فضاءات

قالت لي: الرواية المدهشة تولد من الوقائع والذكريات المدهشة.. / جاسم المطير

لا شيء أروع من السفر. نمتُ على مقعدِ الطائرة بعد ربع ساعة من انطلاقها من مطار امستردام متجهة نحو مدينة سويدية جنوبية. كانت اغفاءة سريعة لكنها ضرورية. نقطتها القصوى 45 دقيقة زودتني بقوة جديدة لترتيب وجودي على ثلاثة مدن سويدية ممتلئاً ، من جديد ، بالحيوية . في مدينة مالمو السويدية عام 1999 ثمة ذكريات جميلة شدتني بسلاسلها واختزنتها، بأعماقي، بحسٍ من البهجة والرفعة والهمة. ذكريات أدبية – سياسية نتجت عن مناسبة أو مناسبات صنعتها أو حظيت بها عن حكايات السفر الطويل على الارض السويدية ذات الالوان المتنوعة، التي تزهو بدأب وانتظام تحت ظلال نظام رأسمالي مستريح . اليوم وجدتُ في أرشيف اوراقي دفتراً صغيراً استأثر باهتمامي دفعني لكتابة هذه السطور لإرضاء نفسي حين أرميها في هذه المقالة أمام عيون القراء.
كنتُ قد تلقيتُ عام 1999 دعوة لزيارة المدينة السويدية الجنوبية الجميلة لإلقاء محاضرة عن صداع الاستراتيجية الامريكية والضجيج الاعلامي وألوان الحماس السياسي للإطاحة بنظام صدام حسين في ضوء (قانون تحرير العراق) المشرع من الكونوكرس الامريكي. حال خروجي من المطار استقبلني الصديق عبد الواحد كرم (ابو حسام) بصحبة أحد رفاقه في منظمة الحزب الشيوعي العراقي بمدينة مالمو وسيارته المتواضعة. افترسني (أبو حسام) بالعناق والقبل وكل وسائل وعبارات الشوق والمحبة بعد فراق عقود من الزمان الدكتاتوري الصعب.
أصرّ أن أكون ضيفاً عزيزاً مكرماً في شقته الصغيرة ، النظيفة ، الأنيقة ، المزينة بالعديد من الاشياء الفولكلورية العراقية . اعتزازاً به وبكرمه وبعمر صداقتنا الطويلة لم يكن بوسعي غير أن امتثل لدعوتهِ . جعلتُ دعوته الكريمة بالمقام الأول بالرغم من عادتي تفضيل السكن في الفنادق اثناء السفر .
في أمسية المحاضرة قدمني باليوم التالي ،الصديق القاص والروائي ابراهيم أحمد المقيم بمدينة سويدية صغيرة تبعد كثيرا عن (مالمو) . جاء هذا الصديق خصيصاً ليضفي شعوراً رصيناً بأهمية الأمسية واستذكار مصابيح العمل الصحفي، القديم و المشترك ، كان قد توقف ضياء تلك المصابيح بيننا إثر ظلام الدكتاتورية، الذي اجبره على مغادرة العراق مبكراً. كانت سويعات جميلة وسعيدة من لقائي بهذا الصديق بعد فراق طوله ربع قرن. كبير وكثير كان الحضور في مدينة تتحدى البرد الشديد والثلج الذي يغطي أرضها فقد احتشد جمع كبير ثم انتهى أمر المحاضرة بمناقشات وافكار الحاضرين ليعقبها احتفال لمزيج من الغناء والموسيقى والكلام الشعري العميق بحب الوطن.
في صباح اليوم التالي كان بدء تطبيق برنامج آخر بالسفر الى مدينة يوتوبوري التي تقع على مسافة قريبة من كوبنهاكن، حيث أمسية أخرى لإلقاء محاضرة عن انتفاضة آذار 1991 . قدمتني السيدة الفاضلة فريال حسين زوجة الصديق الفنان المسرحي سليم الجزائري . كان آخر لقاء معهما في عمان – الاردن قبل ثلاثة او اربعة أعوام من ذلك التاريخ حيث أولمت ،السيدة فريال حسين، مائدة (الباجة البيتية) الغنية بالدهون والطرشي والبصل ، التي صنعتها بمطبخ صغير بشقة بائسة على احدى جبال العاصمة الاردنية الجميلة.. غزت وجبة الطعام معدتي بالتخمة واللذة بدعوة كريمة من سليم الجزائري .
انتهت محاضرة يوتوبوري ومناقشاتها ليعقبها تناول وجبة كباب عراقية، ثم امتد عزف الفنان طالب غالي وغنائه حتى مطلع الفجر. كان وجود الصديق طالب غالي قادما من الدانمارك للمشاركة بفعالية ثمينة اصيلة في تلك الامسية فالتمعت لدينا اعز امنية بتجديد العلاقة والصداقة المتوردة باستمرار النضال المشترك.
في المدينتين ( مالمو ويوتوبوري) وجدتُ أجمل وأوضح واصدق مزايا العراقيين وهم يقلبون بعض صور وطنهم ومعاناة شعبهم بكل وسائل الفرح والكلام والأمل بتغيير مرتقب في الوطن الأم.
بعد العودة من يوتوبوري الى مالمو في ظهر اليوم التالي لمواصلة اقامتي في شقة الصديق عبد الواحد كرم بقليل تلقيت دعوة تلفونية من منظمة الحزب الشيوعي العراقي للسفر بالقطار إلى استكهولم لإلقاء محاضرة فيها . في الصباح التالي كانت وجبة الافطار كبيرة ، متنوعة، سويدية – عراقية مشتركة أعدها بذوق واختيار عاليين (ابو حسام) بنفسه في مقدمتها تشريب الباقلاء بالبيض والدهن.
ليس السفر هو كل شيء. ينبغي أن اتذكر كل إحساس وكل نفع يتردد بالسفر وخلال ساعاته . كان مفرحاً ومحزناً أن اغادر مالمو بتلك السرعة. الشيء المفرح هو أنني سأجد متعة جديدة بلقاء اصدقاء قدامى وجدد . أما المحزن فهو أنني لم اشبع فضولي عن مدينة احببتها منذ الخطوة الأولى . أحببت لقاءاتي فيها مع اناس احبهم لكن سرعان ما غاب الحزن فور تسلقي سلّم عربة القطار المرقمة 875 إذ حالما جلست على المقعد المرقم 33 اكتشفت اشراق علامات ترحيب واستقبال من امرأة جالسة في المقعد 34. امرأة سبعينية بملابس بسيطة زاهية.. ملأ البياض شعرها كله. كان الابتسام مكتظاً بوجهها وبوجه زميلها الجالس قبالتها اما زميلها الاخر الذي جلست قبالته فقد اكتظ الدم بوجهه. كلمات ترحيب المرأة بلغة سويدية لا اعرف منها أي كلمة لكنني تجليت برد التحية بأجمل منها باللغة الانكليزية. صارت هذه اللغة، على الفور، هبة التفاهم بيني والمجموعة طيلة مسافة السفر الطويل حوالي ست ساعات. كان الرجلان يقلبان الصحف بينما وضعت المرأة كتابها جانباً بعد أن طوت صفحة القراءة فيه. اعتبرت نفسي في حظوة فريدة في هذه السفرة حين بدأت السيدة حديثها:
- هل تحتاج إلى شيء .. هل انت مرتاح..؟
- أنا مرتاح .. شكراً لمشاعرك..
بدأ الحديث بيننا سريعا عن حالة الطقس في السويد بعد لحظات من تحرك القطار الكهربائي المتجه بنا نحو العاصمة . كنا نشاهد الثلج يغطي الارض والشوارع والاشجار والسيارات وسطوح المنازل . احسستُ ان الدفء بدأ يستجيب لحاجة صدري ويدي ورجلي مع حركة القطار السريعة. كنا نبقى لحظات سريعة، أيضاً، وجهاً لوجه وكل واحد منا يحاول القيام بتمرين التعريف بنفسه وممارسة المجاملة ،بينما كان يجذبني رؤية الروابي والابنية المرتفعة والشوارع البيضاء والمقابر والاشجار العالية والزهور والتماثيل والنصب الضخمة واشياء كثيرة مليئة بالجمال. كانت المرأة تعلمني بعض اسماء ما نمر به من مواقع جعلتني اتمنى ان اتنفس الهواء النقي خارج عربة القطار للتعرف مباشرة على بعض تلك المواقع .
الحديث بيننا يستمر أحياناً وينقطع في أحيان أخرى وأنا أفرك عيني ربما لأنني وجدت نفسي مسروراً بحلم مستيقظ صحبني في هذه السفرة .
- اسمي جاسم المطير ..أنا من العراق..
- اسمي سارا ليدمن.. ولدتُ في الريف السويدي.
- انا لاجئ سياسي عراقي مقيم في هولندا حملتني إليها غيوم الاوضاع السياسية وغياب الحرية في بلدي وظلم النظام الدكتاتوري. جئت إلى هولندا للعيش في الغربة القاسية. قبل أيام جئت من مقر اقامتي في مدينة لاهاي إلى السويد بهدف اللقاء مع عراقيين مقيمين فيها بعيداً عن وطنٍ يتحكم بسلطته حكام حجبوا الحرية واعتدوا على ابسط مبادئ الديمقراطية.
- أنا سارا ليدمن. روائية. بدأت حياتي مع عائلتي في العيش ببيت صغير وسط غابة كثيفة بالأشجار العالية.. اسمع الصواعق السماوية منذ صغري.. تتراكم الثلوج حول القرية من كل مكان.. ليس في قريتنا دار سينما لكن فيها حانة واحدة..
ضحكتْ بهدوء. واضعة يديها فوق رأسها وهي تنظر إلى عيني بعد اكتظاظ الدم في وجنتيها. ربما لاحظت انتباهي الشديد لحديثها، لكنها استمرت لتقول :
- اكتب في السياسة وعلم الاجتماع والاقتصاد. زميلي الأول مختص بتدريس الفلسفة والآخر سياسي يساري. كنا في عمل مشترك بجامعة مالمو.
- ولدتُ يا سيدتي في مدينة اسمها البصرة . مدينة تاريخية تمتلك خزانة تراثية كبيرة من الادب والشعر واللغة .. تحيط بها الصحراء من إحدى جهاتها والمستنقعات المائية من جهة ثانية والأنهار من جهة ثالثة وباطن ارضها مليء بالثروة النفطية والغاز لكنها أفقر مدينة في العالم.. محطمة بصوت الحروب المتتالية عليها منذ قرون. ليس فيها قطار كهربائي ..يا لسعادتي في هذه اللحظة ايتها السيدة سارا . أنا روائي وقاص وأكتب في السياسة والاقتصاد، أيضاً.. في مدينتي دور سينما مغلقة وحانات تحولت إلى محلات بيع الاحذية..
لم تضحك لكن علامات الاستغراب وضحت على وجهها .
- أوه .. يا للمصادفة السعيدة حقاً..
ظل الحديث متواصلاً بيننا من دون انقطاع. كان الإنسان الروائي والإنسان السياسي والإنسان العامل والإنسان اليساري موضوعاً رئيسياً في احاديثنا المتبادلة. كنتُ اشعر بالاعتزاز وأنا اصغي لأفكارها. احسنتْ كثيرا في أحاديثها عن شكسبير وهوميروس واناتول فرانس وجان بول سارتر ودستويفسكي ومولير وغيرهم .. كان الحديث طيباً جداً ليس فيه غضب ولا توتر ، بل فيه ثقافة وجمال وفضائل، فيه تواضع وصلابة في مرورها على الثورات بدءا من الثورة الفرنسية عام 1789 حتى ثورة الطلبة الاوربيين عام 1968 .سمعتُ من داخلها اصوات تقول أن محن البشرية وآلامها دفعتني أن اكون في صف اليسار السويدي المناضل ، في صف اليسار في العالم كله .
عرفتُ منها أنها كانت طالبة جامعية تفتش عن درب الابداع الروائي وكانت منذ فتوتها تفكر بكتابة رواية إنسانية بمائة فصل .. كانت تمنح نفسها فرصة الحلم بالاطلاع على حياة الناس في العالم الثالث المليء بالصراع والحساسية والكبت وقمع الحرية . حين وجدتْ نفسها قد غاصت في هموم الكتابة الروائية المحلية عن انسان الريف والغابات والمدن السويدية و عن الابناء والاخوان والاجداد وجدتْ سرورها بالتوجه نحو انسان العالم الثالث فقامت بزيارة خاصة بعقل يساري ناصع للتعرف على شعب جنوب افريقيا المناضل الباسل ضد التمييز العنصري وناصرت، كغيرها من كتَّاب اليسار، حركات التحرر في
دول العالم الثالث.
كانت قد تابعت ثورة يوليو في مصر وثورة 14 تموز في العراق كما تابعت جمود الثورة المصرية وانشغالها بالحروب الاسرائيلية وتألمت كثيراً باغتيال ثورة تموز العراقية واعدام قادتها ومناضليها ثم تمهيد الظروف لقيام نظام حكم دكتاتوري انشغل بحروب داخلية وخارجية حوّلتْ مجتمع ما بين النهرين من مجتمع متحرك إلى مجتمع جامد متخلف .
أية امرأة هذه التي التقيتُ بها بمصادفة مقعد الجلوس بجانبها في عربة قطار ..؟ وجدتُها تعبر عن فيتنام بشديد الالم وهي تحدثني عن زيارتها الطويلة إلى هانوي. قالت ما معناه أن الكثير من ضباط وجنود الجيش الامريكي اثبتوا انهم كائنات وحشية من الطبقة الدنيا.. ليس فقط أنهم ارتكبوا أخطاء فاحشة وجرائم كبرى بلا رحمة، بل اثبتوا انهم كائنات شريرة لحماً وعظماً وعقلاً. حين عادت من فيتنام نشرت كتابين عن الشعب الفيتنامي ونضاله من اجل الحرية والتقدم.
اكتشفتُ من حديثها أن الروائي – كل روائي – ينبغي ان يكون متبصراً بكل الأمور ،في كل مجالات الحياة، في مقدمتها الحياة السياسية برؤية علمية – تحليلية عميقة دقيقة. بنظرها أن القراء بحاجة الى القصاصين والروائيين في الاعتماد عليهم لأجل الحصول على فهم أكبر. بنظرها ، أيضاً، ان المهمة الاساسية لكتّاب الروايات البارعين هي معالجة ضعف الذاكرة لدى الناس.
لا أدري لماذا كنتُ أفرك عيني كثيراً في ذلك اليوم . ربما من كثرة تدخين أحد زملائها. حين أخرجت دفتر مذكراتي لتدوين بعض الملاحظات اقترحت ْعلى زميلها أن تستبدل مكانها بمقعده لتكون قبالتي مباشرة . فعل ذلك على الفور كطفل نفّذ أمر أمه.
وضعت مرفقيها على المائدة الصغيرة أمامنا كما لو أنها تشعر الآن بارتياح شديد.
ربما كانت تعتقد أو هكذا فهمت أن على الروائي أن يكتب بمنطق قوي ولغة جذابة عند تفجير الحقائق. كانت تشعر بسرور حقيقي حين تبدا بداية روائية فيها احساس بنوع من الالم الانساني لدى ابطال رواياتها وحين تقول لقرائها في نهاية الرواية انني اشعر بسعادة اكبر حين أولدت موقفاً روائياً محمراً برائحة العيش الافضل والامل الأكبر. الرواية من وجهة نظرها ادراك واع من الكاتب والقارئ لحقيقة معينة مهما كانت صغيرة من حقائق العصر ،الذي نولد فيه ونحيا فيه بحاجات نفسية عميقة . الروائي المعاصر هو ليس فقط انسان لا يعرف اليأس أو الضعف أو الاستسلام، بل هو الحامل الأول للشعلة النضالية التنويرية وراية الكفاح والاحتجاج ضد التقاليد القمعية البوليسية لنضال الشعوب وضد تقاليد الحياة الاجتماعية العائقة لتطور علاقة الانسان الايجابية بأخيه الانسان. مهمة الروائي أن يكشف ويعري الجوانب السلبية والزائفة والمنحرفة في المجال السياسي والاجتماعي . من وجهة نظرها أن الروائي كاتب واقعي ايجابي. أهم شيء لديه هو تقديس الحقيقة المختبئة في اعماق الناس والمجتمع. اشادت بنوع خاص بمسعى الروائي المصري نجيب محفوظ الذي نفذَ بصره إلى واقع الانسان المصري في هذا العصر. كما ذكرت انها قرات احدى روايات عبد الرحمن منيف المترجمة الى اللغة الانكليزية فوجدتُ فيها صورة صادقة عن البيئة التي يعيش فيها الانسان العربي . أخبرتها في الحظة المناسبة أن دار النشر التي املكها في بغداد نشرت قبل مغادرتي وطني وداري أغلب اعمال عبد الرحمن منيف الروائية.
سألتني على الفور:
- هل يعني كلامك انك ناشر أيضاً..؟
- نعم سيدتي .. اسست دار نشر كتب بعد تقاعدي من عملي الصحفي عام 1978 .
- انت صحفي أيضاً..
- نعم سيدتي ..مارستُ مهنتي حتى أثناء وجودي في السجن.
- هل كنتَ سجيناً أيضاً..؟
- نعم كنت سجينا سياسيا .. سجنتُ فترة طويلة في أبشع سجن على وجه الكرة الأرضية يسمونه نقرة السلمان وهو سجن بوسط الصحراء الجنوبية وكنت محرراً في جريدة سرية يومية تصدر داخل السجن بانتظام.
- أوه .. أوه.. أي حياة قاسية ان يعيش انسان واع تحت ارادة القفل والمفتاح ..؟ أي شيء اشد حماقة من الاماكن المقفلة يخلقها الحكام لأبناء شعوبهم اظن ان السجين السياسي يحيا وهو ميت وراء القضبان أو أنه ميت وفكره حي خارج القضبان..
- حقا تقولين يا سيدتي ان الامهات يرتدين السواد حال دخول ابنائهم الى السجون، بل ان الامهات انفسهن يشعرن انهن غدون على موعد قريب مع الموت.. كثيرات من امهات اصدقاء لي توفين بعد ايام قليلة من سجن اولادهن .
- في بلدانكم كما يبدو وقائع خيالية عجيبة .. اخاطب نفسي قائلة ان هذا الواقع مؤسف.
لم يكن يفوتها شيء مما اشير اليه. اخبرتني باعتقادها أن السجون السياسية مظهر واضح من مظاهر العنف ضد الفكر الانساني.. تماما مثل العنف الامريكي الذي شاهدت نتائجه على الشعب الفيتنامي اثناء زيارتها الى هانوي. كما أنها تعتقد ان السجون السياسية وقمع الرأي الاخر هي الحافز الاكبر لرومانسية نضال اليسار العالمي من اجل التطلع الى إنسان حر أرفع وإلى عالم افضل . انها لم تدخل السجن يوما من الأيام لكن صوتها ظل مرتفعا عام 1968 لمطالبة السلطات الفرنسية بإطلاق سراح الطلاب الباريسيين والطلبة المناضلين في براغ المعتقلين ،مثلما اشتركت بمظاهرات الشوارع الى جانب اضراب عمال الفلز في السويد عام 1969 الذي كانوا يطالبون بتحسين اوضاعهم المعيشية حتى غدت في تلك المظاهرات رمزا من رموز اليسار السويدي .
استرسلت بالقول:
- لم اكتب شيئا غريبا في أعمالي. ليست رواياتي غريبة في صورها أو وقائعها أو ابطالها أو اماكنها . لكنني استطعت بروايتي الاولى (مجمع القطران) عام 1953 أن اكتشف طفولتي في الغابات الشاسعة . في روايتي الثانية (أرض التوت) عام 1955 اكتشفت شبابي واندفاعي نحو النور والخير والحرية. لدي بعض من اعمالي غير ناجزة حتى الان افكر استكمالها قبل رحيلي الابدي.. تأخرتُ عن اكمالها لأنني لم اجد ،بعدُ، افكاراً عظيمة تحتاج اليه تلك الاعمال .. احيانا اريد اختبار ذكاءي بالبحث عن بداية جيدة لرواياتي وانظم تربية ابطالها في الوسط والنهاية.. احيانا تتسلسل احداثها بنظام ارفضه لعدم قناعتي.. احيانا اقلّب زمن الرواية رأسا على عقب.. حين أراجعها احيانا اعاقب روايتي بتأجيل كتابة نهايتها إلى حين آخر انتظاراً لفكرة أجمل أو أكثر معقولية وانسجاماً. هذا ما فعلته ايضا بعد زيارتي الى جنوب افريقيا حين كان يلفها ظلام الصراع العنصري ويحيط الناس كلهم في تلك الدولة العنف والموت والقتل حيث تكتظ الشوارع والمزارع بدم الناس الابرياء والمتقاتلين.. تراكمتْ عندي قطرات المشاهد فكتبت رواية (انا وابني) عام 1967 وبعدها كتبت رواية (خمس ماسات).. مع الاسف الشديد انني وجدتُ الملائكة والشياطين في بلد واحد يهتفون النصر.. النصر، ولولا ظهور (المُخلّص) نيلسون مانديلا لكان الاستغلال الشديد يفرز الدم حتى الان.
استمرت قائلة:
- الروائي الحقيقي ينبغي أن يكتشف نفسه.. أن يكشف طفولته وكفاحه، تماماً مثلما على الكاتب السياسي أن يكون ناشطا ذا محتوى مستقبلي كاشفاً تناقضات المجتمع وصراعاته. اعتبر نفسي انني ولدت منذ كتابة رواياتي الاولى كما عرفت ان امرأة ولدت في ساحة الوعي السياسي كنت اشعر بفخر كبير حين اقول لنفسي انا اكتب اذن انا موجودة .. ليس في حياتي الآن ثمة دقيقة واحدة اضيعها من دون كتابة. أكتب في زمان انتصار أو في زمان انكسار.
سألتها:
- انتصار مَنْ وانكسار مَنَ..؟
- اليسار هو موضوع اهتمامي الأول ..اعظم انتصار يساري سويدي هو كل خطوة في انتصار العمال على الرأسماليين السويديين. اعظم انتصار يساري عالمي هو هزيمة الولايات المتحدة الامريكية في فيتنام واعظم انكسار عالمي هو انهيار منظومة الدول الاشتراكية.
ضافت القول:
- هزيمة امريكا من فيتنام هي آخر انتصار يساري عالمي. ليس هناك الآن غير عصر المدّ الرأسمالي العالمي. اليساريون والكادحون يحتاجون الى (مخلّص) كما صورت ذلك في خماسية روائية كتبتها ونشرتها بين عامي 1975 – 1985 تناولت احداثها السويدية في القرنين التاسع عشر والعشرين تحت قيادة بطل الخماسية، الذي يغدو بعيون الجماهير مثلاً اعلى لكنه يتخلى عن مبادئه ويخون الشعب ليصبح تابعا للرأسماليين السويديين ليساعدهم على نهب ثروات البلاد واستغلال العمال والفلاحين. أظن أن كل رواية لا تولد إلا من الوقائع الحادة والذكريات العميقة والمساهمة الفاعلة في اكتشاف أحلام الناس.
ثم أخرجتْ من حقيبة يدها كتاباً قالت أنه صدر قبل شهرين بالسويدية . رواية بعنوان (لحظة البراءة) . وهو الآن تحت الترجمة الى الانكليزية كما اعطتني رقم التلفون والفاكس بمكتب بيتها فقد كان القطار يتهيأ لإنزال ركابه في المحطة المركزية باستكهولم.
اول مرة في حياتي ينمو في داخلي شعور امنية أن هذه السفرة لو كانت أطول بكثير من الساعات الست لكن لكل سفر نهاية ووداع . في استكهولم عدتُ وجها لوجه مع فريق عراقي انتظم لحضور لقاء في جمعية الصابئة المندائيين في اسئلة واجوبة عن الغيوم السود في العراق وعن اشكال التمارين المحتملة لتغيير الاوضاع فيه إذ كان المسار الدولي السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري يهيئ العالم نفسياً لتطبيق (قانون تحرير العراق) بالغزو والحرب ، الذي وجدته الولايات المتحدة الامريكية ملائماً وحيداً للتغيير.
في اليوم الثاني التئم الجمع العراقي بدعوة من منظمة الحزب الشيوعي العراقي في استكهولم بإحدى قاعاتها للاستماع لمحاضرتي، التي قدمني فيها الراحل الدكتور عبد اللطيف عباس وادار المناقشات فيها . كان الحضور مدهشاً ومناقشاته مليئة بالخصوبة الفكرية.
قضيتُ بضعة أيام اخرى بقصد الاطلاع على معالم العاصمة السويدية. وجدتها مصنوعة من تراث معماري ضخم ومن حداثة معمارية مشعة بالعظمة ، كما اطلعتُ على بعض متاحفها وبحيراتها وانهارها .. جميعها اولدت سروراً كبيراً في أعماقي متمنياً أن تكون الحياة قادرة، ذات يوم، على ان تمنح بغداد فرصة أن تكون مدينة طيبة جميلة تنعم بالسلم الاجتماعي والمحبة والحرية .
عدتُ الى لاهاي متكاثراً بالأفكار والراحة والأمل اتمتع بامتياز صداقة افكار الروائية السويدية سارا ليدمن التي حاولت كثيرا متابعة اخبارها بعد أن فقدت رقم تلفونها. ظلت حسراتي مستمرة حتى علمت عام 2010 أنها كانت قد غادرت الحياة قبل ست سنوات ، أي في عام 2004 ، تاركة زاوية من الحزن في قلبي، بعد ان خلفت عندي ذكريات ممزوجة بالنور والامل من خلال لقاء قطار صاعد من الجنوب الى الشمال .
ــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 12 – 1 – 2016