فضاءات

الحیاة والموت و ظاهرة الخوف من الشیخوخة / د. سامان سوراني

من الملاحظ أیضا أن الکثیرین یتشاکون قصر الحیاة، لأنهم یشعرون بأن أیامهم محدودات، وأن لحظات حیاتهم قطرات في محیط، في حین أنهم یتطلّعون الی الحیاة الطویلة ویطمعون في البقاء المستمر، وفات هؤلاء أنه لیست العبرة بطول الحیاة أو قصرها، بل العبرة بعمق الحیاة أو ضحالتها، وإذا ثمة حیاة تحمل دلالة أو معنی، فتلك هي الحیاة العمیقة الحافلة باللحظات الکبار.
أنا لا أُقاسم رأي الذي یصرّ علی القول بأن الحیاة لا تستحق أن تُعاش وهو لا یرید في قرارةِ نفسهِ سوی المزید من الحیاة. صحیح أن الحیاة لا تخلو من آلام، وشرور، و مخاوف، ومخاطر، وفشل، وعذاب، وشیخوخة، وموت، ولکن کله هذا لم یمنع الکاتب الروسي الکبیر تولستوي (1828-1910) من أن یقول:"ما أمتع الحیاة بین قلوب التي عرفت الحب...ولکن أین الحب؟ إنه في کل شيء حيّ حولي! فأنا أکره الموت، وأکره کل شيء لا ینبض الحیاة." أو قوله بأن "كسب الحياة يكون بخدمة الناس لا باعتزالهم".
ولیس من المستحیل علی إنسان القرن الواحد والعشرین أن ینمي حواسه، ویرهن عواطفه، ویرقي قدراته العقلیة، ویربي فهي نفسه‌ الملکات الیدویة والعملیة، ولکن مثل هذه‌ "التربیة التکاملیة" قد تقتضي منا - أولا وقبل کل شيء- العمل علی إزالة الحواجز التي مازالت تفصل مناحي المعرفة البشریة وعلینا التحرر من الوهم الخادع بأن الأشیاء والذوات تبقی علی ماهي علیه وعلینا القول بأن الحریة، شأنها شأن سائر المسائل. لیست شیئا یکتسب بصورة نهائیة، وإنما هي مراس دائم بقدر ماهي عمل تحویلي متواصل علی الذات والمعطیات.
وربما تکمن الخوف من الشیخوخة في جوهره‌ في تعبیر عن إحساس المرء بأنه لم یستطیع أن یحیا حیاة منتجة، وبالتالي فانه رد فعل یقوم به ضمیر الفرد ضد عملیة التشویه الذاتي التي مارسها في نفسه.
نری في الآونة الأخیرة ثمة ظاهرة غريبة ومستهجنة اخذت في الانتشار في المجتمع الشرقي تستدعي الدراسة وهي ظاهرة إهتمام الرجال وعلی وجه‌ الخصوص السیاسیون منهم بتغییر الشیب بالأسود القاتم، أي تسوید الشعر، من أجل طمس حقیقة معالم الشیخوخة والبحث من دون جدوی عن إكسير للشباب الدائم و أتباع نصائح تجاریة زائفة تساعد علی منع ظهورعلامات الشیخوخة.
من المعلوم بأن الشیخوخة لاتمس الشخصیة، والشخص الذي یحیا حیاة مثمرة منتجة، قبل بلوغه سن الشیخوخة، لن یصاب بأيّ إنحلال نفساني أو أيّ إضطراب عام في بناء الشخصیة، لأن السمات الذهنیة والوجدانیة التي عمل علی تنمیتها في نفسه خلال تطوره‌ الحیوي عبر حیاة مثمرة منتجة لابد من أن تستمر في النمو والترقي، علی رغم من کل وهن جسمي. والشعور بالشیخوخة لدی المرء یقترن في أغلب الأحیان برؤیة صورته في المرآة، وکأن الإنسان لا یهرم إلا من الخارج دون أن یکون قد شعر بذلك من الباطن أو دون أن یکون قد إستشعر ذلك التغیّر في صمیم حیاته الباطنیة. إن رفض الأنسان شهادة المرآة هو في إعتقادي نابع من شعوره بهویته عبر تجاربه الوجودیة السابقة، فیخیل الیه أنه مازال ذلك "الشاب" القوي المتین المتوثب الجبار الذي کان في مرحلة سابقة من مراحل العمر، وکأن من شأن الشعور بالهویة أن یجعله یری نفسه عبر "الذاکرة" لا "المرآة". فالقوة البدنیة أو الجسمانیة لاتخلوا تماما من کل أثر من آثار القوة النفسیة أو الروحیة. والتجربة تشهد بأنه لیس ثمة إنسان - علی ظهر هذه‌ البسیطة - هو بمنجی تماما عن کل إصابة أو فشل. والأشخاص الذین یهرمون بسرعة إنما هم أولئك الذین فقدوا مبررات وجودهم وإن ما یتعب المخلوق البشري ویضنیه إنما هو التکاسل والتقاعد والجمود والرکود، لا الحیاة الملیئة المضطربة، والإنفعالات العنیفة الصاخبة والجهود الشاقة المتواصلة والدراسات الطویلة المستمرة والأعمال المنتجة المثمرة.
أما الحریة ففي نظري لا تعنی سوی فهم الإنسان لنفسه وبذله للجهد الجهید في سبیل الوصول الی ماهو میسّر له‌ بالقوة (والمقصود من القوة، هي القدرة علی تحقیق الذات لا السیطرة).
والإنسان القوي لیعلم إنه لیس مرکز العالم، وإنه لایمثل "المطلق" ولکنه واثق - مع ذلك- من إنه- عن طریق الثقة - بالنفس- أن یزحزح الجبال، وقوة الإنسان نابعة من تواضعه "أو علی حد قول المعلم الیوناني سقراط (469 ـ 399 ق.م) ، إعترافه بنقصه". فالإنسان القوي هو أعرف الناس بنقاط ضعفه وهو أکثرهم إعترافا بعجزه و قصوره، ولکنه في الوقت نفسه أشدهم إیماناً بقوة الصراع من أجل الحقیقة، کما إنه أعرفهم بضرورة العمل من أجل تحقیق المستحیل. وقد صدق الكاتب الروماني وخطيب روما المميز شیشرون (ولد سنة 106 ق.م) قدیما الی حد ما عندما قال بأن "جلائل الأعمال لم تکن في یوم من الأیام ولیدة القوة الجسمیة، أو الرشاقة البدنیة، بل هي قد کانت ولیدة المشورة، والسلطة والخبرة والحکمة الرزینة، وکل هذه‌ المزایا لا تجي‌ء إلا مع الشیخوخة." فنری الفیلسوف الألماني الکبیر إیمانويل كانت أو كانط (1724-1804) یکتب أجل کتبه (نقد مملکة الحکم) في سن السادسة والستین، ویقدم لنا المفکر الفرنسي هنري برجسون (1859-1941)، الذي حظي ابان حياته بشهرة منقطعة النظير، درته الثمینة (منبعا الأخلاق والدین) في الثالثة والسبعین ویطالعنا الفیلسوف الأمریکي وأحد مؤسسي الفلسفة البرغماتیة، جون دیوي (1859-1952)، کتابه الهائل (المنطق أو نظریة البحث) في التاسعة والسبعین وقدم الفیلسوف الكوردي جمیل صدقي الزهاوي (1863-1935) ملحمته الخالدة (ثورة في الجحیم) في الخامسة والستین.
وقد روی عن الرسام والنحات الإیطالي مایکل أنجیلو (1475-1564) أنه رُئی یوما -وکان في ختام حیاته تقریبا- یحث الخطی الی مرسمه، فقال له أحدهم: "الی أین تمض سریعا، وقد غطت الثلوج شوارع المدینة؟" فما کان منه سوی أن أجاب قائلا: "إنني ذاهب الی المدرسة، فلابد لي من أن أحاول تعلم شيء قبل فوات الأوان..!"
وختاماً نقول: لن تکون "إنساناً" إلا إذا عرفت کیف تقضي کل یوم من أیام حیاتك في إجتلاء الجمال والبحث عن الحقیقة والمضي في طریق الخیر والسعي نحو الکمال والتعجب لما في الوجود من أسرار.