فضاءات

رفعة الجادرجي في المقهى الثقافي في لندن : يضئء الفروقات بين الحرفة والفن / عبد جعفر

في أمسية ممتعة جمعت بين المحاضرة والحوار مع الجمهور، استضاف زبائن المقهى الثقافي العراقي في لندن، يوم 31 آب المعمار والمفكر الأستاذ رفعة الجادرجي في الحديث عن الحرفة والفن.
وفي تقديمه أكد الفنان فيصل لعيبي أن الأستاذ رفعة سيتحدث عن جدلية الدورة الإنتاجية والشكل كصورة ذهنية وكحضور مادي مصنّع، عن الوعي بالوجود وعن تجاوز الملل والخلاص البشري، بجانبيه السلبي والإيجابي . عن السرور المهذب والسرور الفظ ، عن التقليد كأداة للإنغلاق أو أداة للإنطلاق وعن غيرها من الأمور التي تخص حوارية الحرفة والفن.
وأضاف أن بوادر الحداثة في العراق بدأت منذ بدايات القرن الماضي وترسخت أسسها النظرية في أعمال حسين الرحال ، مصطفى علي ومحمود أحمد السيد ، و في كتابات كامل الجادرجي وكذلك في جهود جعفر أبو التمن و يوسف سلمان فهد وهو يقود حزب الطبقة العاملة العراقية ، مع عدم نسيان شعر الزهاوي والرصافي وغيرهم من الشخصيات العراقية التي كانت تدعو للمجتمع المدني والديمقراطي.
لكن الدور التطبيقي لمفاهيم الحداثة ، جاء بعد ان تأسست الدولة العراقية الحديثة وحاجتها الى الملاكات المتخصصة في مختلف الميادين ولغرض تكوين مثل هذه الإطارات ، كثفت الدولة الجديدة من إرسال البعثات الى الخارج ولتهيئة الشخصيات الكفوءة والمناسبة لإدارة ماكنة المؤسسة الحكومية .
ثم قال : لا أظن أن هناك من يجهل دور الأستاذ رفعة ومجايليه في وضع الأسس الحقيقية للحداثة موضع التطبيق في العراق منذ أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. وقد اثمرت هذه الجهود علوماً وفنوناً وآداباً طليعية على مستوى العالم العربي عموماً والشرق الأوسط خصوصاً.
وعقب على إهتمام بعض الفنانين بتاريخ الفن في العراق الحديث والتنظير له قائلا : إن هناك مفكرين ثلاثة فقط في ما يسمى بعلم الجمال أو الأستطيقا وعلم إجتماع الفن أيضاً . و كان هؤلاء حرفيين بالمعنى المهني في تناولهم لمثل هذه القضايا، أي ممارسين لما يحاولون إثباته نظرياً، الأول هو الفنان الرائد والمفكر محمود صبري والذي حاول تتبع علاقة الفن بالمجتمع ودوره في البنية المعرفية ، ولكنه توجه ومنذ عقد السبعينات وما تلاها حتى خسارتنا الفادحة بوفاته في العام الماضي ، الى المادة البحتة الممثلة بالذرة ، تاركاً مشاكل الإنسان الحياتية ومشاغله اليومية ومعاناته ، فانفصلت تجربته الفنية عما هو متعلق بالمشاعر الإنسانية والعواطف وتحولاتها ، الى ما هو مادي بحت فأختفى الإنسان والمجتمع من أعماله التي إستندت على واقعية الكم التي بشر بها منذ سبعينيات القرن الماضي ، اما الثاني فهو الفنان البارز ومؤرخ الفن والناقد شاكر حسن آل سعيد الذي بحث أيضاً في علاقة الفن بالمجتمع والناس، لكنه دخل في عالم الغيب وترك وراءه المسائل التي تواجه العارف داخل مجتمعه. فكانت النتاجات الأخيرة لأعماله منذ السبعينات أيضاً مشابهةً – مع إختلاف وجهات النظر – لما وصل إليه الفنان محمود صبري، في تغييب الإنسان والواقع تماماً، بعدما كانوا من أبرز الفنانين تشخيصيةً في الرسم العراقي . أما الثالث ، فهو الفنان والمفكر الأستاذ رفعة الذي إهتم بالإنسان والمجتمع منذ البداية وحتى هذه اللحظة، وهو لم يذهب مذاهب الفلاسفة الغربيين في تفسير الظاهرة الفنية، بل حاول ان يستفيد من خطواتهم ومبادئهم الأساسية ، ليصل الى موقف جديد نوعاً ما في النظر للفعالية الإبداعية عند الإنسان. إذ حاول ومن موقع فكر ما بعد الحداثة – إن لم أكن مخطئاً - ان يوفق بين مدارس فكرية وفنية متباعدة نسبياً ليشكل عجينة نظرية لفهم جديد للسلوك الإبداعي عند الإنسان.
وبين الفنان فيصل أن أستاذنا رفعة في النهاية ، قدم لنا في كتابه ( صفة الجمال في وعي الإنسان ) النتيجة نفسها التي وصلت إليها صاحبة الحانة في أسطورة جلجامش عند حديثها عن الخلود معه عند عودته خائباً من رحلته العجيبة . حيث تقدم له النصيحة من أجل الاستمتاع بالحياة، لأن الآلهة قد إحتكرت الخلود لها وكتبت على البشرية الموت.
وفي حديثة أوضح الفنان رفعة الجادرجي أن كثيرا من الناس يتردد في طرح السؤال، وهو موقف غير صحيح استورثناه عن طريق التعليم التلقيني، فحتى السؤال الذي نظنه بلا معنى فأنه يساعد على تطوير الموضوع.
وحول موضوعة الوعي بالوجود، الإنسان في مقابل الحيوان، اشار الى أن الحيوان يتعامل مع الوجود والظواهر الطبيعية بموجب غرائزه ، أما الانسان فبعد أن مر بعدة مراحل من أنواع الانسانيات خرج من الغريزة الى الفكر بالوجود ، ثم ظهر الأنسان الذي نحن قبل 170 الف سنة ، وهو الذي مارس الفن وأصبح يفكر وأصبحت له ذاكرة وعاش في مجتمع الصيد وجني القوت. فالفرق بيننا و بين الحيوان هو التذكر والتفكير. ولهذا فالطفل لا يمتلك ستراتيجية التعامل مع البيئة ، لكن لديه امكانيات وهي بحاجة الى تدريب وتشجيع خلال مدة أقصاها السنوات الثماني الأولى من حياته، وألا يبقى شخصية لا تفكر ويطلب التفكير من الجهة الأخرى ويصبح شخصا لا يقود المجتمع نحو الجديد، وإذا اصبح قائدا للمجتمع فانه يقوده نحو القديم لأنه لا يتمكن من معرفة الجديد في الحياة.
وفي تناوله الوعي بالوجود، الملل وعبثية الوجود، اشار الى أننا كبشر نعي وجودنا ونعرف أيضا بأننا سنزول، وهذا الوعي مهم جدا في تاريخ الإنسان فهو الذي دفعه لأن يبتكر المتعة في الوجود من أجل السعادة بأشكال مختلفة، والحقيقة أن الإستمتاع لا علاقة له بالوجود وأنما هو إبتكار من الدماغ حصرا، ويظهر عند الإنسان كغناء ورسم ومسرح وشعر ...الخ، فالشخص أحيانا يمارس المتعة من أجل السعادة فقط، فالبلبل -الذكر - مثلا يغرد من أجل أن يجلب الأنثى، ولكن أحيانا يغرد من أجل المتعة، فنحن نغني ونمارس الجنس من اجل الاستمتاع وليس من أجل الإنجاب فقط .
وتطرق الأستاذ الجادرجي الى جدلية تفعيل الدورة الإنتاجية، مقوماتها ومفاعيلها مشيرا الى أننا نبحث دائما قضايا الفن أو الإنتاج من دون أن نبحث جدلية التفاعل بين المطلب والفكر. فالفكر يتفاعل مع المطلب ، فمثلا الفكر يحول الشجرة الى قطع من الخشب ويحول الخشب الى كرسي و بهذا يؤمن حاجة الجلوس رغم أن هذا الأمر إختزال مبسط للأمر.
وحول دور المصنّع بصفته حرفي و فنان، أكد المحاضر هناك فرق جوهري بين الحرفة والفن، فالحرفي يلتزم بالمرجعية القائمة، والحرفي المتميز يضيف بعض الجزئيات ويضيف بعض الحساسيات في التعامل مع المادة، وقد ظهر الفن لأول مرة في تاريخ البشرية عندما أصبح الفنان حرا، ولكن الحرفة شرط أساس لكل فنان. والذي يدعيّ الفن بدون حرفة متميزة فهو مشعوذ.
وحول قيمة المادة المصنّعة وإمتدادها في الزمن، تحدث الأستاذ رفعة حول القيمة الممتدة والطارئة.، موضحا أن المصنّع يبتكر ثلاث حاجات : الحاجة النفعية، لسد الحاجة مثل طعام وملبس وغيرها أما الحاجة الرمزية فهي للتعبير عن الذات وتميزها ( فكرسي الحاكم، يختلف عن كرسي الموظف) ، فالحاجتان النفعية والرمزية تزولان مع تطور الحاجة والمجتمع، أما الحاجة الثالثة فهي حاجة الإستمتاع وهي لا تزول و تبقى مع الزمن مثل الأعمال الفنية ، التي تنتقل متعتها من جيل الى جيل.
وفي حواره مع الجمهور أوضح الأستاذ الجادرجي أن الحداثة جاءت مع حرية الفن والديمقراطية في التعبير عما يدور بخلد الفنان، وأوضح أيضا أن الحضارة السومرية ظهرت فيها حرفة ممتازة وليست فنون، والفن لم يظهر ألا في الأمبراطوريات، مشيرا الى أن الإبتكار دائما وبالضرورة نتاج فكر فرد، لكن المجتمع يهيء للفرد الظروف في أن ينطلق. كما تناول دور الأديان ووظيفتها والتدين والمعرفة، مؤكدا أنه لا توجد معرفة اذا لم تبحث في مادة معينة والعقل لا يعالج قضايا لا يدركها.