فضاءات

في أمسية مميزة للمقهى الثقافي العراقي بلندن، سعدي يونس يجسد جميع شخصيات ملحمة "كلكامش" بتقنية الممثل وأدواته بجدارة

لندن - طريق الشعب - (خاص)
المقهى الثقافي في لندن..عراقي بامتياز ، منشغل بالوطن، يحرث في حقوله الثقافية المتنوعة .. وبفضول صحفي أردنا أن نتحرى آلية عمله ،لاسيما اذا عرفنا على أنه يواصل نشاطه منذ ما يقرب سبع سنوات .. هل هو مؤسسة لها كيانها ؟ وهل هناك من يدعمها ماديا ولوجستيا ؟..اجابات لم ترو فضول أسئلتنا الحائرة ، حيث كانت تأتينا الأجابة بسيطة وصريحة أن من يديره ليست مؤسسة ولا كيانا، أنما مجموعة من الأصدقاء يقل عددهم عن عدد أصابع اليد الواحدة ، ويديمون نشاط المقهى دون أي دعم من أي جهة ، ويسعون الى تقديم الأماسي النوعية التي تعكس بحق واقع الثقافة العراقية ومن على مسافة بعيدة من الوطن الذي ينأى.
الأمسية الأخيرة أستضافوا فيها فنانا زميلا لهم مقيما في باريس ، لكنهم حينما أستلموا منه رسالة يرغب فيها المساهمة في جهدهم الثقافي قالوا له باستحياء انهم لا يستطيعون الأيفاء بواجبات الضيافة ، تقع للأسف خارج أمكاناتهم مسألة توفير تذكرة السفر وتكاليف الأقامة ومتطلبات أخرى..وهم يدارون خجلهم كل مرة يتوجهون بدعوة زملائهم من خارج لندن ..لكنهم يراهنون على تفهم ضيوفهم ونجحوا في ذلك ..وفعلا كان ضيفهم الدكتور سعدي يونس بحري كريما فتحمل عبء التكاليف الباهضة وجاء محملا بحقائب ديكورات وأكسسوارات عرضه المسرحي ..وقدم عرضا (بتمويل ذاتي ودون مردود)، عرضا ممتعا لـ"كلكامش"ملحمة بلاد الرافدين الخالدة .
أدار دفة الأمسية السينمائي علي رفيق مرحبا بالضيف الفنان وابتدأ بالتعريف به الى الحضور:
ولد د.سعدي يونس بحري في بغداد في الرابعة فجرا على ضفاف دجلة. ولم يكن يستطيع النوم إلا على أنغام حكايات أمه وجدته. ولم يتردد سعدي في التمثيل في المسرح والسينما والتلفزيون في العراق والعالم العربي وأوروبا حيث يعمل اليوم.                                                                            
عمل في فرنسا مع مخــرجين مثل آريان منوشكين وريمون رولو وحـيـــث اتبع دروس السينما للمخرج جان روش.
و قد قدم العديد من المسرحيات و الحكايات كيوميات مجنون لغوغول و ملحمة جلجامش و ألف ليلة و ليلة و حكايات من جزر أوقيانيا و بنادق الأم كيرار لبريشت ... كما شارك سعدي في العديد من المهرجانات كأفينيون و بياترا نيامتز و بابل و قرطاج ... و شارك في نشاطات شعرية كالشعر له وجه في مدينة كراس الفرنسية و في ربيع الشعر الفرنسي في مدينة بورج و منتدى شعراء المهجر في باريس.                                                            
وهو يحمل منجزا أكاديميا ثريا فقد حصل على ليسانس في الحقوق من بغداد ودكتوراه في الأدب المسرحي الفرنسي من باريس.
يدير حاليا جمعية كلكامش للفنون وللإ بداع الفني مكملا طريقه الذي عشقه و من دون أن يصبح مليونيرا أو وجها إعلاميا تقليديا ...(كما يقول عن نفسه)
عمل الكتور سعدي أفلاما منها:
الطويلة - بستاني الأحلام 63 د. / ترانيم من بلا الأرز 75 دقيقة
القصيرة – حرية – صوّر في تونس / صديقة / حضارة لا تموت ....
من كتبه باللغتين العربية والفرنسية
ملحمة كلكامش – بابل حبي الأزلي – ملحمة العبيد و كلكامش / دار نشر الهارماتان – باريس .
طفل الجزيرة المتوحشة – حكاية/ حديقة معلقة بغيمة حب- شعر / والكتابان مع قرص صوتي / دارنشر البجعة- باريس .
ملحمة كلكامش - باللغة الإنكليزية صدرت عن "سوان وورد" في باريس
ملحمة كلكامش - باللغة العربية عن الهيئة العربية   للمسرح في الشارقة .
بعد هذا الأستعراض السريع عن جانب من منجز الفنان د.سعدي يونس بحري يدعو علي رفيق الحضور بالضرب ثلاث ضربات يقول عنها انها تقليد مسرحي قديم أيذانا ببدء العرض المسرحي .
- ناقوس الخطر يدق
(ضربات صنج ، يضربها بايقاع متواتر ، ممثل العرض الوحيد)
(نلاحظ هنا ان الدكتور سعدي يستخدم المؤثرات الصوتية والموسيقى المرافقة للعرض يجري عزفها حية ومن قبله هو، وبآلات ايقاعية ، ووترية وآلات نفخ ..آلات ليست تقليدية وأنما كما يبدو جرى تصنيعها خصيصا للعرض المسرحي ) فيكون الراوية وفي عين الوقت الشخصية المعينة ومحاورها:
-" وأخيرا أستمعت الآلهة لشكوانا ..ونقلتها الى أسماع "آنو" رب الأرباب..فأذا بكلماته العذبة ..تنسكب رقراقة من قبة السماء اللازووردية "
- ارووووووووررر رووووووووو (صوت ريح عاتية ) : ايتها الآلهة العظيمة .. يقول آد رب السموات ..انت التي خلقت البشر بأمر من أنليل أله المصير الأنساني ..أخلقي الآن من يضاهي كلكامش..فبينما ينشغل الأثنان في الصراع ستجد أوروك أخيرا الطمأنينة والسلام ).
وهنا يتلو الفنان بحري نصا (من الواح كلكامش ) يسرد لنا كيف تستجيب الآلهه آرورو ..فتخلق من طين انسانا وترميه في البرية ، على شاكلة رب السموات ، كمقاتل في جيش اله العواصف ( موسيقى نفخ ابواق ، يؤديها بنفسه)
وهنا يغير الدكتور سعدي من طبقته الصوتية ، وهو في نفس الوقت ينفخ في البوق ، ويخرج أصواتا تعبر عن معركة وصراع. وبذا يستخدم الفنان الممثل كل أدواته وفي آن واحد وفي تناغم مدروس ليؤدي فعلا دراميا واضحا يقرب الحدث بوسائل متعددة تصل الى المتلقي بسهولة .
- "كالمرأة تنطلق جدائل شعري لتشبه في تموجاتها حقول أله الخصب نيسابا عندما تعانقها الريح.. جسده الكثيف الشعر مكسو بجلود خشنة اله الماشية..نعم هو لا يعرف بلدا ولا بشرا..يشرب مع الوحش من الحيوانات وينتشي من الطرب عند مورد المياه."
-"عندما لمحته في مورد المياه ، ثم رأيته في اليوم الثاني وفي اليوم الثالث ..لقد أكتسح مع مجانين الحيوانات كل صيدي ..شلني الخوف وشحب وجهي..وغدا وجه رجل عاد..رحلة طويلة مضنية ..أن قوة هذا المخلوق كفيلة ان تصدق ، جسارته تفوق جسارة جنود السماء..فتحت فمي وقلت كل شيء ..فاذا به يقول لي :
يابني ان قوة هذا المخلوق لا يمكن ان تضاهى.. وجسارته تضاهي جسارة جنود السماء.. اذهب الى كلكامش وأخبره وسيعطيك آنذاك ما يجب عليك ان تفعله".
وهكذا يتابع الجمهور احداث أول أسطورة مكتوبة في العالم يستخدم فيها الممثل سعدي يونس كل تقنيات الممثل المسرحي والأنتقال من الراوي – الحكواتي السارد الى شخصيات الحكاية مستخدما لغة الجسد والأقنعة المتعددة والأزياء المختلفة والأكسسوارات المتنوعة والتلوين في الصوت والألقاء والتأثيرات الصوتية والموسيقى ..الخ ..كل هذا الأداء المتنوع يقوده الممثل الوحيد بمقدرة فائقة وبأنسيابية تجري أمام الجمهورالذي يتابع بأهتمام ويقظة وتفاعل ملحوظ يدل عليه صمت القاعة وتسمر الحضور في مقاعدهم .
ويدوم العرض أكثر من تسعين دقيقة متواصلة.. يحبس الحضور خلالها أنفاسهم ..فتبقى نظراتهم متعلقة بالفنان الممثل سعدي كأن خيطا وهميا يشدهم اليه تميل اعناقهم حيث يذهب ، وهم مبهورون متمتعون بأدائه.. وبانتهاء العرض صفقوا له طويلا ووقوفا .
علي رفيق ابتدأ الحوار مع سعدي يونس بحري عن تجربة مسرح الشارع التي قدمها سعدي للمسرح العراقي بعد عودته من باريس أوائل السبعينات من القرن الماضي والتي جاءت بعد ارهاصات تجديدية في المسرح العراقي منذ بداية الستينات ، فتحدث رفيق عن سعيه مع زملاء له منذ 1964باصدار بيان المجددين وقعه سامي السراج وعوني كرومي وتحسين شعبان وعلي رفيق .. وتحدث عما تركه عليهم استاذهم ابراهيم جلال من تجارب تجديدية.. وذكّر بعروض تجديدية قدمها مسرحيون عراقيون آخرون.
عن هذا الموضوع تحدث د.سعدي بتفصيل عن أهمية التجربة اذ انها كانت تسعى لأن يرحل المسرح الى حيث الجمهور..ففي احياء بغداد الفقيرة وكذلك المدن لا يلعب فيها المسرح دوره الخطير فالمسرح هو مدرسة الشعب الحقيقية: " فكانت البداية في مقهى في شارع السعدون قدمت مسرحية "الأستعراض الكبير " وهو عمل مثله طلبة الأكاديمية ثم تم تقديم نفس العرض في حصن الأخيضر –الموقع التاريخي..وقدمنا عروضا في الأحياء الشعبية وكان تفاعل الناس مع تلك العروض ايجابيا ، وبذا كسرنا ان يكون المسرح حكرا علىجمهور من المثقفين او النخبة ..وواصلنا العروض في ساحة التحرير تحت نصب الحرية وكانت ابرز تلك المسرحيات "الدربونة" التي كانت تناقش مسألة كمب ديفيد والأعتراف بالعدو الصهيوني " وأضاف د.سعدي:" انها كانت تجربة رائدة أثمرت عن حب الجمهور للمسرح وتفاعله مع تلك العروض . . وحتى اني قدمت مسرحية "صوت مصر " في داخل سجن ابوغريب .وعملت جولات لعرض مسرحية "يوميات مجنون" لغوغول في الموصل وفي ساحة ام البروم في البصرة وفي الاردن وامكنة كثيرة أخرى وكانت من أوائل مسرحيات الممثل الواحد (مونودراما) في الوطن العربي ".
في نهاية الأمسية قدم الكثير من الحضور مداخلاتهم وأسئلتهم حول عرض "كلكامش" وأنطوت معظمها على الثناء والأطراء على أداء الدكتور سعدي يونس بحري في تمثيله وشكروا المقهى الثقافي العراقي لأتاحته لهم هذه الفرصة في مشاهدة عرض مسرحي متميز.