فضاءات

لندن: الأعلامية فريال حسين ضيفة المقهى الثقافي

وحديث عن شجون وشؤون الأذاعة والتلفزيون العراقيين في زمن كانت فيه "الغلطة بطلقة"
لندن- "طريق الشعب"-خاص
الأحد الأخير من آذار 2017 ، وهو ميعاد كل شهر اعتاد المقهى الثقافي العراقي في لندن على تقديم أماسيه الشهرية والتي بلغ عددها ، مع أمسية ذاك اليوم الـ (62) أمسية والتي أستضاف فيها الأعلامية المعروفة فريال حسين لتتحدث عن تجربتها ورحلتها في أروقة مؤسسة الأذاعة والتلفزيون لمدة دامت 35 عاما .
أستهل الندوة الأعلامي والفنان والشاعر فلاح هاشم بأستذكار قامتين عراقيتين فقدهما الوسط الثقافي في الأسبوع الأخير هما الفنانة المبدعة ،سيدة المسرح والسينما العراقيين ناهدة الرماح والموسيقار المبدع الفريد جورج وأكد انهما باقيان بما أنتجا وأعطيا لشعبنا من فنهما الخالد ولابد من اننا في لندن سنحتفي بهما في أماس لاحقة.
ثم رحب هاشم بزميلته فريال وقال انه زاملها لفترة طويلة في بغداد وتحدث عن تميزها في عملها المبدع سواء وراء المذياع او في ظهورها على الشاشة الصغيرة وتقديمها لعدد من البرامج الثقافية التي يتذكرها جمهورها دائما ودعاها للكشف عن طبيعة عملها لجمهور المقهى في حقبة تاريخية عاشها العراق منذ سبعينيات القرن الماضي لاسيما في زمن الصوت الواحد ومصادرة الرأي الآخر في مكان حساس أطلق عليه اعلان الأمسية "أروقة" لكن فلاح دعاه بـ "دهاليز " الأذاعة والتلفزيون .

فريال حسين فاجأت الحضور بأنها لم تسع للعمل بهذا المجال وأنما حدث عن طريق صدفة محضة، عندما صحبت احدى صديقاتها الى مبنى الأذاعة وهناك تعرفت على المخرج الراحل رشيد شاكر ياسين الذي اقترح عليها ان تعمل اختبارا لصوتها وانها وافقت فدخلت الى الأستوديو ،لأن الفكرة استهوتها فقط وكأنها مزحة ، وقرأت نصا من جريدة كانت مرمية على الطاولة ، دون تحضير مسبق ، وعندما خرجت من الأستوديو وجدت في غرفة السيطرة ( الكونترول) عددا من زميلاتها والمخرج المذكور والمدير العام الذي بادرها بالقول:" انت تمتلكين الشجاعة وراء المايكرفون حقا واعتبارا من الغد ستبدأين تدريبا في أقسام الأذاعة وستصبحين مذيعة ناجحة". وذكرت انها بعد ممانعة وأزاء ألحاح زميلات لها قبلت بخوض التجربة.
ولابد من التعريف بضيفة المقهى فهي فريال حسين الشيباني ، خريجة كلية الآداب فرع اللغة الأنكليزية .. وقد عملت في بداية حياتها مترجمة في "مجلتي " و "المزمار" قبل ان تمارس عملها الاذاعي والتلفزيوني.
وتحدث فلاح هاشم عن المكان الذي دارت فيه الأحداث واعطى عنه للحاضرين رسما سينوغرافيا ليقربهم من الصورة.. فرسم خارطة مبنى الاذاعة والتلفزيون في صالحية بغداد.. وقال انه في هذا المبنى والذي دخله في العشرينات من عمره رأى فيه جميع النماذج البشرية .. فيه ناس متعددو الأختصاصات، وفي تلك الفترة سيطر البعثيون على تلك المؤسسة لكنهم لم يكن لديهم كل تلك الأختصاصات فرسموا خططهم لخلق كادرهم ، فاغلقوا معهد الفنون والاكاديمية امام غير اعضائهم ، وشنوا حملة تبعيث قسرية، بالترهيب والترغيب، طالت الكوادر الاعلامية .. في هذا الجو دخلت فريال حسين الى تلك(الدهاليز) المحفوفة بالخطر والريبة وهي التي كانت من عائلة لا تنتمي الى فكر السلطة ثم دعا الضيفة للحديث..
فقالت فريال ان اول ظهورها على الشاشة بسبب فأر .." حين كانت تحضر البث الحي كمتدربة .. وكانت زميلتها سهاد حسن مذيعة البث آنذاك ..وقد اصيبت بالذعر والرعب عندما شاهدت الفأر وصرخت وهربت من مكانها.. فطلبوا مني تقديم المادة بدلا منها وانقاذا للموقف.. فاضطررت لتقديم المادة والتي كانت على ما أذكر مادة للأطفال وطبعا دون تحضير ولم اكن مهيأة أصلا وهذا مما زاد من خوفي ولن أبالغ ان قلت اني كنت أسمع ضربات قلبي .. وتلك كانت البداية الحقيقية ".
ثم أكدت انها واصلت العمل بالاعتماد على نفسها بالتدريب الذاتي ومساعدة زملائها فقدمت اول برنامج لها وكان بعنوان " حروفنا الجميلة " وهو برنامج تعليمي للأحداث نال الجائزة الأولى في مهرجان التلفزيون العربي (لكنها ذكرت :"لم استلم الجائزة كالعادة".) .
ولأنها كانت واسعة العلاقة مع الفنانين التشكيليين وحبها لهذا الحقل الأبداعي قدمت برنامجا متخصصا فيه عنوانه "آفاق الفن" بدعوة من الراحل نوري الراوي وبمشاركته ، وكانت هذه اللبنة الأولى في تقديم برامج لاحقة في هذا المضمار.
أضاف هاشم ان البرنامج التشكيلي الآخر الذي قدمته واعدته الاعلامية فريال هو برنامج "لوحة وفنان" والذي استضافت فيه اكثر الفنانين الرواد وكذلك من الشباب وبلغ الـ(200) ساعة تلفزيونية فكانت عن حق ثروة ترصد كل اعمال الفنانين ..لكنها ضاعت كما ضاع كل شيء في العراق.
ثم تحدثت السيدة فريال حسين عن تجربتها في "لوحة وفنان" فذكرت :" بعد تقديمي للحلقات الأولى لهذا البرنامج ، وفي تلك الفترة كنت تركت التلفزيون لاسباب سياسية.. حضّرت كثيرا لمادة البرنامج وقرأت كثيرا عن سير الفنانين ومدارسهم واتجاهاتهم الفنية .. وكنت شغوفة بهذا الفن .. فكانت اول حلقة مع الرسام الأنطباعي حافظ الدروبي والتي هي آخر لقاء تلفزيوني له حيث رحل عن دنيانا بعد التسجيل بفترة قصيرة..لقد كان البرنامج الوحيد الذي يتم تصويره خارج الاستوديو اذ كنا نذهب الى مشغل الفنان: مرسمه، منحته ،ورشته.. صحيح اسم البرنامج كان " لوحة وفنان" لكنه في الواقع كان يطرح مجمل سيرة الفنان الأبداعية .. كنت ابحث في أرشيف كل فنان .. وفي حلقة الدروبي بالذات كنت قد أعددت الأسئلة والأجوبة مسبقا فقد كنت أذكّر الفنان الذي كان نسي الكثير من نتاجه ومسيرته بفعل الشيخوخة.. اعطت تلك الحلقة انطباعا جيدا عن طريقة تقديمي وقيمها الفنانون ايجابيا فيما عدا الفنان فائق حسن الذي أعلن اعتراضه كوني من خارج الوسط التشكيلي .. وحين التقيته شخصيا جابهني قائلا بالحرف الواحد: " البرنامج جيد ..لكن انتي شجابج على الفن التشكيلي" أجبته انك قلت البرنامج جيد.. وحاججته بخططي في أرشفة نتاج كل فنان وتعريف الجمهور به .. بعد عدة حلقات من البرنامج اتصل بي فائق ليخبرني على موافقته على تصوير حلقة له وهو الذي كان يمتنع عن الحديث لوسائل الأعلام".
أضافت الاعلامية حسين انها حرصت ان تستضيف في كل حلقة ناقدا تشكيليا ليتحدث عن ابداع الفنان الضيف محللا اسلوبه وكان الناقد متعدد المواهب جبرا ابراهيم جبرا ضيفا شبه دائم على البرنامج اغنى بمداخلاته المهمة مادته، علاوة على استضافة نقاد آخرين.
عرضت الأمسية شهادة عن البرنامج على الشاشة الكبيرة لمخرج البرنامج محمد فرحان أرسلها بالصوت والصورة من بروكسل حيث يقيم قال فيها:" فريال كانت دقيقة جدا في اعدادها وتحضيرها لمادة البرنامج ، وهي من المذيعات المثقفات ، وتعطي للتقديم رونقا وأهمية فائقة " وأضاف :"من خلال البرنامج صار المشاهد يعرف اللوحة ، الفنان التشكيلي/ معاناته/ اعماله/ المدرسة الفنية التي ينتمي لها / أسلوبه.. صار البرنامج مطلوبا من المشاهدين لأسلوب فريال المشوق والمفيد في التقديم".
ثم استعرض فلاح سلسلة البرامج التي قدمتها فريال نذكر منها برامج : المكتبة السينمائية ، المجلة الثقافية، الموسيقى العربية ..وأنها التقت خلال مسيرتها بشخصيات مهمة من بينهم الكاتب العالمي البرتو مورافيا ودعا الضيفة لتتحدث عن هذ اللقاء المهم فقالت " ان اللقاء برئيس مجلس السلم والتضامن العالمي مورافيا والذي زار العراق بعد ايران في 1989 اي بعد ان وضعت الحرب العراقية-الايرانية اوزارها وكان يعمل فيلما وثائقيا عما عملته الحرب ..كلفت بمرافقته مع مجموعة التصويرالذي جاءت معه من ايطاليا ..وأجريت معه احاديث ونقلت له معاناة شعبنا جراء الحرب ، لكني حرصت ان يكون حديثي همسا وبحذر شديد ، بعيدا عن عيون النظام.وكان ممتنا لذلك وفعلا عكس كل ذلك في الفيلم الوثائقي الذي عمله " .وتحدثت فريال عن طرفة حدثت لمورافيا حيث كان شيخا في الثمانين، يتوكأ على عصا كسر مقبضها فغضب جدا لأن تلك العكازة رافقته ستين عاما ، لكنه حين مغادرته اهداها المقبض المكسور ولا زالت تحتفظ بها لحد الان وأخرجته من حقيبتها لتريه للحضور.
كشفت الأمسية الأجواء التي كانت يعمل بها الأعلاميون حيث رقابة النظام المشددة وتدخلهم السافر في العمل الأبداعي وعدم احترامهم له وسيادة الفكر الواحد وكتم حرية التعبير وأتت على شواهد بالأحداث والأسماء على ما كان يحدث خلف الكواليس من عسف وجور ذهب ضحيتهما اعلاميات واعلاميون تمت تصفية بعضهم وتعذيب البعض الآخر جسديا ونفسيا واعتقالهم او فصلهم ..وساد آنذاك شعار يرعب الجميع، روج له أزلام النظام هو : "الغلطة بطلقة".
تلك الرحلة التي سردتها الأعلامية فريال حسين القت الضوء على خفايا لم يعرفها الجمهور وهي نفسها كانت احدى ضحايا القمع والأضطهاد حيث فصلت من وظيفتها والقي القبض على زوجها ثم هي نفسها تعرضت للأعتقال والتحقيق والتعذيب بتهم سياسية مفبركة مما أضطرها وعائلتها الى الهجرة خارج الوطن.
وفي المنفى واصلت فريال حسين عملها الأعلامي محافظة على المستوى الراقي للأعمال التي قدمتها وقدم المقهى تسجيلا بالفيديو، كشهادة لمخرج عمل معها هناك، هو المخرج حسن هادي المقيم في السويد حيث قال:" كان لي الشرف ان اكون مخرجا لبرنامج - نوافذ مفتوحة – الذي تعده وتقدمه السيدة فريال حسين" وأضاف:" اشعر برقي الدروس والعبر التي استقيتها من هذا البرنامج الذي من خلاله عملت هذه السيدة على التعريف بالمبدعين (المنسيين) في المنفى وعلى الأخص في السويد ، حيث كنا نصور، فجلت عنهم ما موجود من غبار،واعطت صورة للداخل عن فنانيهم وادبائهم في المهجر..فريال حسين تجربة متميزة في تاريخ الأذاعة والتلفزيون العراقيين".
هذه الأمسية اضافت لفعاليات المقهى الثقافي العراقي في لندن انجازا جديدا لأنه كما هو واضح من العناوين التي يقدمها انه يسعى للأحاطة بمختلف اجناس الأبداع العراقي رغم بعده عن الوطن وبأمكانات مادية شحيحة ومن المفارقة ان تنقطع الكهرباء في القاعة خلال هذه الأمسية وكأنها تحاكي الحالة العراقية حيث العتمة تسود اليوم ، لكن هنا سرعان ما تم معالجة الخلل واستأنفت الأمسية ..وكانت مشوقة والقت الضوء على ما كان يدور في "دهاليز" ماكنة النظام السابق الأعلامية . والتجربة التي قدم فيها فلاح هاشم مسيرة زميلته فريال حسين جديرة بالأهتمام والأستفادة منها فشكرا لهما وللمقهى الثقافي وننتظر المزيد.