فضاءات

"اللومانتيه" قرية العالم!(1- 2)/ ابراهيم الحريري

خيام...خيام...خيام! خيام من اقصى مكان في العالم، من منظمات و حركات و احزاب لم تسمع بها. رغم سنيك الثمانين التي قضيت اكثرها، كصحفي و كشيوعي، في متابعة الحركات التقدمية و الثورية في سائر ارجاء ارض.
بدا لك ان عيد اللومانتيه، صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي منذ اوائل القرن العشرين، انما تعيد رسم خريطة العالم ليس كامتداد جغرافي، بل كجسد حي تمتد داخله و تنتشر الحركات التقدمية و الثورية و تغذيه، و ان في القلب منه، اللومانتيه، بكل ما تمثله من تاريخ، ليس الشيوعية الفرنسية، فحسب، بل فرنسا الثورية، فرنسا الثورة الفرنسية، التي دقت اجراس ميلاد مرحلة جديدة من تاريخ العالم، فرنسا الحرية و العدل و المساواة، فرنسا المارسيلييز و هي ، ايضا، باريس متاريس ثورة 1848 التي حكى عنها فيكتور هيجو في ملحمته الرائعة،" البؤساء"، و هي كانت واحدة من مصادر نقافتك، مطلع فتوتك، مثل " الأم " لمكسيم غوركي واحدة من اروع ملاحم الأدب العالمي، التي تتلمذ عليها ملايين الثوريين منذ عقود، وهي بعد كل شيء بل ربما قبل كل شيء، باريس الكومونة، عام 1870، التي اقامت اول سلطة للعمال و الكادحين، في العالم، تعلم من دروس انتصارها و اخفاقها، ملايين يو الثوريين في سائر ارجاء الأرض، و كانت واحدة من مصادر الألهام الأساسية لثورة أكتوبر عام 1917.
و مثلما اهدت الثورة الفرنسية "المارسيلييز" للعالم اهدت الكومونة نشيد الأممية، الذي ما يزال نشيد "الشيوعية" في كل مكان، و ما يزال...
اعلم ان الزمن غير الزمن غير الزمن، لكن التاريخ يبقي ذات التاريخ، لا يمكن الغاؤه، الا اذا اريد لنا ،و للتاريخ، ان ينسى تاريخه.
في واحدة من خيام "قرية العالم" كانت خيمة "طريق الشعب".
حركة دائبة، رفيق يعد اسياخ الكباب،آخر يحمي مقلاة الفلافل، اواني السلطات تروح و تجيء، زوار يفدون من كل صوب يمكثنون، لحظة قد تمتد، يغادرون على موعد "الزفة "في المساء، روائح الكباب و الفلافل و الشاي المهيل يتحلب لها ريق العابرين، يتوقفون، يلف لهم القيمون لفة بعد ان- طبعا- يقبضون!
و يظل الرفيق الذي يكسو الأسياخ باللحم المتبل، يشيش و لا يتعب، كانه خلق لهذه الحرفة المساء يقترب، فرقة بابل الموسيقية تهيء مسرحها، تهيء ادواتها، تجلو حناجرها...
...بانتظار الزفة!
قرية اللومانتيه باريس
صباح 10 ايلول 2016
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عيد اللومانتيه (2).. عيد الفرح ... والبزخ!
كانت عقارب الساعة تدنو من الثانية عشرة من مساء العيد. كان العشرات (يبزخون) يرقصون على ايقاع طبلة ستار الساعدي تحت خيمة "طريق الشعب" و عشرات آخرون لم تتسع لهم الخيمة يبزخون في الشارع...
كانت الخيمة تبزخ... والشارع يبزخ، واندفعتُ، انا ايضا، في اللحظات الأخيرة، ابزخ! اهز اعطافي وكتفي (اراد عراقي يبزخ ان يعلمني هز الرقبة! فلم تطاوعني رقبتي!)
كنت ابزخ بكل جوعي الى الفرح، هذا الذي غادرني منذ زمن، ذلك ان عيد اللومانتيه هو عيدي، عيد "طريق الشعب" ومن قبلها "اتحاد الشعب" عيدي، انا ابنها، ربيت، تعلمت أن "اقرأ" و ان اكتب، باسم الناس ومن اجل الناس، في احضانها.
كنت اعاين الى النخلات السامقات، الفتياّت، الجميلات تهتز، فتهتز اعطافها واعذاقها، وتهتز الأرض والشارع.
كنت افكر: ما الذي يجذب الناس الى خيمتنا (والى كل الخيم الأخرى)، في اليوم الثالث، الساهر، الأخير، من ايام العيد؟
هل هو صوت كريم الرسام الريفي العذب؟ هل هي اصابع شهد جمال، الحساسة، تستنطق الجوزة، اجمل الآلات الوترية العراقية، واكثرها عذوبة؟ هل هي طبلة ستار الساعدي، المجنونة، التي، ما ان تنفلت وتضج، حتى ينفلت الراقصات والراقصون ويضجون؟ هل هي الإيقاعات والأصوات العذبة، الرائعة، للأغنية البغدادية ايام عزها وعز بغداد، التي حملتها، من الدنمارك، فرقة بابل؟
هي كل ذلك، بالتأكيد، وهي قبل كل شئ، الرغبة في الفرح، بل الجوع الى الفرح، في عالم مضطرب، متوتر يجري اغتيال الفرح فيه (في العراق خصوصا) كل يوم، بل كل دقيقة، من قبل جلادين، ومعدومي الضمير. و ما اكثر ومن اشد جوعا من العراقيات و العراقيين الى الفرح، لكن متى الفرح، متى؟
ومَنْ اكثر من الشيوعيين واصدقائهم في العراق، في باريس، في كل شوارع وحارات، اناس العمل، دفاعا عن حق الناس في الفرح، في الحياة الحرة الرغيدة؟
ذلك لأنهم يحبون الحياة - لا الموت - يبشرون بقيمها ومسراتها وليس بقيم او احزان تبهظ كاهل الناس وتضيف الى تعاستهم...
ذلك لأنهم صناع الأمل والفرح...
عيد اللومانتيه باريس
صباح 11 ايلول 2016