فضاءات

"علي الوردي في ملفه الأمني" السلطة والثقافة.. ثنائية القطيعة / كاظم غيلان

لم يأت الجهد الذي بذله الكاتب سعدون هليل في كتابه الوثائقي القيم ( علي الوردي في ملفه الأمني) والصادر عن "دار سطور" الا تأكيد لإنجازه النبيل وكشفه المستور في ما آلت إليه حياة عالم الاجتماع العراقي الكبير الراحل علي الوردي (1913-1995) وما عصفت به من أحداث مقرونة بالوثائق، في حياة هذا الرمز الذي كرس جهده المعرفي لدراسة وتحليل الشخصية العراقية عبر ثنائية القطيعة بين طرفي السلطة والثقافة.
الكتاب بصفحاته التي بلغت(200) صفحة من القطع الوسط فضح مدى دونية الحكومات التي عوم لبها الوردي، لا سيما وأن معظمها قد صدر عن دوائر أمنية مخابراتية أخضعت هذه الشخصية بمجمل تفاصيل حياتها للمراقبة القسرية والملاحقة المعلوماتية الراصدة لمجمل سنواته الضاجة بمعاركه المعرفية وتحليلاته الصادمة لطبيعة مجتمعه من سلوكيات وطبقات وطرق تفكير متناقضة حادة. فما من شريحة عراقية الا وأخضعها الوردي لمجهر عقله المتقد الفاضح لكل عيوبها والمادح لمجمل ما تمتاز به من نبل وشهامة.
يثير المؤلف في مقدمة الكتاب سؤاله المتضمن (هل كان علي الوردي شيوعيا؟ً) وقد اختصر أجابته بما قاله الوردي نفسه وبالنص ( إنني لست سياسياً ، ولم أعمل بالسياسة طيلة حياتي ولذلك فهي خالية من القضايا السياسية. كل ما فيها قضايا نفسية واجتماعية وفكرية). كما ويشير من وجهة نظره كعالم اجتماع إلى إن(الماركسية ليست نظرية فقط، بل هي حركة اجتماعية أيضاً بحاجةالى أتباع يلتفون حولها ويناصرونها). وهذا تأكيد على انحياز الوردي إلى الفكر العلمي التقدمي الانساني وموقفه المعارض لكل أعداء الحرية والمعرفة، التي نبش في قاعها منذ بداية نضجه.
يوضح المؤلف في مقدمته موقف الوردي من الحضارة بحدود مجتمعنا العراقي، اذ يرى ان (الكثيرين في مجتمعنا متحضرون بظاهرهم، ولكنهم بدو في الباطن). وهذا ماعرف عنه مسبقاً في أغلب تحليلاته الشخصية العراقية وازدواجيتها النفسية والحضارية.
يتصدر الكتاب العديد من الموضوعات التي نشرها العلامة الوردي منذ نشأته مثل ( الأحداث التي مررت بها ) مشيراً الى العلاقة بين أسطنبول والكاظمية و(عهد السقوط وأولاد الساقطين 1917) كاشفاً عن عقلية الفرد العراقي في خضم أحداث تلك الفترة بايجابياتها وسلبياتها وبالوقائع التي عاشها وكيف أنقسم العراقيون حول(بدعة الكهرباء). كما يتناول حياة الأمير فيصل الأول ومراسيم تتويجه وفاجعة موته المبكر التي عزى ابرز أسبابها الى معاناته من سياسة الانكليز. كما يتناول موضوعات الوردي الذي اسهب في عرض محطات حياته منذ نشأته وتعلمه حتى تخرجه الاكاديمي، وما تخللها من صراعات دينية واجتماعية.
الملف الأمني الذي هو ثيمة الكتاب ودسامته، شغل الجزء الأكبر ومن الصفحة(87) إلى نهاية الصفحة (193) وقد بدأه منذ العام 1950 وأبرز البيانات المنادية بحرية الفكر التي وقعها الوردي الى جانب العديد من أعلام الفكر والأدب والثقافة والدفاع عن الحريات الصحفية.
ومن الملفت للنظر ان تثبت معلومات عن علامة بارز مثله في العام 1987 صادرة عن مديرية الأمن العامة وتتصدرها الفقرة (1) التي جاء فيها ( في عام 1950 كان ضمن الموقعين على المذكرة المرفوعة الى رئيس الوزراء بطلب فسخ اتفاقية التسلح الأمريكية ورفض التحالف التركي الباكستاني !!) بينما في الفقرة (3) ومن نفس الكتاب يشير بالنص الى انه ( في عام 1960 حضر اجتماع أنصار السلام في نادي العلوية مع فاضل المهداوي وعزيز شريف).
الكتاب وبالجهد الذي بذله الكاتب سعدون هليل الذي عده ضمن انجازات (جمعية أصدقاء علي الوردي) يأتي رداً على الإهمال الرسمي- المؤسساتي لما أنجزه رموز الفكر والمعرفة في الوقت الذي تهدر فيه أموال طائلة على مشاريع فيها من الهشاشه والضحالة ما لا يوصف ويذكر.
إن قراءة دقيقة لمحتوى هذا الكتاب الوثائقي الذي لم يجد الرواج المطلوب- للأسف الشديد- تؤكد مدى القطيعة في ثنائية العلاقة بين السلطات المتعاقبة بمختلف اتجاهاتها والثقافة بوصفها خطاباً معرفياً إنسانيا من شأنه أن ينهض ببنية المجتمع وينير افكاره وتطلعاته.