فضاءات

أستاذي ورفيقي المغيّب قاسم محمد حمزة الشمري (١٩٤٧ - ١٩٨٣) / عطا عباس

تتلمذت على يديه طالبا في "إعدادية الفيحاء" في صوب الحلة الصغير أوائل عقد السبعينيات المنصرم.
هو من حبب العربية الي، لغة وروحا وأداة للرفض وللبوح، ولو عن مشاعر خبيئة يصعب الإفصاح عنها !.
كنت محظوظا ومندهشا لتحويل مادة الدين والتربية الإسلامية الى "درس" ينتظره طلبة قاسم بلهفة وشوق!.
في "درس" قاسم هذا سمعت أولى أسئلة الحياة الكبرى:
هل أله القبائل الأفريقية النائية، مثلا، شبيه بأله شخص متعبد في الحلة؟ ولماذا ؟!...
ما مفهوم العدل، ولم يسبق الحلم الفعل، ما الجبر وما الأختيار؟ وأسئلة مربكة أخرى...
كان "قاسم" يذرع ممري الصف المدرسي ذهابا وأيابا، هادئا وحازما في آن !...
بقيت أسئلة معلمي عالقة في الذهن، والى الآن، وتفرقت بنا الدروب !...
في النصف الأول من عام ١٩٧٩، التقيت قاسم ثانية...
لم أكن تلميذه المباشر هذه المرة، لكن اعجابي به وتبجيلي له و" خوفي " منه أيضا، لم يكن يخفى عليه...
في هذه المرة، أقتربت منه ندا،لكني في قرارة نفسي لم أكن أمامه الا تلميذا نجيبا متخفيا بزي "فلاح عراقي"، بعد أن ولجت دروب العمل السري نهائيا!...
كنت هذه المرة مكلفا بمهمة محددة من قبل الشهيد، والكادر الشيوعي البارز في منطقة الفرات الأوسط ( كاظم عبيد أبراهيم - أبو رهيب) تتمحور حول امكانية انقاذ قاسم، بأي شكل كان، وسحبه للعمل السري وتدبير أمره لاحقا بطريقة ما...
كان مكان اللقاء بيتا قديما في "حي الجامعين"، غير بعيد عن "حمام الهاشمي"، أن لم تخني الذاكرة، قريبا من شط الحلة. وكان الشهيد قاسم قد خرج للتو من آخر اعتقال مضن له...
لم يغب حينها عن ناظري ما اصاب جسده من وهن وهزال واضحين للعيان.
كان سؤالي الأول والأهم له عن تقديره أن تلقى جرعة من " الثاليوم " أثناء الأعتقال أم لا؟!
وطرحت عليه بوضوح تام رغبة حزبه ورفاقه الملحة بضرورة اختفائه سريعا...
حدّق بي قليلا، مع تعليق مقتضب وابتسامة لا تزال عالقة في الذهن إلى الآن :
"لقد كبرت كثيرا أذن... كم أنا سعيد وفخور بك وبتبادل الأدوار الآن"!...
عاجلته على الفور مستنكرا : اطلاقا، هو توجسنا وخوفنا عليك قبل كل شئ... قد نفقدك غداً... من يدري !...
كان "قاسم" حينها حديث زواج، وطلب وقتا لترتيب وتدبير أمره، لكن ذاك لم يحصل أبدا. فقد عاجله "زوار الفجر" ليغيب نهائيا عن رفاقه ومحبيه، ولنحظَ بوثيقة اعدام، لا غير، تعود الى العام ١٩٨٣، ولو أن العديد من شهود العيان الذين قابلتهم لاحقا وعاصروه سجينا سياسيا، أكدوا لي أن وفاته أبكر من ذاك الوقت بكثير، نتيجة لتعذيب بشع تعرض له جسد "قاسم" النحيل والجميل...
"قاسم محمد حمزة" لم يعمر سوى ٣٦ عاما، وغيابه المبكر مثل خسارة لا تعوض للثقافة العراقية، بل والعربية، كمشروع لناقد أدبي كبير....
كان قاسم متعدد المواهب، ترجمة ونقدا وكتابة وتدريسا.... كان مربيا كبيرا، وكان المسؤول الصحفي لمنطقة الفرات الاوسط للحزب الشيوعي العراقي.
هو في عرف الراحل والناقد الكبير د. علي جواد الطاهر "خليفة" له، وكان يرى فيه مثقفا جادا واضافة هامة للثقافة العراقية الرصينة، وأحد الذين سيواصلون أفضل تقاليدها الديمقراطية، وكان فخورا به الى حدود بعيدة !...
لكن تلميذ " الطاهر " النبه والنجيب غادرنا مبكرا ليترك لوعة غياب أبدية لدى محبيه ورفاقه الكثر...
" قاسم محمد حمزة "... أنت معنا أبدا، معلما ونابذا للخنوع و لمدعي الثقافة... أنت معنا مثقفا موهوبا أصيلا وصوتا للحق، وأنسانا باحثا عن طهارة كلمته وخبزه في آن.
لك المجد وللحزب الذي أنجبك العافية ودوام البقاء...