فضاءات

كربلاء.. البستان الشيوعي العراقي

حمدي العطار
لا توجد احصائية دقيقة حول مدى نفوذ الحزب الشيوعي العراقي في المدن العراقية ، لكن الشائعات بأن مصطلح (موسكو الصغيرة) قد اطلق على اكثر من مدينة عراقية ، فالبصرة والناصرية وحتى بغداد، كانت تحظى بهذا الامتياز، وليس غريبا أن تكون تضحيات الشيوعي العراقي وأصدقائه ومؤيديه في هذه المدن الثلاث هي الاكثر من غيرها! لكن هناك من يتحدث دائما عن نفوذ الحزب وقوته في المدن الدينية ايضا (النجف وكربلاء والكاظمية).
شاءت الصدف ان أكون ضمن مجموعة من العسكريين الذين وجهت لهم تهمة تنظيم شيوعي داخل الجيش في سنة 1980 ، وهي تهمة عقوبتها الاعدام خاصة وأن هناك وجبة مماثلة قد تم تنفيذ حكم الاعدام فيها تتكون من خمسة عشر عسكريا سنة 1978 ، وأدى هذا التصرف المعادي الى انهيار الجبهة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث، ولم تنجح كل المناشدات الدولية والعربية والاحزاب التقدمية والمنظمات الانسانية من ثني النظام البعثي الدموي للتراجع عن هذا القرار الظالم.
لم تمض سنتان او اقل على تلك الحادثة حتى تم اعتقالنا في الوحدات العسكرية المتعددة لتوجه لنا تهمة تشكيل تنظيم شيوعي داخل الجيش ! ومن المصادفات ان يكون عددنا 31 عسكريا ،وان يتم اعتقال معظمنا في شهر آذار 1980 ،وأن يتم اطلاق سراح معظمنا في شهر آذار ايضا 1981! وقد لا يعرف النظام البعثي بأن في الحادي والثلاثين من آذار تحل ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي .
ومن خلال جهابذة التحقيقات الامنية والاستخبارات العسكرية تم تنظيم ملف بهذه القضية الخطيرة التي كتب ملامحها الدرامية سيناريست فاشل لتتحول (حفلة زواج) في احد بساتين منطقة الحسينية بكربلاء الى مكان لعقد مؤتمر تأسيس التنظيم ، ولتتحول جلسات السمر والترفيه تحت ظلال اشجار الفواكه الكربلائية الى اجتماعات خطيرة وعمل تنظيمي سري للغاية. هكذا تعرفنا على مناضلين أشداء تحملوا التعذيب والترهيب والتهديد بالتصفية ولم يقبلوا بالتهمة للتخلص من التعذيب الجسدي، فلا زلت اذكر الرفيق (فيصل) وصعوبة الوصول الى مكان وحدته – حيث كان يخدم عسكريته في احدى دوائر التجنيد في كردستان- فهو آخر معتقل تم أحضاره الى التحقيق، وأبدى شجاعة واضحة لافشال المخطط الاستخباري بصفته (مسؤول التنظيم). أصر على افادته ولم يغيرها على الرغم من أنه لم ينقذ نفسه وحكم عليه مع مجموعة كربلاء إلا انه على الاقل أنقذ الآخرين الذين لم يحضروا حفلة الزفاف، واجتماعات ليالي السمر!
وتمضي السنون، وبعد أن كنا في عنبر واحد بسجن رقم واحد، وفي غرف ضيقة مظلمة نتسامر ونجعلها بالنقاشات الثقافية والاغاني والنكات والعمل الفني بقدر حجم العراق،وبعد ان كانوا يضعوننا في السيارات العسكرية ليتم نقلنا من معسكر الرشيد الى محكمة الثورة ولعدة مرات، ذهب كل واحد منا في طريق مختلف وبعيد عن الأخرين، حتى شاءت الاقدار أن نلتقي نحن جماعة بغداد (وليد ومجبل وعارف ومحمد ورعد وانا ) عندما كنا نركض بمعاملات شمولنا بمؤسسة السجناء السياسيين، وبذلك كان لنا اتصالات هاتفية بمجموعة البصرة (فريد ومحمود وضياء) وجماعة الناصرية (مهدي وجمال ورعد) والديوانية (عامر وراهي) والمحمودية (احمد العيثاوي) وصديقنا الكردي من السعدية (كامل) وطبعا جماعة كربلاء (حسين وفيصل وحامد وغالب وابو نورس وصالح) وكنا نأسف لموت (ياسين) وصعوبة الاتصال بـ (عبد المنعم) و(تركي). وما زلنا نتذكر كيف فقدنا رفيقنا (صالح) في السجن، ومنذ اربع سنوات ونحن في مناسبة ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي وفي أجواء الاحتفال بها من قبل الشيوعيين ومؤيديهم وأصدقائهم وعلى هامش هذه المناسبة العامة نقوم نحن بالاجتماع في وليمة كنا قد أطلقنا عليها تسمية (وليمة شيوعية). واذا كان هذا التقليد في السنوات الثلاث الاولى قد انعقد في بغداد في احد المطاعم العائمة في نهر دجلة، ففي هذه السنة كانت الوليمة غير شكل، فهي في البستان نفسه الذي كان ايضا متهما معنا وهو عائد للرفيق (حسين) الذي اقام وليمة كريمة ،كانت الشهية في أوجها لأننا تحت الأشجار والنخيل والمساحة المملوءة بالخضار والورد. ومع ضحكات تنطلق من القلب، واستحضار كل الصعوبات بمرح وسخرية. لقد انهزم عدونا الى مزبلة التاريخ وتحولت ذكرياتنا المؤلمة الى أوقات مشرقة بالفرح والترفيه في (وليمة شيوعية بكربلاء المقدسة)
ـــــــــــــــــــــــ
* عن جريدة "الزمان"