر من خمسين عاما، لا يمكنها السيطرة على دموعها وعلى الألم الذي يعتصر قلبها ويؤرقها لليال طويلة وكأن الذي حدث كان بالأمس القريب! والشيء الذي يواسيني ويريحني هو ما اجده في بعض الرسائل التي استلمها من الاصدقاء والمقربين وهم قلة الباقين على قيد الحياة، فهناك تشابه الى حد كبير في تشخيص ما كان يمتاز به عدنان.
فهذه رسالة استلمتها من الأخ والصديق مظهر حلاوي جاء فيها ما يلي:
"ان الكتابة عن الزميل والصديق والانسان عدنان البراك لا تفيه حقه في سطور قليلة: كان عدنان يتميز بصفات مثالية تظهر عليه بتلقائية صادقة لانها كانت هي طبيعته الحقيقية.. كان واضحا وهادفا صادقا في سلوكياته في العمل وعلاقاته الانسانية.. كان دؤوبا وجادا في عمله ولكن كانت تميزه ابتسامته وهدوئه الدائمين ممزوجين بتواضعه واحترامه لاعمال الآخرين.
اذكر عندما قدمت له نسخة من كتابي المترجم وكان اول انتاج لي اواسط عام 1959 ، قبله مني باهتمام بالغ وبعد عدة ايام هنأني على اول انتاج فكري لي وانا طالب في كلية الآداب جامعة بغداد السنة الاخيرة، وتحدث معي بابتسامته المعهودة وشجعني كثيرا وطلب مني مواصلة هذا الجهد وتطويره. كان جريئا وواضحا في ملاحظاته حول عملنا وبمهنية عالية.
كان عقائدياً ملتزما وبعين الوقت يتميز بمرونته العالية ويحترم آراء الآخرين وفي زمن كان التزمت والتصلب والجمود الفكري ميزات ذلك العهد (1959- 1960) اي قبل 55 عاماً!
كان يتميز بالمبادرة ولا ينتظر ان يطلب منه القيام بعمل.. هذه المزايا لم تعد موجودة اليوم الا نادرا في زمن شريعة الغاب الذي نعيشه اليوم.
يبقى عدنان البراك إسماً عزيزاً ولامعاً".
الجواب من رفيقة حياته :
"شكري الجزيل وامتناني على استجابتك السريعة لطلبي، فقد كانت كلماتك في وصف شخصية عدنان وتعامله مع الآخرين، وكأنك تكتب ما يجول في خاطري على الدوام. منذ فقدته ولغاية يومنا هذا! كم افرحتني كلماتك لانها كانت صادرة من صديق وزميل فلو كانت صادرة من رفيقة حياته لكان التعبير لربما يميل الى المبالغة من انسانة كانت ولا تزال معجبة اشد الاعجاب وفخورة بكل ما تكتشفه يوما بعد يوم من هذه الصفات النادرة جدا في يومنا هذا!
مرة اخرى اشد على يدك متمنية لك الموفقية والنجاح والمزيد من العطاء بهكذا ملاحظات تغني بل وتضع الاصبع على كل الخطوط السوداء التي تظهر امامنا كل يوم، وترجع بنا الى الظلام والتخلف .. فكل صوت وكل كلمة مضيئة يمكنها ان تنير ولو جزءاً قليلاً من دروب الظلام المتزايدة في هذه الايام".
لم تمض فترة قصيرة على عودتنا من اجازة الـ 4 ايام في الشمال، حتى صدر أمر إلقاء القبض على عدنان بتهمة ملفقة وهي قيادة التظاهرة التي شيع فيها كامل قزانجي عقب احداث الموصل، الامر الذي اضطره الى الاختفاء في مشتمل صغير في الكرادة الشرقية، وسرعان ما تحول ذلك المشتمل الى ورشة عمل تعمل ليل- نهار.
- ههنا كانت الحياة طاهرة، نظيفة، ناشطة.. فقد كنت على اتصال - رغم صغر السن وشح التجربة  بنفوس كبيرة ترفع الروح والجسد مقاما عالياً وفوق كل الماديات. نفوس كان النواح الرقيق المنبعث من صدر الطفل الجائع في احياء العمال القذرة خلف السدة وفي القرى النائية خارج بغداد يعني عندها شيئا اكثر من كل أبهة التوسع المادي والمناصب العالية وما ينطويان عليه من مكاسب ضخمة!
كان كل ما حولها نبالة قصد وبسالة جهد، فكان ذلك المشتمل الصغير المتواضع يضم كل ما ذكرته آنفاً! لكنه في نفس الوقت يخلو من كل شيء، كان عدنان يعتبره ليس ضرورياً! كالوسادة على الكرسي الخشبي ومنضدة الكوي (وهذه الحاجة) تلقيتها كهدية من الشهيد متي الشيخ الذي كان اول شخص يطلق عليه النار صبيحة انقلاب 8 شباط 1963، عندما رآني جالسة على الارض لأكوي قميص عدنان وبدون اي تعليق طلب مني ان اصحبه في مشوار قريب، فنفذت له طلبه في الحال، وكانت دهشتي لا توصف، عندما اوقفني أمام مخزن لبيع المناضد الخاصة بالكوي وكان على ما اذكر قرب?نصب الجندي المجهول، وقال مازحاً: "هذه هدية مني". هكذا كانوا وبهذه الروحية الشفافة والبسيطة..
- كانوا جميعا يفكرون بنكران ذات ويتكلمون بلسان جميل ويقومون بأعمال ماجدة! واذكر منهم الشهيد عبد الرحيم شريف الذي كان دائم الزيارة لنا في ذلك المشتمل، واذكره عندما يدخل ويرى الارضية نظيفة ورائحة التعقيم ظاهرة، يخلع حذاءه ويقول مازحاً: " اولاد الكذا، قابل آني داخل مستشفى"؟ وكان عندما لا يجد وسادة صغيرة ليضعها خلف ظهره على الكرسي الخشبي، يلتفت اليّ قائلاً وبنفس الاسلوب الساخر: لا ادري ما الذي اعجبك به وجعلك تتركين عيشك المترف؟ مشيرا بعينيه الى عدنان، فيجيبه عدنان وبنفس الاسلوب: "عليك بالحاصل..!".
- كان ثمة فوقها كل ما هو بديع ونبيل وخير، كل ما يخلع على الحياة الذوق والكرامة وكل ما يجعل الحياة جديرة بأن تعاش  رغم الكفاف الذي كنا عليه- فكانوا كما وصفهم الرفيق (فهد) يوسف سلمان يوسف "كالثيل الاخضر" كلما أمضت ماكنة القطع فيهم.. زادو عمقاً وكثافة وخضرة ونضارة!
وتواصل رفيقة دربه ذكرياتها فتقول:
بالرغم من السنوات القلائل التي قضيتها مع عدنان الا انه ترك لي كماً هائلاً من الذكريات التي لا يمكن سردها جميعا مرة واحدة! فقد تميز اسلوب عدنان بالتكثيف المقتصد الذي هو غير الاختصار، والتلميح الشفاف الذي هو غير الغموض، والبساطة اللفظية التي هي غير الابتذال، والتهكم الناعم الخافت الذي هو غير الاستهزاء، والكلمة الصادقة التي هي غير الادعاء، وأخيرا الحوار الذي يبرز الفكرة دونما حاجة الى السرد.
كاتب متميز
- هكذا, فمن غير الممكن الانسلال الى روح الانسان ومعرفة كل شيء يفكر فيه.. (هذا ما تقوله زوجة عدنان نفسها).. عندما يتصورها البعض بأنها قد أسدلت الستار على كل ما له علاقة بتلك الشخصية الوطنية النبيلة. فكما يقال ان القلم هو الاكثر بوحاً والاكثر جرحاً.. هذا ما اشعر به الان.. اذ لم يذكر اسم عدنان في الصحف التي كان يعمل فيها ولا حتى اسم مستعار  ما عدا في بعض الاعداد  من جريدة "صوت الاحرار" في الايام الاولى بعد ثورة تموز، كان هناك اشارة (ع. ب) ثم سرعان ما اختفت بسبب تعدد المواضيع والاعمدة لنفس الكاتب وفي نفس الص?يفة.
ورغم غزارة انتاجه في الكتابة وفي صحف متعددة ومختلفة وفي آن واحد.. فقد كنا (عدنان وانا) نؤشرها بالقلم الاحمر على أمل ان اقوم في يوم ما بجمعها في "كتاب واحد" يحمل اسمه اذ كنت اعتبره كنزا عظيماً لا لرفاقه وللصحافة الحرة الرصينة حسب بل لأبنه الوحيد (مازن) أيضا، ولكن كم كانت خيبة أملي كبيرة وألمي أكبر عندما علمت بأنها قد أتلفت!! فقد كان هذا الطلب هو الحلم الجميل الذي كان يراوده دائما.. اذ لا يمكنني الان وبهذه الأسطر المتواضعة ان اعرّف القارئ بعطاء ذلك الرائد الذي ساهم- خلال عمره القصير  في ميادين الادب والصحافة. ومن جملة ما أتلف الكثير من الوثائق والرسائل الخاصة به وبرفاقه المقربين. كذلك فقدت جميع الكتب والمؤلفات الاجنبية الصادرة عن العراق في ذلك الوقت والتي سمح بها لعدنان وبتوقيع وإهداء خاص من الاستاذ "طيب الذكر" (فيصل السامر وزير الثقافة والاعلام في تلك الفترة).
وأذكر على سبيل المثال لا الحصر ما كنت اسمعه من الشخصية الوطنية المعروفة (الفقيد كامل الچادرچي) عندما كنت اوصل اليه ما يكتبه قلم عدنان في ظروف إختفائه، فبعد ان ينتهي من وصاياه لي بالحفاظ على عدنان كما احافظ على حدقة عيني! يريني اعجابه الشديد بما يكتبه عدنان اذ يعتبره من القلة الذين يتمتعون بموهبة خارقة في الكتابة الصحافية وفي المقدرة الفائقة على صياغة اية فكرة باسلوب بليغ جداً وفور الطلب  فكان الاستاذ (كامل الجادرجي) يستطيع ان يميز ما كان يكتبه قلم عدنان في معظم افتتاحيات "اتحاد الشعب" والصحف الاخرى الى آخره من بقية المواضيع المختلفة وفي نفس الصحيفة أحياناً. اذ يعتبره من اكفأ الجنود المجهولين فكرا وقلما، بل اكفأ صحافي في الوطن العربي كله.. هذا نص كلام الفقيد كامل الجادرجي.
- لم يشر أحد من رفاقه الذين دونوا مذكراتهم الى مؤهلات عدنان السياسية الكثيرة - فما عدا الكتابة  كفاءته وامكاناته القيادية التي جعلته موضع ثقة في ادق واصعب المهمات خطورة وكتماناً ومثال على ذلك عمله كحلقة اتصال سريعة بين المقاومين في عگد الكرد ووزارة الدفاع في الثامن من شهر شباط المشؤوم اذ كان يسميه بعض الرفاق "بالإسعاف الفوري" لكل طارئ في تلك الايام الصاخبة.
- ومرة اخرى تشير رفيقة حياته بأسف الى عدم وجود اسم لعدنان ولو كان (مستعارا) ولا كنية نتعرف بواسطتها على ما خطه يراع عدنان وبهذا الكم الغزير!! ففي صحيفة تجد مقالا شيقاً عن اول رجل للفضاء الروسي (گاگرين) في اول ساعة من انطلاقه.. ونجد في صحيفة اخرى تحليلا عميقاً شيقاً عن انتحار الممثلة المشهورة (مارلين مونرو) وعن الاسباب التي دفعت مثل هذه الممثلة التي امتازت بكل تلك الصفات المتعددة الى الانتحار وفي مجتمع كالمجتمع الامريكي. ألم يتبادر الى ذهنك السؤال.. من صاحب هذا القلم المتعدد المواهب؟ فمن جريدة "الاساس" للمرحوم شريف الشيخ الى "صوت الاحرار" للطفي بكر صدقي، الى "الأهالي + الايام" للفقيد كامل الجادرجي.
وتمضي زوجة الشهيد عدنان لتقول:
- لم استطع ان أنأى بنفسي عنه، كان فكري يرتد نحوه، على نحو موصول، كما ترتد ابرة البوصلة الى القطب، فهل هذا هو الحب؟ أم الانبهار؟ أم الاعجاب أم التبجيل معا؟ فكل كلمة اكتبها عن عدنان تحرك في اعماقي الألم الدفين وتتركني أسيرة لتلك الفترة السوداء  الأشهر الاولى لانقلاب الثامن من شباط 1963 المشؤوم والتي قضيتها في سجن النساء. فمنذ اليوم الاول لخروجي من السجن بدأت على الفور أبحث عن عدنان من سجن الى سجن وصولا الى ابعد المعتقلات الواقعة على الحدود العراقية والتي كانت تصنف معتقلات للعسكريين. فكل معتقل يرسلني الى ال?عتقل الآخر، فكان جلاوزة حزب البعث يتلذذون بخداعنا ولا يبالون عندما يقولون.. "ربما هو في معتقل ربما هو في معتقل (ايجثري) فقد نقلوا قسماً من السجناء الى هناك.. وبعد ذلك وبكل استهتار يقولون اذهبي الى الطب العدلي حيث توجد هناك الكثير من الجثث المجهولة.. هكذا وبكل خسة وقباحة.. فكنت ابدأ بالبحث يومياً ومنذ الصباح الباكر في ذلك الصيف اللاهب وتحت اشعة الشمس الحارقة، اذ لم يخبرني أحد في تلك الفترة بانه قد انتهى وبهذه النهاية الوحشية "دفن وهو حي" إلا عن طريق اذاعة "صوت الشعب العراقي" من موسكو وبعد مرور اشهر على ذلك.
وعندما كنت اطلب اللقاء ببعض الرفاق والاصدقاء الذين كانوا على صلة وعلاقة بعدنان وبالرغم من صعوبة تحقيق ذلك، كان من المستحيل ان أحصل منهم على أية معلومة تخص عدنان واستشهاده، إلا بعد مرور سنوات عديدة!
وردا على رسالتي التي طلبت فيها من الرفيق سعدون  الشهيد وضاح عبدالامير  عام 2003 ان يخبرني باي شيء يعرفه عن عدنان لم يستطع ان يكتب لي إلا جملا قصيرة، اذ كان يتحاشى ان يذكر أمامي وبالتفصيل ما يعرفه او سمعه عن عدنان.. وهذا ما ذكره في رسالته:
"اعتقل عدنان بتاريخ 12 شباط 1963 في الكرادة الشرقية، في مسكن مسؤول الشبيبة الديمقراطية (الشهيد حسين هورماني) من قبل الحرس القومي في الكرادة الشرقية / الزوية. والحرس القومي كان (حسان البزركان) وعلى ما أعتقد هو (ابن خالة عدنان) بحسبما قيل لي. وعلمت بعدها بان ابراهيم وسعدون غيدان (وهو زوج بنت خالة عدنان) وحازم ناجي هم الذين قاموا بدفن عدنان وهو حي. في ليلة 8 آذار 1963 في اراضي خميس الضاري- الحصوة، بعد ان مارسوا أنواع التعذيب معه: الكي الكهربائي، قلع الاظافر، تشريح الأذن.. الخ. اخرجوه من قصر النهاية ملفوفاً ببطانيته ونقل معه ابراهيم الحكاك ودفنوهما وهما احياء.
ولم يُسلم الرفيق سعدون الرسالة الي مباشرة! إنما كتب على الظرف: تسلم الى (ارملة الشهيد عدنان) الرفيقة (سهيلة حسن) وحتى الان لم يستطع اي من الرفاق ان يحدثني مباشرة عن أي شيء له علاقة بطريقة استشهاد عدنان!
- اما ما جاء في رسالة الرفيق (باسم مشتاق) فاذكرها ايضا بالنص كما استلمتها:
"ترتجف الاصابع ويهتز القلم ويسقط القلب في دوامة من الحزن والخوف والألم.. كما لا يشبه اي كابوس.. نعم هذا هو كلما أعدت وفي الذاكرة شيئا من تلك الايام والليالي التي عشناها في المسلخ الموسوم "قصر النهاية".
أفتتح مسلخ قصر النهاية في 19-20/2/1963 وزج به المئات من المواطنين وبعد ايام معدودات، وكنت انا موقوفاً هناك، جيء بمجموعة من الشباب وكان بينهم الشهيد (عدنان البراك) الذي تعرض أمامنا لشتى أنواع التعذيب من قبل افراد الحرس القومي وبمساهمة واشراف اعلى القياديين في حزب البعث حينذاك.
وفي ليلة سوداء رهيبة نادوا على مجموعة من الموقوفين كان من بينهم الشهيد (عدنان البراك) ومعه حسبما تسعفني الذاكرة الشهيد (ابراهيم الحكاك) والشهداء (حسين الهورماني) و(فيصل الحجاج) و(خزعل السعدي) و(عبدالخالق البياتي) وآخرون.. واوقفوهم أمامنا وعصبوا أعينهم وقيدوا ايديهم ثم دفعوهم دفعاً الى خارج القصر.. وسمعنا بعد ذلك بانهم دفنوا أحياء).
واليوم يحتم الواجب على كل عراقي غيور ان يعمل على فضح تلك الجرائم البشعة، واعادة الاعتبار الى الشهداء الأبرار، وإنصاف عوائلهم.. بكل ما يقتضيه ذلك من روح وطنية وانسانية.
التوقيع
باسم طالب مشتاق
26/5/2010
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي رسالة الرفيق ابراهيم الحريري:
"ان الكتابة عن الشهيد عدنان عبر صفحات التواصل الاجتماعي لا تعطيه حقه ولا يمكن ان اذكر كل شيء وبالتفصيل..".
"لا تعرفين كم كلفتني الكتابة عن حبيبي (عدنان) والشهداء الآخرين.. فقد أرقت ليالي، بكيت ليالي، وما أزال.. جرح لن يندمل، يزداد غورا مع الزمن. فاي انسان يحمل مشاعر انسانية حقة لا يمكنه ان يكتب كلمة واحدة دون ان يشعر بدموعه تنهال على الورق وقلبه يعتصر وبنفسه يتسارع..".
نص الرسالة نشرت في جريدة "طريق الشعب" في عددها الصادر يوم 27/7/2015 وجواباً على سؤالي عن الاشخاص الذين يعرفهم ويتذكرهم، الذين كانت (لعدنان) صلة بهم.. اجابني "لم يبق إلا واحد من الذين كانت لهم صلة وثيقة بعدنان وأنا اجهل عنوانهم.. "عزيز سباهي ومجيد الراضي".
- هذا كلام رفيق وصديق.. فكيف برفيقة حياته وأم أبنه الوحيد الذي كان يحلم به ليكون ليس أبناً وحسب إنما يكون له صديقاً ورفيقاً قريباً وحميماً ايضا" هذا ما جاء في رسالة الدكتورة (منيرة البستاني).. التي اخبرتني بها ورفضت ان تسلمها الي.! اذ قالت انها موجهة اليّ بصرف النظر عن ان الموضوع يخصك ويخص الجنين القادم.. لا يهم ان كان بنتا أو ولدا.. "فذكرت ليّ بعض ما جاء فيها.. انه يريد هذا الجنين، ويحلم بان يقص له عن حياته منذ الطفولة الى تاريخ معرفته بالألم.. فيحلم بتربيته على الأسس والمبادئ التي كرّس سني عمره لها، يذكرها له وبالتفصيل وهو يمسك بيده ويقطع شارع ابو نؤاس على ضفاف نهر دجلة، وشارع الرشيد الذي شهد التظاهرات التي كان مساهما فيها، وجانب الكرخ الذي شهد ايام طفولته.. الخ من المناطق المحببة اليه..".
كان يحلم بان هذا القادم سيكون ليس إبناً او بنتاً له فحسب، انما صديق قريب وحميم ايضاً!. لم يتسن له تحقيق هذا الحلم الجميل! إنما ذهب ولم يلحق ان يراه حتى ولو مرة واحدة، وللمرة الاخيرة كان في عامه الاول أي بعد ايام قلائل على ذكرة ميلاده الاول يوم 6 كانون الثاني 1962.
وفي رسالة الرفيق والاخ العزيز (فخري كريم) التي تلسمتها منه وانا خارج العراق وبخط يده الجميل اضافة الى اسلوبه المتماسك الرائع في سرد الاحداث آنذاك وتسلسلها بالرغم من حداثة ممارساته الصحفية، فكما سمعت منه مباشرة كان شاباً في بداية عمله الصحفي عندما كان يذهب الى هيئة التحرير "اتحاد الشعب" فكما ذكر في رسالته.. لم تكن له صلة مباشرة بـ(عدنان) انما كان يسمع عنه من بقية الرفاق.. وبعدها بدأت تنكشف له شخصيته التي وصفها في رسالته..
"لم يترك الشهيد (عدنان) انتاجه الغزير في عالم الصحافة اليومية التي كانت تصدر في تلك الفترة، انما ترك إبناً في عامه الاول وزوجة شابة حرصت على ان تجعله يقتدي بسيرة والده الشهيد، لكي يكون إبناً لأب فدى حياته من اجل شعب العراق، وكادحي العراق" هذا جزء صغير من رسالة شقيق عدنان كتب بعضها لي بعد وصولي الى موسكو وهو في براغ.
ترك لزوجته كماً هائلاً من الذكريات التي لا يمكن سردها في صفحات قلائل فيقول: لم يكن (عدنان) رفيق دربي ووالد ابني الوحيد فحسب انما كان استاذي ومعلمي وشريكي بكل شيء، حتى بدفاتر تلميذاتي الصغيرات.. ومفردات دروسي في الجامعة.
فمساء كل يوم ..الثامن من آذار من كل عام  اليوم الذي تحتفل به جميع نساء العالم- هو نفس اليوم الذي أزهقت فيه تلك الروح النقية الطاهرة التي تتدفق حيوية وعطاء زاخراً بكل معاني الانسانية.
- فقدته الثقافة والصحافة وهو لا يزال في قمة عطائه في دنيا الفكر والإعلام.
- كنت قد اخليت المكان الذي أرى، فهيهات أن يخلو مكانك في قلبي! فرغم قصر الفترة التي عشتها مع (عدنان) كانت تتزاحم في رأسي عشرات المواقف الموسومة بالتعقل والسيطرة على الانفعالات في اللحظات الحرجة التي كانت تحدث احياناً كثيرة مع المقربين منه.. فيبهرك هدوؤه وتوازنه! وما تمضي الا سويعات قليلة لتراه وكأن شيئاً لم يكن! فتعجب من سلوك هذا الشاب الصامت، الذي يخترقك بعينين حزينتين لها ذلك الحزن الغامض، الذي يجبرك على ان تثق بكل ما يقوله!
فكما ذكرت سابقاً "الحب يعلمك كل شيء دفعة واحدة".
ففي الثامن من آذار من كل سنة وهو يوم "عيد المرأة العالمي"... كان (لعدنان) شرف الاستشهاد (ولزوجته) قدر الترمل، فما زلت ولغاية يومنا هذا عندما اتخيل (عدنان) كما يصفونه رفاقه غارقا بدمائه ويجيب على جلاديه عندما يطلبون منه ان يعترف! فكان يرد عليهم: أنا رجل فكر وليس لديّ ما اعترف به! وهكذا كان الامر بالنسبة لرفيقه (ابراهيم الحكاك).
- ذهب عدنان الى الابد شهيد المبادئ وشهيد الوطن! فالوطن وحده الذي يملك متى ما شاء حق تجريدك من أي شيء بما في ذلك أحلامك.. ففي العشرين من العمر  في العمر الذي تتزوج فيه الاخريات كان لها (لأم مازن) ان تخلع احلامها، وتخلع شبابها وتلبس الحداد لعشر سنوات، اسماً اكبر من عمرها ومن حجمها!! فلم يتبق لها غير الكتابة - فالكتابة كالحب - هدية تجدها فيما لا تتوقع العثور عليها.. فلا تستغرب ان تجد لدى زوجة الشهيد (عدنان) قصاصات ورق صغيرة كتب فيها ملاحظة، او خاطرة او فكرة طارئة او وصف لشيء قد رآه وترك في نفسه انطباعاً خاصا?..الخ بقلم (عدنان) وبخطه الجميل جداً رغم نعومة الحروف والكلمات وكأنها اصبحت عادة لديه منذ سنوات السجن!
- هناك مقولة تفصح عن ما تشعر به رفيقة مثلي، عندما تشعر بأنها بأمس الحاجة الى ذلك الانسان الذي ترك تلك البصمات الواضحة والعميقة في نفسها ورحل. فكما يقال أن أصعب الاشتياق ان تشتاق لشخص لن تراه ابداً.. ولكن لعلي في سنوات عمري الأخيرة أن أرى بعيني الحلم يتحقق، حلم قوافل الشهداء من كوادر حزبنا الذين تمنحهم الايام فرصة أن يروا بأم أعينهم ما كانوا يحلمون به.
فأجمل هندسة هي بناء جسر من الأمل فوق جسر من اليأس.. هكذا كان (عدنان) يحاول ان يجعل من الحلم حقيقة وبكل ما أوتي من قوة وايمان بالرغم من صعوبة الحياة التي كان يعيشها في شبابه.
* * * *
يقال "ان اكبر التضحيات هي التي لا يمكنك التصريح او التنويه بها " هذا ما كان (عدنان) يكرره أمامي، فاذكره واردده مع نفسي  عندما طُُلب مني ان اترك العمل في "المقر العام للحزب الشيوعي" وأبحث عن عمل آخر بعيداً كل البعد عن المسؤوليات الحزبية  كان ذلك في أوائل السبعينيات- وبهدوء تام، فلم أناقش هذا الطلب رغم استغرابي!! ونفذته حرفياً ثم بدأت أفهم تدريجياً عندما بدأ حزب البعث يضيّق الخناق على الحزب الشيوعي ونواته الصلبة بشكل خاص.
الاضافة  العمل في الشركة الاجنبية:
ومن حسن الصدف التي نادراً ما كانت تحصل معي! كانت الشركة التي بدأت العمل فيها بعد تركي العمل في المقر كانت شركة هنغارية.. فعندما قابلني مديرها في بغداد وبحضور المدير العام للشركة في بودابست.. طلب مني ملء استمارة التعيين التي تحتوي على الكثير من الاسئلة، عرف بأني (أرملة) لرجل استشهد في عام 1963 وسألني في حينها وبكل حذر واهتمام عن اسم الزوج (الشهيد) فاخبرته، وبدأت عملي معهم، وبعد مرور عدة اشهر على عملي في تلك الشركة أخبرني (المدير المسؤول) على (انفراد) والذي كان يزور الشركة بين حين وآخر، قال لي "بان رفاقي في ?ودابست" يطلبون مني ان كان لديّ رسائل او معلومات أريد ايصالها اليهم فهو مستعد! شريطة أن يبقى الموضوع محصوراً بيني وبينه فقط! لا ثالث بيننا مهما كانت صلته بي.. فوافقت وأشعرته بامتناني العميق وإكباري لهذا الموقف النبيل! وبعد مرور اكثر من عام على هذا التواصل، علمت بان الخبر قد أصبح بين اكثر من ثلاثة! فكما يقال السر يبقى سراً اذا بقي بين اثنين فان تعدى ذلك لم يعد سراً.
اضطررت حينها الى ان أترك العمل في تلك الشركة وانتقل الى شركة اخرى عملها في الاساس خارج بغداد، ومكتبها لم يزره أحد على الاطلاق وهذا الظرف اسعدني كثيراً لاني ساكون وحدي طوال الاسبوع.. كما انتقلت وتحسباً لأي طارئ من البيت المشتمل، ذلك البيت الذي كان حافلاً بزواره المتميزين.
كنت اسمع تعليقات من بعض الاشخاص واحياناً حتى من الرفاق، باني "عدت الى جذوري الطبقية" وهذا واضح من تركي العمل الحزبي في المقر (عندما بدأت تحمى الحديدة!) كما يقول المثل العراقي لأ تحوّل الى العمل التجاري الذي لا يقارن بمخصصاتي الحزبية التي كانت بالكاد تسد الرمق! فكانت الشركة التي عملت فيها وكنت عندها فرحة وفرحة جداً بهذا الكلام لأنه كان يبعد عني وعن بيت الشهيد (عدنان) كل ما يثير التساؤل ويجلب الشك.
وبذلك بقي بيت (عدنان) المتواضع محافظاً على تلك الصفة القديمة "الملجأ الآمن لكل ملاحق ومطلوب للسلطة".
فقد أصبح ذلك البيت الى نهاية السبعينيات مقراً للاجتماعات واللقاءات بين الرفاق في الداخل والخارج ولرفاق مجرد ان تذكر الاسم، كان كافياً ان يقودك الى النهاية المحتومة!! واخيراً أصبح بيت (عدنان) يمثل المحطة الاخيرة للكثير من الرفاق وعوائلهم قبيل مغادرتهم العراق.
فاذكر منهم الرفيق (باقر ابراهيم) "ابو خولة" هو وعائلته، والرفيق (جاسم الحلواني) "ابو شروق" والرفيق(سليمان اسطيفان) "ابوعامل" وعائلة الرفيق (عزيز محمد) والرفيق (عبدالرزاق الصافي) "ابومخلص" ولا أدري لماذا لم يشر قسم منهم في مذكراته الى ذلك؟!
اما الرفيقة الشهيدة عائدة "أم علي" فقد كانت تعيش معي في ذلك المشتمل المتواضع، الى ان القي القبض عليها اثناء ذهابها الى منطقة الاعظمية في مهمة للقاء بعض الاصدقاء.. ولا أزال أحتفظ ببعض حاجاتها لغاية يومنا هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* زوجة الشهيد البراك